الاثنين، 29 ديسمبر 2014

إشكالية الطرح السياسي للإسلام.. قراءة متجددة (2-2) .... الكاتب: نصر محمد عارف

حل علماني في صورة إسلامية!

النقطة الثانية: في ظل هذه الظروف نشأت الحركات الإسلامية، أو نشأت حركات الإصلاح الإسلامي؛ فأصبحت حركات اجتماعية بكل ما لتعبير “الحركة الاجتماعية” في علم الاجتماع من معنى؛ أي إنها بنتُ هذا المجتمع ووليدته. إنها حركات تنطبق عليها صفات أي حركة اجتماعية في أي مكان آخر، تقوم بالإصلاح في ظل معادلة معينة.

فأصبح لا يمكن الفكاك أو الخروج من أَسر الواقع الذي كانت فيه، وهو واقعٌ يُعلي شأن السلطة والقوة والدولة، ويجعل الدولة هي المدخل الأساسي أو المدخل الأصيل للإصلاح الاجتماعي.

وهذه الحركات أخذت في تنظيمها الداخلي صورة المؤسسة الغربية الهرمية؛ من التدرج إلى النظام إلى انسياب الأمر من أعلى إلى أدنى إلى الرئاسة، ثم بعد ذلك أخذت صورة أكثر قسوة وشمولية، وأصبحت حركات مغلقة يترأسها شخص لا يُخلع حتى يموت، ليس فيها انتخابات داخلية أو ديمقراطية، وليس فيها تداولٌ للسلطة أو المسئولية.

أي إنه أصبحت تنطبق على الحركات أو المنظمات الاجتماعية -إسلامية كانت أو غير إسلامية- مواصفات المجتمع الذي تعيش فيه، والفلسفة نفسها التي تحكم المنظمات التي تديرها الدولة، أو المنظمات التي تدار في المجتمع بأكمله؛ بحيث أصبحت حركات يسري عليها القانون الاجتماعي نفسه.

وشيئا فشيئا تحول المجتمع إلى نموذج آخر، حين أصبح النموذج الغربي هو النموذج المسيطر في داخل النموذج كهيكل وبنية، بينما أصبح الإسلام هو المحتوى الذي يقدم البدائل الفكرية -فقط- داخل هذه التنظيمات ذات الطبيعة الغربية؛ فالإسلام ليس أكثر من بدائل داخلية، لكن طريقة التنظيم طريقة غربية. وهذا لا يعني أنها مرفوضة، وإنما يعني أننا ننبه إلى حدوث نوع من الانقلاب الكلي أو التغيير الكلي الذي أدى إلى زحزحة منظومة قيمية معينة، ونسق معرفي ومؤسساتي معين، وإحلاله نسقا آخر مختلفا عنه مكانه.

هذا النسق الآخر هو نسق يقوم على فهم معين للسياسة وعلى وزن معين للدولة وللمجتمع؛ فوصلنا إلى ما يمكن أن يُطلق عليه علمنة للمجتمع وعلمنة للحلول؛ بمعنى أنه حل علماني في صورةٍ إسلامية؛ لأنه يقوم على المعادلة نفسها والمسلمات نفسها، وهي فكرة التنظيم والسلطة والقوة، فكرة السياسة كمدخل أساسي.

الديكتاتورية المبررة!

ومنذ ذلك الوقت أصبحت المسألة مسألة حركات أو منظمات أو جماعات تقوم على محاولة إحداث الإصلاح والتغيير في الدولة بالمنطق نفسه الذي أصبح سائدا في الدولة؛ فلم يُلتفت كثيرا إلى التغيير من أدنى، وإنما التُفت بصورة أكثر إلى التغيير من أعلى؛ التغيير من الدولة، أو من التنظيم السياسي، وبدأنا نشهد مجموعة ضخمة من الظواهر المتناقضة نتيجة وجود نسقين فكريين متناقضين يتعايشان في مؤسسة واحدة: نسق إسلامي كمحتوى فكري، ونسق غربي كبناء تنظيمي وكمفهوم يدير الصراع الاجتماعي أو يتحكم في معادلة الصراع.

إن وجود مفهوم القوة الغربي مع فكرة الشرعية في الإسلام (شرعية الحكم) أصبح يؤدي إلى ظاهرة ديكتاتورية مبررة نضعها في صورة معادلة: (مفهوم القوة الغربي + الشرعية الإسلامية = ديكتاتورية مبررة).

وانتهت الشرعية -سواء كانت شرعية اتساق مع الدين أو شرعية اتساق مع المجتمع، أو رضا اجتماعي- إلى استبداد جاهل، وأقصد بالاستبداد هنا الاستبداد الفكري قبل أن يكون الاستبداد السياسي؛ لأن أخطر أنواع الاستبداد هو استبداد امتلاك الحقيقة، استبداد امتلاك الفكر. فأصبحنا نجد في كل فترة وأخرى ظهور من يدعي أنه يملك الحقيقة كاملة، وأنه المنقذ لهذا المجتمع، وأنه المصلح الأوحد الذي يجب على الأتباع أن يسيروا خلفه..

وقد أدى نقل التنظيم الهرمي عن الغرب بصورته الموجودة هناك مع فكرة الطاعة لولي الأمر إلى شمولية التنظيم وسلبية الأعضاء الذين لا يعرفون -غالبا- الميثاق الذي ينظم المنظمة التي يعملون بها، وعليهم السمع والطاعة، ومن شذ شذ إلى النار؛ فالتنظيم مع الطاعة يؤدي إلى استبدادٍ قاتل، والطاعة هنا تختلف عن الطاعة في صورتها البسيطة التقليدية القديمة التي لم تشهد مثل هذا النوع من الهرمية والتدرج.

ومع انتشار عقلية التقليد والنقل في المجتمع والثقافة -والحركات الإسلامية جزء منها- ومع التطورات المتلاحقة المتسارعة.. ظهر تخليط شديد؛ فمرة نكون مع الاشتراكية، ومرة مع الديمقراطية ومرة مع الليبرالية، ومرة مع الرأسمالية، ونبرر كلا من هذه الأشياء بتبريرات إسلامية.

وكم من الكتابات والأفكار والقناعات انتشرت في الساحة لا تعبر إلا عن أن العقل فقد القدرة على الاجتهاد والنقد والمراجعة، وهو يقع تحت ضغوط وتغيرات هائلة في المجتمع حتى ينتهي إلى التخبط، مرة إلى أقصى اليمين ومرة إلى أقصى اليسار.

عواقب اختزال الإسلام في السياسة والحكم

ومع ترسخ الاعتقاد في السلطة كمدخل وحيد في الإصلاح من خلال التطورات التي شهدها مفهوم السياسة والعلاقة بين الدولة والمجتمع أصبح المصلح يعتقد أن السلطة هي المدخل الأساسي للإصلاح، وفي الوقت نفسه الذي يقتنع بذلك لا يملك إمكانية الوصول إلى السلطة؛ لأن الوصول إلى السلطة يحتاج إلى قوة عسكرية مسلحة أو التمكن من الفوز في صناديق الانتخابات؛ فهو مقتنع بالمستحيل؛ مما يؤدي إلى عقلية برجماتية انتهازية.. إذ ماذا يفعل من يريد الوصول إلى السلطة ولا يملك إمكانياتها؟ .

لقد كان هدف هذه الحركات الإصلاح الاجتماعي العام الذي يعني أخذ الناس أو تقريبهم إلى صورة فضلى من الإسلام مع استصحاب التقليد. فعند فقدان المجدد (المجدد هو الذي يحدث تجديدا نوعيا في البنية الفكرية، والمصلح: هو القائد الاجتماعي الذي يسعى إلى إصلاح حال المجتمع ) نصير إلى الانسحاق في الماضي، وننفي صيرورة الزمان.. إننا نريد أن نصلح الحال الذي نعيش فيه، وهو حال معقد جدا، ولكننا لا نملك إمكانية التجديد الفكري التي تتواكب مع هذا الزمان..

فماذا نفعل؟ إنه لا مفر إلا اللجوء إلى الماضي ومحاولة البحث فيه عن بدائل أو عن إجابات لأسئلة معاصرة، وأن نحمل التاريخ همومنا ومشاكلنا، ونسأل ابن تيمية مثلا أن يجيب على سؤال الحزبية والمشاركة السياسية، ونستفتيه في دخول البرلمان والائتلاف الحزبي، وتداول السلطة، والتعايش مع العلمانيين والماركسيين في مجتمع واحد أو سحقهم، وابن تيمية لم يعاصر هذه الظواهر ولم تخطر له ببال ليجيب عليها.

ثم جاء اختزال الإسلام في السياسة والحكم، وعدم القدرة على تفعيل الجماهير؛ ليؤدي إلى ظواهر مختلفة من تكفيرٍ ورفضٍ وعزلةٍ وانحسار، وبما أن الجماهير سلبية فإنها إما أن تُكفر، وإما أن ترفض. والجماعة إما أن تُعزل عن الجماهير، وإما أن تنحسر فتصبح مثل جماعة التكفير والهجرة أو غيرها.

وكذلك نرى التخبط الناجم عن اجترار تاريخ الإسلام كقوة دولية واحدة واستصحاب التراث الإسلامي الذي أبدع وأنتج عندما كان الإسلام القوة الدولية الوحيدة، أو إحدى القوى الدولية الكبرى بالمقارنة بهزال وضعف الواقع الإسلامي المعاصر.

وهذا التخبط هو التخبط في العلاقات مع الآخر، وانتقالها من النقيض إلى النقيض؛ فتجد مثلا في دولنا العربية -برغم المعارضة الشديدة لأمريكا- أن البضائع الأمريكية هي السائدة، وفي ظل محاربة فرنسا أن المدارس الفرنسية هي السائدة؛ فنحن ننسحق أمامهم ثقافيا واجتماعيا، ونحاربهم سياسيا مما يدل على نوع من التخبط والانهزام الداخلي.

ثم نأتي إلى ظاهرة ضعف وزن المجتمع أمام الدولة مع الاعتقاد بأولوية السياسة كمدخل للإصلاح؛ الأمر الذي أدى إلى ظاهرة نعايشها جميعا، وهي ظاهرة الانتحار المتكرر للحركات الإسلامية كما حدث في الجزائر؛ لأنها بنيت على اعتقاد القدرة على إحداث تغيير سياسي بمجتمع ضعيف ودولة تمثل الوحش والغول. فبينما لم تكن تلك الحركات تملك الماكينة اللازمة لإحداث أي توازن مع هذه القوة، إلا أنها كانت -وربما لم تزل- مقتنعة بأن السياسة هي المدخل الأساسي للإصلاح مع أن الواقع يثبت عكس هذا الأمر مئات المرات.

فما العمل تجاه مثل هذه الظواهر؟

مجرد نقاط نطرحها للنقاش والتفكير والتأمل:
  •  تهميش السلطة ذهنيا وثقافيا: لا بد من إحداث حالة ثقافية في المجتمع تُهمش السلطة، وتبعدها عن الذهن وتتمثل في إشاعة عدم الاعتقاد في السلطة كوسيلة أساسية للإصلاح، أو كقوة أساسية.
  • تقوية الفعل الاجتماعي الطوعي والتطوعي من خلال التركيز على الأفعال الطوعية البسيطة، أو فيما يطلق عليه الآن -في الموضة الحديثة- المجتمع المدني.. وعلى الرغم من أننا لسنا في حاجة إلى هذا المجتمع؛ لأن مجتمعنا منذ نشأته وهو يعمل بهذه الطريقة؛ فإن هذا يساعد على تفعيل المؤسسات التطوعية في المجتمع وإعطائها دفعات حتى تهمش السلطة في النهاية تهميشا واقعيا بعد أن همُشت تهميشا ذهنيا وثقافيا.
  • بناء مؤسسات الأمة، وإعادة التفكير في بناء الأوقاف، وإعادة التفكير في بناء المؤسسات التي تخدم المجتمع بعيدا عن الدولة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق