السبت، 24 مايو 2014

إشكالية الاستبداد والفساد في الفكر والتاريخ الإسلامي (3-6)...... عبد الحميد أبو سليمان

طرف من فقه الالتفاف حول إرادة الأمة
إشكالية الاستبداد والفساد في الفكر والتاريخ الإسلامي (3-6)

إدعاء جهل الأمة دعاية مقصود بها تحييد إرادة هذه الأمة


لقد انقلب حال نظام الأمة رأسًا على عقب حين اعتبر الخطاب الديني – بشكلٍ واعٍ أو غير واعٍ -أن الأمة المسلمة هي "الذين لا يعلمـون" و"الذيـن لا يفقهون" وأصبح رجال الحكم والسلطة ومن وراءهم من أصحاب السطوة وكذلك وموظفوهم من أصحاب الإجازات، والاختصاصات الأكاديمية، والألقاب الرنانة الطنانة، هم "الذين يعلمون ويفقهون" وأصبحت الأمة هي الجاهل والقاصر، وأصبح الحكام وأصحاب المصالح وموظفوهم وأعوانهم وزبانيتهم، هم "الراشدون" "العالمون" والأوصياء على الأمة.


إن من المهم أن نعلم أن أصحاب الاختصاصات الفنية الأكاديمية من العلماء الأكاديميين في الشأن الديني أو الاجتماعي أو التقني أو سواهم مهما اتسع علمهم فدورهم يجب أن لا يعدوا المشورة والتنفيذ وإبداء الرأي والمشورة، وليس من حقهم إصدار القرار السياسي، لأن القرار السياسي هو من شأن الأمة صاحبة المصلحة؛ لكي تحقق الأمة تطلعاتها الحضارية، وتحمي مصالحها السياسية والحياتية.
وغير ذلك خلط للأوراق بدعوى جهل جمهور الأمة المسلمة وقصور إدراكهم، ويصبح القائلون به هم المسئولون عنه، ومن يجب إبعاد أيديهم عن أي مشورة أو سلطة.

إن مثل هذه الدعوى من قِبَلِ رجال السلطة وأعوانهم من جانب، وبسبب خلط الأوراق وغيمومة الأمر من بعض المخلصين من جانب آخر، هي – في الحقيقة – دعوى فاسدة؛ لأن الأمر هنا أمر شورى سياسةٍ وقرارٍ، وهو حقُّ الأمة صاحبة القرار "وأمرهم شورى بينهم" (الشورى: 38)، وهو أمر يختلف عن أمر تنفيذ قرارات شورى الأمة، ولذلك يجب اتخاذ القرارات السياسية العامة بشورى الأمة؛ التي يستفاد فيها بمشورة أصحاب الاختصاص في بعض الجوانب، بحسب الأحوال.

أما دعوى جهل الأمة وقصورها لتبرير سلب حقِّها في اتخاذ قراراتها، وتوجيه أمور حياتها، هي دعوى لتمكين مزيد من الجهل والتجهيل والاستبداد، وبالتالي الفساد والإفساد في الأمة ؛ وذلك حتى تبقى الصفوة السياسية وأدواتها وأجهزتها هي الوصي العالِم المهتدي المستنير!

أما إذا كان هناك حقاً جهلٌ أو قصور إدراكٍ عند جمهور الأمة، على مستوى الوعي السياسي وصنع القرار السياسي، وهو غير الدراية الفنية والأكاديمية، لأن الشئون الأكاديمية والفنية والتقنية هي أمور اختصاص فني وهي من شأن السلطات التنفيذية، فيكون علاج قصور الوعي الاجتماعي والسياسي بمزيـدٍ من جهـود التربيـة والتعليم والتثقيف والإعلام، وبمزيدٍ من برامج الدعوة والتربية والتعليم والإعلام، والتوعية، وباقتناع جمهور الأمة وتقبلهم، وليس بادعاء الوصاية والتجهيل ومزيـدٍ من وصايات التسلط والاستبداد؛ تمكيناً لمفاسد رجال السلطة وأصحاب المصالح وتجاوزاتهم.

وفي هذا الصدد فإن من المهم أن نذكِّر أن رجال العهد الأول لم يكونوا قد عرفوا آلاف المتون والحواشي والمختصرات الأكاديمية، وكل ما عرفوه بتلقائية، ودون تكلف أو سفسطة لتوجيه حركة مجتمعهم وسياساته، بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم هو القرآن الكريـم وتوجيهـات الرسـول صلى الله عليه وسلم وترتيباته في قصد التزام مبادئ الشورى والعدل والرحمة والإصلاح والإعمار، وتجسيدها؛ والتي هي أمهات قيم الإسلام ومبادئه ومقاصده، وما قد يعبِّـر عنه بالمعلوم بداهة من الدين بالضرورة، أما ما وراء ذلك فهو تفاصيل اختصاص ومشورة، تُقضَى بها الحاجات، وتُنَفَّـذ القرارات، ولنذكر قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "ما ضـرَّك يا ابن الخطاب – وقد أدرك المقصود- ألا تعلم ما الأبُّ" في إشارة إلى قول الله سبحانه وتعالى "وفاكهةً وأبـَّــاً" (عبس: 31)، أي إن أمورَ السياسات وادراك المصالح العامة غير أمور الأكاديميات وفنيات الفتوى، وأحكام القضاء، وتنفيذ السياسات والقرارات، وما يتطلبه ذلك من معلومات مهنيةٍ وتقنيةٍ، في أي وجه من وجوه الترتيبات الحياتية، فمثل هذه الأمور التقنية التنفيذية هي التي تستدعي التعمُّـق والتخصُّص الفني والأكاديمي، مثل أدوية العلاج، ومثل تقسيم المواريث، ومثل سلامة العقود.

ويوضح هذه القضية على سبيل المثال أمر السياسة الزراعية لأي بلدٍ، فلا شكَّ أن من المهم أن يكون للقيادات السياسية وقواعدها الجماهيرية إلمام بالحالة الزراعية العامة للبلد، ولطبيعتها وإمكاناتها؛ لكي يتم اتخاذ السياسات المناسبة، وأخذ مختلف الاعتبارات السياسية ضمن إطار هذه الطبيعة والإمكانات.
وهذا من الواضح يختلف عن المعرفة الفنية الزراعية في أمر أي محصولٍ من المحاصيل، وكيفية زراعته، ومواعيدها، وأنواع السماد المطلوب لها، وجميع المعلومات اللازمة لإرشاد المزارعين ليقوموا بزراعة المحاصيل التي تقرر الاعتبارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية لجمهور الأمة الاهتمام بها، وتشجيع زراعتها وإنتاجها وتسويقها.

وهذا المثل ينطبق على كلِّ حقلٍ من حقول الحياة، في الفرق بين السياسي والفنيّ التقنيّ، ولا مجال في هذا للاعتراض على الأمة وعلى ممثليها السياسيين في اتخاذ القرارات السياسية العامة اللازمة؛ بحجة أن جمهور الأمة ورجال السياسة ليسوا أصحاب اختصاصات فنية تقنية بالضرورة في أي مجالٍ من هذه المجالات الحياتية، ومنها التخصصات الفلسفية الكلامية والقانونية الفقهية والصحية الطبية.

وملحوظة أخيرة،
وهي أن من المهم ألا يستمر الخلط الفكري السياسي الاجتماعي الإسلامي بشأن علاقة سلطة الحكم (السلطة التنفيذية) وبشئون الدعوة وشئون التعليم الديني الثقافي، وهل يُعَدُّ كفُّ يدِ رجال السلطةِ ومصالحهم ومصالح أعوانهم عن السيطرة على المؤسسات الدينية ومؤسسات الدين والدعوة والتربية والتعليم والثقافة والإعلام، في الدولة والمجتمع، أمراً إيجابياً أم سلبياً؟ وهل هو في الحقيقة فصلٌ للدين والقيم عن الدولة والسياسة؟ أم هو في جوهره تمكين للدين والدعوة وكفٌّ ليد السلطة عن تشويه الدين ومبادئه وقيمه بالإلغاء أو بالتهميش أو بالتوظيف والاستغلال؛ بشكلٍ أو بأخر لخدمة مصالح الحكم والحكام وأصحاب المصالح الخاصة.

وأهمية هذه القضية – أي فصل الدين عن تسلُّط مؤسسات الحكم وخاصة السلطات التنفيذية –أنها قضية لم يحسن كثير من الناس حتى اليوم فهمها، واختلط فيها الأمر على جمهور الأمة، وعلى كثيرٍ من المثقفين، ولذلك فإن من المهم أن ندرك أن إبعاد شئون الدعوة والتعليم والتربية الدينية والثقافية عن متناول يد السلطة التنفيذية (رجال الحكم)، وعن برامجها الحياتية السياسية، وعن المصالح التي لا بدَّ أن توليها الأولوية، وأن تنحاز إليها، وإن هذا الكف والإبعاد والفصل ليس فصلاً للدين عن الدولة، أو عن السياسة، ولكنه إبعادٌ وفصلٌ وكفٌّ ليد رجال السلطة التنفيذية عن الإساءة إلى الدين والقيم والقداسة؛ تهميشاً، أو توظيف تشويه واستغلال؛ التي هي مداخل إلى الاستبداد، وبالتالي إلى الفساد والإفساد، فيكون الكفُّ هو خدمة للأمة والدولة، وحفظاً وتمكيناً للدين والعقائد والقداسة وحمايتها من الإلغاء أو التهميش أو التوظيف لخدمة استبداد السلطة ورجالها؛ تمكيناً لمصالحها ومصالح الفئات التي تنحاز إليها.

إن مؤسسات الحكم بما في ذلك سلطة الحكم التنفيذية – ببساطةٍ -" ليست هي "الدولة"، بل هي إحدى مؤسسات نظام الحكم في الدولة، وإن الأمة و"الشعب" هما الأساس والعنصر الأهم في توجيه السياسة العامة، وفي تكوين الدولة، ومن خيارهم وحدهم تُستَمد شرعيةُ الحكام والأحكام.

فالأمر لمن يدرك معنى الدولة، وموقع السلطة التنفيذية فيها، يدرك أن إبعاد يد السلطة التنفيذية ورجالها ومصالحهم السياسية عن السيطرة على شئون الدين والقداسة، هو حماية للدين والقيم والقداسة عن التوظيف السلبي بأي صورةٍ من الصور، وهو ليس فصلاً للدين عن تصريف شئون الدولة وتوجيه برامجها الحياتية السياسية، بل هو تمكينٌ لأمر الدين والدعوة والتربية في نظام حكم الأمة؛ وذلك بجعل أمر تكوين كوادر الأمة، وتربية أبنائها، على الوجه الصحيح، في يد الأمة وجمهور الأمة، ومؤسسات الدعوة مباشرة حتى يتم تأهيل هذه الكوادر لتوجيه شئون مجتمعهم ومصالحهم الروحية والمادية ومؤسساتهم السياسية، على أساس عميقٍ ومتينٍ من هدى مفاهيم دينهم وقيمه ومقاصده، بعيداً عن مؤثرات المصالح الخاصة لأي أحدٍ، بما في ذلك – وبالدرجة الأولى – رجال السلطة والصفوة السياسية وأعوانهـا، حيث لا سلطة هنا إلا لجمهور الأمة ودعمهم وقناعتهم المبرأة من أي تأثير للمصالح الخاصة.

فالأمر هنا هو أمر إدراك مرامي القرآن الكريم، وأمر إدراك دروس التاريخ، وأمر تصحيح البناء والتنظيم الاجتماعي والسياسي للأمة على ضوء مقاصد الدين، وتجارب الأمة، وفهم طبائع البشر؛ وذلك بإسناد السلطات المتعلقة بشئون الدين والقيم والدعوة والثقافة والتربية والتعليم الديني والاجتماعي والإعلام العام مباشرة إلى جمهور الأمة ذاتها.

وبهذا تأتي قرارات الأمة السياسية وفق أولوياتهم المبنية على مفاهيم الدين ومقاصده ومبادئه وقيمه السامية التي وعوها وربوا عليها، دون تشويه أو توظيف أو تهميش، وبما يحقق مصالح جمهور الأمة وفق أولوياتها وقناعاتها، والتي تتفاوت برامج الأحزاب السياسية في إدراكها وتقديراتها وقدرة أدائها.
==============================

تلازم الاستبداد والفساد.. رؤية قرآنية تجديدية (1/6)..... أ.د. عبد الحميد أبو سليمان


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق