الاثنين، 18 نوفمبر 2013

سلفيون كرام .. ولكن ... بقلم/ مصطفى كمشيش


أرسل الله الرسل تباعا لبني البشر ليحملون لهم رسالة ثابتة "بل شديدة الثبات"  في علاقة البشر بربهم وهي توحيده سبحانه.. ثم رسالة متغيرة تناسب الزمان والمكان.
قد تلتقي مع الرسالات السابقة في بعض المسائل وقد تتغير .. قد تلتقي مع بعض أعراف الناس وتقاليدهم قبل الرسالة وقد لا تلتقي مع بعضها الآخر.. وحينما شاء الله سبحانه أن يجعل رسالة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) الرسالة الخاتمة جددت الرسالة ذات الدعوة الثابتة فيما يخص علاقة البشر بربهم (التوحيد).
قد تتغير أشكال العبادات لكن يبقى جوهرها ثابتا ً "الصلاة والصيام والزكاة والحج".. ثم جددت الرسالة بعض الشرائع التي تنظم حياة البشر فيما بينهم.. وحيث تتغير حاجاتهم وطريقة تنظيم شئون حياتهم فقد جعل الله لرسالته الخاتمة من يجدد (متغيراتها) ويجدد الدعوة إلى (ثوابتها), فكانت إرادته سبحانه أن يبعث على رأس كل مائة عام من يجدد لهذه الأمة دينها (الحديث).

وظلت أبصار علماء الأمة جيلا ً إثر جيل تنهل من النبع المحفوظ (القرآن الكريم) ومن صحيح حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم.
وتعاقبت إسهامات العلماء في تقديم اجتهاداتهم لأمتهم .. وبدأت المذاهب الفقهية المشهورة .. فكان أبو حنيفة النعمان في السنة الثمانين للهجرة كأول الأئمة الأربعة عند أهل السنة والجماعة، وصاحب  المذهب الحنفي في الفقه الإسلامي.اشتهر بعلمه الغزير وأخلاقه الحسنة.. حتى قال فيه الإمام الشافعي" :من أراد أن يتبحَّر في الفقه فهو عيال على أبي حنيفة» .. ويُعد أبو حنيفة من التابعين، فقد لقي عددا ً من الصحابة  منهم  أنس بن مالك.
لو أراد أن يتوقف أبو حنيفة مع ما قاله (سلفه) من كبار الصحابة في شروحهم للمسائل المختلفة ما قدم للأمة اجتهاده.. ولو اعتبر الأئمة الكبار (مالك والشافعي واحمد بن حنبل) أن عليهم التوقف مع ما قاله (السلف) ما كان اجتهادهم.. بل وما تغير اجتهاد بعضهم عن اجتهاد (سلفهم) أبي حنيفة.. حيث كان سلفا ً للأئمة من بعده.
والآن يقدم بعض الناس رؤيتهم أنهم تابعون للسلف.. مما يتبادر إلى الذهن عدة أسئلة:
أي سلف ..أهم الصحابة؟
وأي منهم.. ولقد رأينا اختلافا ً مبكرا ً في طريقة الفهم والتناول (الصلاة في بني قريظة) ولدينا على سبيل المثال (عزائم ابن عمر ورخص ابن عباس) .
وإذا نظرنا إلى الفقه .. فهل السلفي هو من يأخذ عن أبي حنيفة ولا يأخذ من الخلف (مالك والشافعي وأحمد).
فقد كان أبو حنيفة سلفا لهم جميعا ًوأقربهم لجيل النبوة والصحابة.. الغريب أن من يقدم نفسه على أنهم سلف "وأكثرهم في جزيرة العرب" يعتمدون مذهب أحمد بن حنبل (رابع الأئمة المولود في 164 هـ)  بأكثر مما يعتمدون مذهب أولهم (سلفهم) أبي حنيفة (المولود 80 ه).
كأن أكثر سلفيي اليوم من الحُفاظ بأكثر مما هم بالفقهاء المتماسين مع قضايا الواقع لكي يقدمون أجوبة وحلولا لها .. لدرجة أن شاع بينهم ما أخرجه البيهقي  في "السنن الكبرى" لأثر عن ابن مسعود رضي الله عنه قال فيه: "ألا لا يقلدن رجل رجلاً دينه فإن آمن آمن.. وإن كفر كفر .. فإن كان مقلداً لا محالة .. فليقلد الميت ويترك الحي.. فإنّ الحي لاتؤمن عليه  الفتنة"
والمعنى المقصود هو أن لا يقتدي الإنسان في قضية الإيمان بأحد من الناس فيؤمن إن آمن ويكفر إن كفر .
لكن المعنى لا يمتد أبدا إلى أن نقتصر في فهمنا للدين على الأموات دون الأحياء, لأن الأموات قد غابوا عن اللحظة واستحقاقاتها ولا يمكن لهم الإجابة عن واقع اليوم ومتغيراته .
ويظل المعنى الأول: لا يقلدن رجل رجلا دينه.. معنى جدير بكل اهتمام, وهو ما دفع الفقهاء جيلا إثر جيل لا يكتفون بما قاله سلفهم, وما كان لبعضنا الآن أن يُرجح ما قاله أحد الخلف "لأبي حنيفة" (احمد بن حنبل) عن ما قاله "سلفه" (أبو حنيفة).
إن من يُعرٌفون بالسلفيين اليوم قدموا للأمة جهدا ً كريما ً في حراسة صحيح الحديث متنا وسندا بعد أن شاع بين الناس استخدام الضعيف والموضوع, وكانوا من أكثر الناس التزاما ً بحفظ النصوص, مما جعل بيانهم للناس مؤثرا , ومما جعل كثير من الناس يلتفون حولهم تأثرا واستماعا ً وأتباعا ً.
لكنهم.. مع عظيم الاحترام لهم كانوا أكثر التصاقا بالماضي من الحاضر, ولم يكن لأكثرهم قدرة على التعامل مع الواقع.
لذلك نحن في حاجة اليوم.. بل في شديد الحاجة إلى فقه "السلفي" الكبير أبن القيم "رحمه الله" حين قال  في إعلام الموقعين:
"ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم:
  • أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه، واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علما .
  • والنوع الثاني فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع.
ثم يطبق أحدهما على الآخر.. فمن بذل جهده، واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجراً".
لكننا حين تداهمنا أحداث أو نوازل أو استحقاقات, نتلفت حولنا نترقب كلمة من بعض مشاهير السلفيين.. فنجد أكثرهم إما في عزلة, أو صمت, أو ارتباك.. وربما يجنح بعضهم بكلامه نحو الماضي دون استحقاقات الحاضر.

كان الأخطر في المسألة أيضا هو دخول باب السياسة تحت شعارات مذهبية, ومع إنه من المستقر تماما أن الإسلام دين ودولة.
 لكن ممارسة السياسة والحزبية شيء والإقرار بشمول الخطاب الإسلامي شيء آخر, وإذا لم يحسم الإسلاميون اليوم مسألة الخلط "الوظيفي" لا "الخطابي" بين الدعوي والحزبي (على الإجمال).

فكيف بنا ونحن نرى تماسا ً بين وظيفة الدعوة والحزبية من مدارس فقهية متعددة ؟
لا أفهم مثلا: كيف تتميز المدرسة السلفية عن مدرسة الإخوان في الشق الاقتصادي, حتى نقول هذا فهما ً اقتصاديا ً إسلاميا ً سلفيا ً أو إخوانيا ً.
إن المسلمين اليوم بحاجة إلى من يجيب على أسئلة اللحظة بحسم وصراحة, ومن يجيب على استحقاقات الواقع السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
كيف ينظر المسلم المعاصر إلى قضية الديمقراطية, والتعددية وتداول السلطة والدستور, ورأي الأغلبية والقوانين المعاصرة والعمل الحزبي.

وكيف يتعامل المسلم اليوم مع استحقاقات اللحظة الاقتصادية حيث الاقتصاد المتداخل والمتشابك محليا ً وإقليميا ودوليا تشابكات لا تنتظم تحت قيم واحدة.. والعمل البنكي والتضخم وتغير سعر العملة , واقتصاد السوق, والاقتصاد الموجه وغير ذلك .
وما هي الاستحقاقات الاجتماعية في قضايا كالعدالة الاجتماعية وفكرة المواطنة والمجتمع المتعدد الثقافات والعادات وغير ذلك..

لقد قال لنا كثير من سلفيي اليوم ما لا ينبغي علينا عمله, ولم يقل لنا كثير منهم ما ينبغي علينا عمله في كثير من استحقاقات اللحظة .. واختار أكثرهم أن يستريح في ظلال الماضي منكرا ً على كثير من الناس ما يفعلونه اليوم دون أن يقدمون لهم حلولا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق