السبت، 5 أبريل 2014

رحلة في جمهورية أفلاطون- تمهيد2 ... د/هبة رؤوف

في القسم الخاص بموضوعات محاورة الجمهورية في مقدمة ودراسة المترجم الأستاذ الدكتور فؤاد زكريا يذكر أن بعض الشُراح والنقاد يذهبون إلى افتقار النص للتماسك حيث يتوزع على موضوعات متنوعة.
والحق أن هذه الملاحظة تحتاج منا وقفة في التفكير بشأن إنشاء النَص..أي نَص. نحتاج دوماً ونحن نقرأ أن نسأل عن الهدف من وراء الكتابة ، هل تسجيل الخواطر كي لا تفلت من الكاتب وبالتالي هو يوثق أفكاره كي يتركها (كما قال العرب قديماً: كل علم ليس في القِرطاس..ضاع) ، أم أن التص يعكس فكرة ناضجة مكتملة يُفترض فيها التماسك والتسلسل.

القاريء للتراث يجد مزيجاً من هذا وذاك..خاصة حين تكون الحوادث ذات وطأة فيريد الكاتب توثيقها ويكتب أفكاره تحت وطأة الظرف التاريخي، قد تكون واضحة في ذهنه لكن خريطتها في طور التشكيل، ولعل الميزة التي نجدها في عالم اليوم إماكنية تحرير النص، وإعادة تحريره. في الماضي كان ما يمكن فعله إضافة هوامش أو إنشاء نص جديد..يعكس طوراً جديداً من التفكير.

ومن الأسئلة المهمة في هذا السياق أيضا النظر في منطق الحكم على تماسك النص، فقد تكون بعض النصوص فصول في مسائل اتضحت خريطتها في ذهن من كتب ولم تتضح في ذهن من قرأ، وقد يكون العكس: يكتب المؤلف في موضوعات يظنها البعض متفرقة فيأتي قاريء ليرصد الخيط الناظم للكتاب بوضوح، ولكل قاريء خلفيته وعينه، ولكل كاتب قدرته المختلفة على الإمساك بتلابيب المعاني..
لذلك كانت الشروح والحواشي على المتن من أهم ما تركه لنا السلف في تراثنا ، إذ تتجلى الأفكار وتتولد المعاني وتتضح طبقات الفهم ، فللتأويل دوماً مساحة حيث أن العقول لا تتطابق، وللنص جوهر لا يمكن في النهاية هجره بالكلية لِمعان شاردة لا يدل عليها منهجه.

ويقولون في بعض المدارس أن القراءة يمكن أن تتضمن "موت المؤلف" أي إسكاته ونطق القاريء ليحاور الفكرة كيفما شاء، وكأن النص انفك بالكلية عن كاتبه، وفي هذا مبالغات فضلاً عن أنه يكسر تراكم المعرفة وتجادل العقول ويًدخلنا في نسبية كاملة للمعاني، وهو أمر يضرب تطور التقاليد الفكرية ونموها في الصميم ، والخير في منهج يتم من خلاله الحكم على النص وفهمه بما يمكن استصحاب المعاني لآفاق أبعد والاجتهاد دون تحجر أو استنساخ للعقول.

أمر آخر يستحق الذكر.. في القراءة قد نجد تناقضاً في أي نص، كان طلابي عادة يستغربون، قال هنا كذا ثم قال هنا كذا، وكان ردي دوماً من قال أن الإنسان معصوم من التناقض ، المنهج يعين على تماسك النَص لكن العقل الإنساني يمكنه أن يفلت منه خيط المنهج بل وخيط المنطق، من هنا كانت أهمية فكرة الجماعة العلمية، التي تتعاون على مراكمة مسارات المعرفة ورد الشارد للموارد، ومرة أخرى: دون حجر على التفكير أو حجب للجديد من الأفكار التي تنبت من قلب التحولات في الواقع أو في النظر والاقتراب من المعنى.

ولكل نص مواضع قوة ومواضع ضعف: في الأسلوب والصياغة ونصاعة الفكرة وترابط المعنى..يرتفع هنا ويقل قليلا هناك، لذا رأى البعض أن الكتاب الأول في جمهورية أفلاطون كأنه مختلف عن باقي النَص في طبيعته، وذلك أيضاً إنساني ووارد. تتنوع أحوال الكاتب حين ينقل الفكرة للورق، وتتفاوت قوة حجته في بعض الأوقات كما ذكر الدكتور فؤاد زكريا في حديثه السابق الذكر في المرة الماضية عن الحجج التي ساقها أفلاطون حتى داخل الكتاب الأول (أي الفصل الأول) في حديثه عن العدالة -كما سنرى.

من يقرأ أيضا عليه أن يضع النص في سياق فكر الكاتب ، لا يمكن فهم نص منزوعا من سياق المفكر الفلسفي ومساره في الكتابة ومسيرته، قد يتجدد تصوره للعالم وقد تتغير رؤاه لكن لكل كاتب سمت ولكل قلم في حروفه روح تتجلى لمن يتتبعه ويدخل عالم أفكاره. سياق النص الداخلي ثم علاقة النص بالسياق التاريخي تشرح لنا الكثير، هكذا نقترب من السابقين واللاحقين، ما كتبه الفخر الرازي عن العلاقات الاجتماعية يختلف عما كتبه ابن حزم، لا نفهم الاختلاف والخلاف دون فهم السياق التاريخي. ومن آيات الله في العقل الإنساني أنه يولد من رحم لحظته التاريخية، لكنه قادر على تجاوزها ، وتلك أهم دروس قراءة تاريخ الأفكار.

أيضاً من القضايا المهمة، فهم قراءة النَص برجوع الاستظهار لا برجوع الافتقار كما يقولون:
  • فرجوع الاستظهار أن تقرأة باحثا عما تريده أنت لكي تساند رؤيتك.. من هنا قرأ التراث المسيحي أفلاطون بعين تبحث فيه عن المثالية والتجريد ، في حين تقرأه عصور النهضة بعين أخرى تبحث عن شرعية عقلية لفكر جديد مفارق للمسيحية وتراث الكنيسة الفلسفي ، ويقرأه البعض اليوم للنظر في البعد العملي من حديث عن المواطنة والتعليم وتصنيف نظم الحكم . كل يغني على ليلاه إذاً.
  • وأما رجوع الافتقار فأن تقرأه ساعيا لسماع صوته هو ، ثم ترى أين تجد مواطن الاتفاق وأين يكون الاختلاف والخلاف - دون أن تجره جراً لغاياتك أو تضع على لسانه ما لم يقله في اعتساف وتلصق به ما لم ينتويه فتسقط في الإجحاف..فتخرج الاقتباس عن سياقة وتحتال على النَص احتيالا..أو تذهب للمقابل تماما فتختال عليه بالطعن والتفنيد اختيالا.
للقراءة أدب ..

ويقدم الدكتور فؤاد زكريا المحاور الرئيسية لكتاب الجمهورية وهي:
  • تعريف العدالة كمفهوم
  • العدالة في الدولة والفرد
  • نظم الحكم المُثلى وحكم الفلاسفة (يغيب فهم النبوة الذي نجده عند ابن خلدون ومن قبل عند الماوردي والفارابي والغزالي في تاريخ الفكر الاسلامي ..حيث كانت النبوة تعلو الحكمة العقلية وما دونها لا يُطاولها)
  • الفلسفة والشعر
  • مصير الإنسان وخلود النفس.
من الأفكار المهمة التي وردت في مقدمة ودراسة المترجم الأستاذ الدكتور فؤاد زكريا الرصينة النفيسة أيضاً الصلة بين النظري والعملي في الكتاب ، وكذا الربط بين حديث أفلاطون عن الدولة وحديثه عن النفس الإنسانية ، أي محور العلاقة بين الطبيعة الإنسانية والظاهرة السياسية، وهو من أهم مباحث النظرية والفكر السياسي عبر التاريخ.
لا يمكن فهم نظريات الدولة واختلافها إلا بتأسيسها على اختلاف تصورات الطبيعة الإنسانية. والمثال الذي نضربه دوما هو أن أي تعريف للطبيعة الإنسانية يميل ويجنح للخيرية يقلص –بدرجات متفاوتة- سلطة الدولة ، وأي تصور يرى الإنسان وحشيا لا يؤتمن على مجتمع يبسط يد الدولة ويمنحها سلطان البطش تحت كل المبررات.
بل يوجد هذا داخل المدرسة الفكرية الواحدة، فمدرسة العقد الاجتماعي في تاريخ أوروبا الحديث انقسمت بين رؤية مثالية للانسان عند روسو، فقيد الدولة بالعقد الاجتماعي وفكرة الإرادة العامة ، في حين ذهب هوبز لأن الطبيعة الإنسانية تستلزم دولة مهيمنة على الناس ما دامت تحفظ حياتهم لأنهم بدونها سيفتك بعضهم ببعض.

من هنا فإن أية نظرية للدولة ولنظم الحكم تبدأ بتعريف الطبيعة الإنسانية، وهو ما يربط الفلسفة بعلم النفس بنظم الحكم بالإدارة كما أسلفنا سابقا على الصفحة، ويردنا مرة أخرى لضرورة دراسة العلوم الاجتماعية باعتبارها تتكامل تحت مظلة "الإنسانيات" لتعبر عن الوجوه المختلفة للإنسان: الفردية والجماعية، الفكرية والنفسية والاجتماعية والسياسية ولاقتصادية والروحية.
لذلك –كما لاحظ الدكتور فؤاد زكريا- يبني النص معمارا للأفكار من الوحدة الأولى وهي النفس الإنسانية إلى منطق الدولة ونظام الحكم.
وهو تحليل لا يقرأ النص فقط بل يتأمل طريقته في رسم الخرائط وبلورة المعاني.
للنص منطق وبنيان .. وروح.
(أفضل من قرأت له في هذا المعنى بتلك الرؤية الفيلسوف الألماني جادامير وكتابه الحقيقة والمنهج مترجم للعربية)

أيضا يلاحظ الدكتور فؤاد زكريا ربط أفلاطون السياسة بالأخلاق والتربية، وهذه قيمة أن تقرأ لفيلسوف مثل أفلاطون ، يستعصي نصه على التصنيف الضيق للعلوم الاجتماعية في تقسيماتها الحديثة. فكل كتب التراث في كل الحضارات تجد فيها تلك النظرة الموسوعية والمعمارية للأفكار كأنك تتجول في عالم مركب ومتشابك.. وهنا مكمن عبقرية وعمق كتب التراث الفكري في الحضارات المختلفة، وهذا مصدر استمرار الاهتمام به عبر العصور ، سواء كنا نتجول في مقدمة ابن خلدون كما فعلنا ، أو نرتحل مساحات التفلسف والتحاور عند أفلاطون.

وأنصح بقراءة هادئة للصفحات من 55 إلى 79 في مقدمة ودراسة المترجم فهي تستحق المطالعة قبل أن يدلف إلى استعراض أهم الأفكار السياسية في النص من قبيل التوطئة في باقي المقدمة الطويلة المتميزة.

مقدمة ثمينة تجول بنا في الوصف للكتاب والجدل حوله كأننا نقف على عتبته نطالع واجهته قبل أن نفتح الكتاب وندخل عالم جمهورية أفلاطون.
-
ونستكمل إن شاء الله الثلاثاء القادم.
-------------------------------------------------
مقالات ذات علاقة:


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق