الأحد، 10 يوليو 2011

وجوه من الثورة.. «أحمد» …… د/ مصطفي النجار


لم أكن أعرفه قبل ذلك، مثله مثل ملايين المصريين الذين جاءوا لميدان التحرير وجلسوا فيه من أجل المطالبة بالحرية. أمام المتحف المصرى مساء الأربعاء وعقارب الساعة تجاوزت منتصف الليل، كنت أقف ومعى صديقى الشاعر عبدالرحمن يوسف وعدد من شباب الإخوان وسط جموع المصريين الأبطال.

كانت هناك ٣ صفوف مرتبة بالتبادل للمواجهة وإلقاء الحجارة على قطعان البلطجية لصد الهجوم عن الميدان، وشعرت بألم شديد فى كتفى من جراء القذف المتتالى، ومن قطعة حجارة أصابتنى فى ظهرى قذف بها أحد المعتصمين لكنها لم تصل للمسافة البعيدة التى كان يريدها. تراجعت للوراء قليلا، وابتسم فى وجهى شاب سلفى قصير اللحية وهو يقول (إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون).

جلست على الرصيف وأنا أتصفح وجه رجل عجوز كان يطرق بالحجارة على الفاصل الحديدى الأخضر لتحميس الشباب، وبالقرب أم وابنتها، كانت تكسر قطعة من البلاط لتحولها إلى قطع صغيرة من الحجارة، وفوجئت به شاباً ضئيل الجسد هادئ الملامح يضع يده على كتفى ويقول لى: أنا مش فاكر اسمك بس شفتك فى التليفزيون قبل كده.. إنت دكتور سنان صح؟
هززت رأسى بالإيجاب واستقبلته بابتسامة وجلس بجوارى قليلاً، عرفت أن اسمه أحمد، وهو طالب جامعى فى السنة الثالثة بكلية الآداب، وأنه دخل «آداب» لأنه يتمنى أن يصبح كاتباً مثل نجيب محفوظ وعلاء الأسوانى وسألنى: إنت تعرف علاء الأسوانى؟ هو دكتور سنان زيك، نفسى أقابله وأسأله أعمل إيه عشان أبقى كاتب ناجح.

قلت له: نعم أعرفه، ولما نخلّص اللى إحنا فيه ده إن شاء الله هعرفك بيه. ابتسم ابتسامة كبيرة وقال لى: المهم ما تنسانيش بعد كده. قلت له: ما تقلقش أنا وعدتك خلاص. وقمنا معاً لنأخذ دورنا فى صفوف الدفاع وإلقاء الحجارة مع الثوار.
ألقى الأشقياء بالمولوتوف علينا فاحترقت الشجرة الكبيرة التى كانت على يميننا، وخشينا أن تمتد ألسنة النار إلى الشقق الموجودة بهذه العمارات التى تقع فى مواجهة المتحف وتمثال عبدالمنعم رياض، كنا نحاول الاحتماء بالحواجز التى أعدها الشباب ونقف خلفها، وبدأت الإصابات تتزايد بيننا لأن البلطجية اعتلوا كوبرى أكتوبر وصرنا نحن فى الجهة الأضعف تحت مرمى قذائفهم وحجارتهم ثم رصاصهم الذى انطلق فجأة.

أمسك «أحمد» بيدى وهو يسمع طلق الرصاص وسألنى: همّا ممكن يقتلونا بالرصاص؟
قلت له: مستحيل، دول مصريين زينا وأكيد الرصاص ده مش رصاص حى، همّا بس عايزين يخوّفونا عشان نمشى ونسيب الميدان، ولو عدّت الليلة دى يبقى خلاص مفيش «مبارك». زاد حماس «أحمد» جداً وبدأ فى إلقاء الحجارة من مسافة أقرب للكوبرى وأنا أمزح معه وحجارته تصل لمسافة بعيدة جدا، وأقول له: يا جامد، كلية الآداب دى كلها رياضيين أهه، ونتبادل الابتسام وإلقاء الحجارة، وفجأة شعرت بشهقة ألم عالية وسط أصوات الطلقات القريبة والبعيدة ورأيت «أحمد» تسيل دماؤه على ملابسه بغزارة.

لم أتمالك نفسى ولم أصدق ما حدث، أسرعت إليه أحمله أنا وشابان بجوارى لنأخذه إلى الإسعاف، حاولت أن أطمئنه أن الجرح بسيط وأنه سيكون بخير، نظر إلى عينى وسألنى سؤالاً اهتزت له جوارحى: إحنا صح ولّا لأ؟ أجبته بلا وعى وأنا أختنق من البكاء: إحنا صح يا «أحمد» وإنت شهيد وهتدخل الجنة وكلنا هنحصّلك، همّا اللى غلط. ولم أكمل كلماتى فقد صعدت روحه لخالقها وأهدت الحياة لملايين المصريين الذين كانوا موتى تحت نير الظلم والاستبداد والقمع والخوف.
نَمْ هانئاً يا «أحمد»، فقد كنا على الطريق الصحيح، وهم قد ضلوا الطريق. مدينون لكم بالعزة والكرامة والحرية.. المجد للشهداء.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق