الخميس، 22 مايو 2014

التمييز بين أدوار الرسول.. مدخل هام للتجديد.... (2/6) عبد الحميد أبو سليمان

التمييز بين أدوار الرسول.. مدخل هام للتجديد
إشكالية الاستبداد والفساد في الفكر والتاريخ الإسلامي (2-6)



تنبه بعض علماء السلف – جزئياً - إلى مفهوم تعدد الأدوار التي أداها الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته في العهد النبوي، وبالذات إلى دور الرسالة والتبليغ، ودور الحكم، إلا أنه لم يكن واضحاً لديهم الفرق بين دور النبي المبلغ، وبين دور الداعية والمعلم، ونظراً للظروف المتسارعة، والموروثات المتجذِّرة، والمصالح الطاغيــة، وما ألمَّ بالنظام الاجتماعي السياسي على العهد الأول – بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم-  من كوارث انهيار نظام الخلافة الراشدة، وسيطرة المفاهيم القبلية على نظام الدولة، وما تبع ذلك من ثقافات البلدان والأمم التي دخلت الإسلام، وتفشي طغيان رجال السلطة، والسطوة ومصالحهم ومصالح (عزواتهم) وأعوانهم، ومفاسدهم.


يدعم كل ذلك ويمكن له عزل رجال مدرسة المدينة قادةً ومفكرين، وتحويلهم إلى أكاديميين مدرسيين، ومصدرٍ للأعوان الموظفين (المبرمجين)، بل وتكوين فئة ترتبط مصالحها بمصالح الفئة السياسية الحاكمة واستبدادها وفساد ممارساتها ، وبالتالي عزل مفاهيم الدين ومقاصده عن الحياة السياسية، هذا من ناحية.

ومن الناحية الأخرى فإن عدم تغير طبيعة العصر العمرانية والاقتصادية بشكل جذري ولأمد طويل، قد أسهم في تحقيق أهداف الصفوة السياسية وأعوانها، في محدودية فكر جل العلماء والمفكرين، وجعلهم – في فكرهم -يميلون إلى التقليد والمحاكاة، وحصر فكرهم ودورهم في الجانب الشكلي والفردي، والاعتماد في كثيرٍ من الأمور -بسبب العجز الفكري، ومحدودية الأفق والممارسة، وتأثير المصالح الحياتية المادية، ونزولاً على ضغوط الأمر الواقع في كثير من الأمور، والممارسات، وبشكلٍ متزايدٍ - على حرفية التطبيقات التشريعية للعهد النبوي، وتوجيهاته وتعليماته التي خاطبت في جوانبها التطبيقية أحوالَ المجتمع على العهد النبوي، وأن يلتزم كثير منهم، وبشكلٍ جزئي وانتقائي، حرفية النصوص، وبشكل مبتسر مشوه، أكثر من اعتمادهم على المفاهيم الكلية التشريعيـة القرآنية، ودلالاتها ومقاصدها، اللازمانية واللامكانية، وتطوير تطبيقاتها، تجديداً واجتهاداً، بفكر سياسي اجتماعي حيٍّ متطور، بما يلائم جوهر المتغيرات وتحدياتها وآثارها الاجتماعية، والاستفادة في ذلك كله من حكمة التنزيل النبوي للمفاهيم والمقاصد بشأن أحوال قومه، وظروف عصره الزمانية والمكانية.

وعُرِفَتْ هذه الظاهرة في الفكر الإسلامي – كما هو معلوم، صراحة، أو تصويراً للحال، بظاهرة "التقليد" و"قفل باب الاجتهاد" مع استثناءات شجاعة مبدعة مضيئة، همشت في مجرى فكر حياة الأمة، وهكذا اتسم الفكر الديني الإسلامي – بالضرورة، منذ ذلك العهد، بالجزئية، وبالانتقائية، وبالمبالغة في تصيد النصوص النبوية والفقهية التراثية، والاحتماء خلف قدسيتها، أو ما أضفى عليها من القدسية كلما لزم الأمر وبالتالي بتهميش دور الدين، ونجاح توظيفه سلبياً في خدمة الصفوة السياسية واستبدادها ومفاسدها.

ولما كان الاستبداد والفساد متلازمان، يغذي بعضها بعضاً، فإنه لا يكسر هذه الدائرة الحلزونية الهدامة المشؤومة في حياة المجتمعات، إلا أن تستعيد الأمة وشعوبها – بجهود المفكرين والمربين والإصلاحيين الشجاعة المخلصة -رؤاها الكونية الحضارية، وتصلح من شأن مناهج فكرها، وتنقى ثقافتها، وتحسن تربية أجيالها، وتعيد بناء أنظمتها، ومؤسساتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والمالية والتعليمية والدعوية والإعلامية، وأن تعيد السلطة في النظام العام، وتوجيهه، إلى يد جمهور الأمة، دون مبادرات المفكرين والمربين والإصلاحيين، وتوجيه الاهتمام اللازم من قِبَلِهم لإعادة بناء الرؤية الكونية الحضارية، وسلامة منهج الفكر، وتنقية الثقافة، وإصلاح أساليب التربية، وسلامة مناهج التعليم، وسلامة بناء مختلف مؤسسات المجتمع التي سبق ذكرها وسلامة أدائها، دون ذلك فإنه لا مجال ولا أمل في استنهاض الأمة، وتنمية طاقاتها، وتفعيل إرادة الحياة والبناء والإبداع فيها.
وهذا هو ولا شك المقصود مما أشار إليه الرسول صلى الله عليه وسلم بتجديد الدين أي إعادة تنزيل مفاهيمه على الواقع المتغير كلما تقدم الزمن وتقادم التطبيق.

ويهمنا هنـا أن نـشيـر إلى أن نجـاح عهد الخليفتين أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب، وصدر عهد الخليفة عثمان رضي الله عنهم جميعاً، على الرغم من عدم فصل دور الدعوة والتربية والتعليم عن دور السلطة والحكم في هذه العهود الراشدة، هو أن هذه العهود بقيت فيها ترتيبات الحكم ورجاله وأدوارهم، بإخلاص الأصحاب وتجردهم، على ما كان عليه الحال والنظام بشكل عامٍ في العهد النبوي.

ولكن مع موت كثير ٍمن أولئك الرجال والأصحاب واستشهادهم، وضعف جلِّ من بقي منهم، وتقدم سنهم ، ومع تغير أحوال الناس والعصر بعد اتساع الدولة، وامتداد الفتوح، وتغير القاعدة السياسية للدولة والحكم بغلبة رجال قبائل الأعراب على جيوش الفتح ومقارعة الإمبراطوريات المعادية المتربصة وكذلك دخول شعوب كثيرة في الدولة والإسلام، فكان لابد من حدوث التغيرات والأخطاء والتجاوزات في طبيعة النظام، وفي الأشخاص والأدوار، بعد أن توفي النبي صلى الله عليه وسلم المؤيد بالوحي، والذي كانت حكمة عهده، هو التنزيل المحكم لمفاهيم القرآن، وتحقيق رؤيته ومقاصده، فيكون ذلك حجة على الناس، في أن هذا القرآن وهذا الدين، هو نور وهداية لحياة البشر، وليس مدينةً مثاليةً أسطورية (يوتوبيا).

وهكذا فإنه لا بدَّ أن يكون حال البشرِ -بعد وفاته صلى الله عليه وسلم وانقضاء عهده –سواء على مدى الزمان والمكان سواسية في الإفادة من الدين، ومن مبادئه، ومن توجيهات النبي صلى الله عليه وسلم في إدارة حكم قومه، أي إن على كلِّ إنسانٍ وعلى كل أمة وكل شعب – بقدر طاقته – بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم التزام رؤية الدين ومبادئه وقيمه، والإفادة من حكمة النبي صلى الله عليه وسلم في تنزيل الرؤية الإسلامية وقيمها ومبادئها، وتحقيق غاياتها ومقاصدها على أحوال قومه وعصره؛ فيأخذون من الدين في كلِّ زمانٍ، وفي كلِّ مكانٍ، ويلتزمون بقدر الطاقة، "وفي ذلك فليتنافس المتنافسون".

ما سبق يوضِّـحُ أنه ليس المقصود أن يستمر العهد النبوي، وأن تستمر ممارساته وترتيباته الحرفية الزمانية المكانية بعد وفاته، إلا ما رأت عامة الأمةُ وأولو الأمر والفكر والرأي والخبرة أنه مازال مناسباً ويحقق مقاصد دينهم ومصالحهم، وأن عليهم أن يبدعوا ما يناسب ما يجدّ من أحوالهم.
أما إذا التزمنا الحرفية والمتابعة الجاهلة العمياء فإن ذلك معناه أن العهدَ النبويَّ ورسالتَه الإسلامية، إبداعٌ إنسانيٌّ، يأخذ مداه، ويستنفد أغراضه، وينتهي، وتنتهي مهمته الحضارية بتغيـر الأحوال، وتطور الإمكانات والحاجات والتحديات.
وهنا كان لابد – بسبب ما جدَّ من أحداثٍ وتغيراتٍ - أن تتم أمور عديدة لم يكن من الممكن أن تتم وذلك بسبب تسارع الأحداث، ومحدودية البيئة مادياً وحضارياً.

ومن هذه الأمور التي لم تتم بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وما تلاه من عهود تاريخ الأمة، وهي الفصل بين الأدوار التي جمعت في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم. ولعدم حدوث ذلك كان لا بدَّ أن تظهر آثارها السلبية مع أفول جيل الأصحاب وقرب انتهاء العصر الراشد فيما رأينا من حال الدولة والحكم بعد عهد حكم رجال دولة الرسول صلى الله عليه وسلم الراشدة، وما دار من صراعات سياسية مؤسفةٍ بسبب تجنيد الأعراب القبليين الذين ما زالت كثير من القيم القبلية العنصرية عالقة بهم، ليكونوا جيش الفتح، وبذلك انتهى عهد الخلافة الراشدة، وعهد جيل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعهد دولتهم. 

يبدأ التدهور الكيفي الحضاري تدريجياً، حتى يقف دوران عجلته، وينهار عمرانه، ويهمش إنسانه وحضارته.
ومع قيام الدولة الأموية – ومنذ ذلك الوقت، وعلى مدى التاريخ الإسلامي، إلا ما ندر، وبرغم إصرار جيل المدرسيين على ضرورة الالتزام والتمسك والتمترس خلف حرفية ترتيبات العهد الإسلامي الأول؛ فقد برزت وتمكنت ممارسات العرقية والقبلية والشعوبية، وتمكَّنَ الاستبداد والحكم العضوض، من نظام حكومات الأمة الإسلامية، وما تبع ذلك من المفاسد والمظالم، وأصبح ذلك هو القاعدة، وما عداه هو الاستثناء الذي يؤكد القاعدة.

وفي هذا الزمن الذي نعيشه اليوم، والمتباعد جذرياً، في كثيرٍ من الوجوه، عما كانت عليه أوضاع الإنسانيـة في القرون السالفـة، خاصة مع تنامي الهجمة الفكرية الغربية، بفضائياتها وعنكبوتياتها ونفوذها العلمي والتكنولوجي والاقتصادي والسياسي، وتأثيرها السلبي في الأمة، وفي شبابها؛ كل ذلك يؤكد الحاجةَ إلى مراجعات جذرية لمقولات الفكر الإسلامي المعاصر عامة، والسياسي منه خاصة، الذي نشأ وترعرع في ظلِّ تلك الانحرافات والممارسات والضغوطات، وغذى – بشكلٍ واعٍ أو غير واعٍ – تلك الممارسات، وتعايش من الناحية العملية معها؛
بحيث تكون تلك المراجعات ضمن مراجعة شاملة لكل ما يتعلق برؤية الأمة الحضارية، وبمناهجها الحياتية السالفة، وكل ما يتعلق بهذه المناهج من التشريعات التراثية، وذلك بفهم العهد النبوي ودوره ودلالته للإنسانية، وبالعودة إلى منطلق المفاهيم القرآنية، ومقاصدها، بوعي ديني علمي قِيّـميٍّ اجتماعي عمرانيّ؛ وذلك ليواكب فكرُ الأمة، وتشريعاتها، وتنظيماتها، ما جدَّ من تطوراتِ الحضارة الإنسانية وإمكاناتها وتحدياتها؛ بحيث تُحّدَّدُ – بفكرٍ اجتهاديٍّ حيٍّ مستنيرٍ -الثوابت الإسلامية، وتوضح مقاصدها، ويجدد خطابها؛ حتى لا يختلطَ الحابل بالنابلِ، والأساس بالثانوي، وحتى لا تخلط الثوابت الإسلامية بغير الثوابت، وحتى لا تبقى الخطابات والتشريعات والتنظيمات على أوضاع واهتماماتٍ وصورٍ وتعبيراتٍ لا تناسب واقع حال الأمة والعصر، وحتى تُحقق الخطابات والتشريعات والتنظيمات دائماً –في المجتمع المسلم -غاياتِ الهدايــة القرآنيـــة وطبائع الفطرة ومقاصدها على تعاقب المواقع والأزمان، واختلافها.

وفي هذا الصدد فإن من المهم أن ندرك أن مؤسسات التربية الدينية والدعوة والتبشير للأديان الإبراهيمية السالفة، التي هي المعبد والكنيسة، كان من الممكن أن يكون تأثيرها وعطاؤها مضاعفاً وأعظم فاعلية، لولا طبيعة هذه الأديان الزمانية المكانية، إضافة لما أصاب هذه الأديان لاحقًا من انحرافات وتحريفات وخرافات وكهنوتيات، والتي ما جاء الإسلام إلا ليصححها، وحتى يعيد تأهيل الدين ودوره في الهداية؛ مواكبةً لحال الإنسانية في مستقبل عصر العالمية وتحدياتها من بعد.

والإسلام باعتباره الرسالة الإلهية الخاتمة، المهيمنة، على ما سبق من الأديان، خاصةً وأن الله قد حفظ القرآن الكريم، وهو المصدر الأساس والأول لهذا الدين، كما حفظت جهود العلماء الكثير من صحيح السنة النبوية: روايةً ومتناً من داء التحريف والخرافة والشعوذة، كل ذلك يجعل بناء المؤسسات المستقلة للدعوة والتوعية والتربية الدينية والثقافة الإسلامية والإعلام، وفصلها عن مؤسسة السلطة والحكم، إلى جانب حفظ ثروات الأمة ومصالحها العامة من النهب والسلب بوضع اليد أو ادعاء حقوق ملكية ظالمة زائفة؛ أمر ضرورةً قصوى، وعنصراً مهما في القضاء على منابع الاستبداد والفساد، الذي كان وما يزال في كثيرٍ من الوجوه سمةَ الحكم والسلطان في تاريخ الأمة السياسي.

بهذا إذا كنا عقلاء جادين يمكن إنهاض الأمة وإصلاح رؤيتها وفكرها ومناهج تربية أبنائها، بعيداً عن أية مؤثرات خاصة أو سلبية، لأي فئات أو تنظيمات سرية أو علنية أو أي سلطة جزئية في المجتمع، عدا السلطات المخولة شرعاً من الأمة.

ومن هنا:
  • يجب أن يكون المسجد قلب مؤسسة الدعوة،
  • وأن تكون مناهج الدعوة والتعليم والتربية والثقافة الدينية الاجتماعية والإعلام، من الأمور التي تختص بها مؤسسة أو مؤسسات الدعوة والتعليم العقدي ومؤسسات الإعلام وحدها، والتي تختار الأمة قياداتها ورجال الإدارة والتوجيه الديني الحضاري فيها؛ وبذلك لا يكون للسلطة التنفيذية، أو لأي فئة أخرى خاصة في الدولة أي تحكّم فيها، أو سلطة عليها.
  • كذلك لا تكون هناك رقابة على هذه المؤسسات الدعوية التربوية الدينية والاجتماعية والإعلامية العامة، والخيرية الخاصة، ولا على وسائلها ونشاطاتها، إلا رقابة الأمة وممثليها المؤهلين المنتخبين لهذا الغرض وحده.
بهذا ولا شيء سواه يمكن أن تصفو الرؤية، وأن يستقيم الفكر الديني الاجتماعي، ويتطور، وينمو، ويتجدَّد، وأن يسهم - إلى جانب مؤسسات الإعلام العام - في القضاء على منابع الاستبداد والفساد، والحفاظ على ثروات الأمة ومقدراتها، وعندها يستقيم بناء مؤسسات الحكم والحياة العامة في البلاد الإسلامية.

وبذلك وبعد ذلك تصبح الأمة هي – بالفعلِ -صاحبة الأمر والتوجيه لسلطات الدولة السياسية والتنفيذية، ومنها وحدها تُستَمَدُّ المشروعية، وليس لرجال الحكم ومصالحهم وسياساتهم أي سلطةٍ في شأن الدعوة والتربية والتعليم الديني والإعلام العام، وهو غير الإعلام الخاص الصادر عن أصحاب المصالح، وعن مختلف هيئات المجتمع العامة والخاصة، ومؤسساتها.
-------------------------------------------

تلازم الاستبداد والفساد.. رؤية قرآنية تجديدية (1/6)..... أ.د. عبد الحميد أبو سليمان

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق