الاثنين، 31 مارس 2014

رحلة في جمهورية أفلاطون- تمهيد1... د/هبة رؤوف

من ابن خلدون في بيئته العربية التي شكلت القبيلة نواتها الاجتماعية، ومفهوم العصبية محورها في الانتقال من البداوة للحضارة، وسنن العمران التي استقاها من الوحي والنبوة والتاريخ ودورانه وسيره ونظره في المجتمعات وخبرته السياسية نرتحل إلى أثينا في القرن الخامس قبل الميلاد بين الأعوام 430 و400.

كانت بلاد اليونان تتشكل من مدن ، وكان لكل مدينة نظامها، ودستورها، وكانت أثينا هي الدُرة حيث تميزت بتجربتها في الديمقراطية المباشرة التي قامت على مفهوم المواطنة..أي الانتماء لتلك الوحدة السياسية واعتبارها المدينة الأسمى التي تتجلى فيها قيم الإنسانية والحضارة.

ورغم أن سكان أثينا تراوحوا بين 300-400 ألف فقد اعتبرت مهد الفسلفة والفنون ، وكانت تنظر لنفسها باعتبارها المدينة الأرقي. منتجها الفكري وتراثها العقلي والأدبي والفني جعلها تزهو بين المدن اليونانية، لكن هزيمتها على يد مدينة اسبرطة في "حرب البولوبونيز" كان الصدمة الكبرى. ففي حين كان لأثينا اقتصاد زراعي وتجاري وأسطول قوي وتزعمت حلفا جمع المدن المختلفة، لكن نموذجها قام على الديمقراطية المباشرة، بينما كان منطق اسبرطة هو المنطق العسكري وحكمتها نخبة عسكرية. انهزمت أثينا، لكن هزيمتها دفعت أبرز العقول بها للاستجابة لهذا التحدي بانتاج فكري وفلسفي رفيع.. وبقيت فلسفتها حية حتى اليوم.. واندثرت اسبرطة.

لكن فكرة العصبية التي شرحها لنا ابن خلدون مفيدة ، فقد كان في أثينا قبائل تعيش خارج المدينة وتنتمي لها النخبة التي تدير ديمقراطيتها، ويتم تمثيلهم في مجلس، ويتداولون رئاسته. لكن فكرة المواطنة كانت الرابط السياسي في دولة المدينة. لكن تلك الديمقراطية المباشرة التي قدمها نموذج أثينا لنا عليها ملاحظات:
  • أولا: أنها كانت ديمقراطية منقوصة ، دائرتها محدودة ، فالمواطنة المؤهِلة للمشاركة لم تكن تشمل إلا الأجانب ولا العبيد ولا النساء. (يطيب لنا مقارنة هذا بمدينة الرسول -يثرب- ونظامها الاجتماعي والسياسي)
  • ثانيا:أنها اعتمدت على مهارات بلاغية وخطابية لمن يملك اقناع الغالبية بالحجة ، ورغم عبقرية تلك الفكرة إلا أن هذا لم يكن في مقدرة كل أحد. (التعليم والطبقة الاجتماعية مكنت نخبة داخل تلك المساحة السياسية من التصدر)
هزيمة أثينا دفعت أفلاطون للتفكير بشأن النموذج الأمثل للحكم، والغاية الأعلى للوجود الإنساني والبحث في كيفية صياغة الإنسان المثالي. رأى أن الفضيلة ليست القوة بل المعرفة، ورأى أن الحكمة هي الهدف الأسمى، وأن النظم ينبغي أن يحكمها الفلاسفة، ويرتقي بها التعليم ، وينهض بها نظام للعدالة.

وفي كتابه "الجمهورية" الذي تبنى الأسلوب الحواري مناقشات طويلة تعرض وجهات النظر للوصول للحكمة والفضيلة.
سنرى لاحقا في استعراض الفصل الأول (المسمى الكتاب الأول) هذا الجدل بين من رأى أن الحق هو القوة وأن العدالة هي منطق الغالب، وبين رؤية سقراط (أستاذ أفلاطون والشخصية التي استخدمها أفلاطون في ذلك الحوار –وكان قد أُُعدم لأسباب سياسية قبل كتابة أفلاطون لهذا النَص) ..تلك الرؤية التي ترى أن العدالة لا تقترن بالقوة بل بالحق. وأن الحُكم لا ينبغي أن يكون في يد الغالب بل في يد من يديره لصالح الناس.

"الجمهورية" نَص يعبر عن الحلم الذي لم ينكسر حين انهزمت أثينا، الجمهورية نَص مثالي يستشرف ما ينبغي أن يكون وكيف يمكن الوصول إليه بالتفكير الفلسفي، وهو نَص تمكن من البقاء عبر القرون مثالا على فكرة ومنهج.
ورغم أن الوثنية كانت هي السائدة في أثينا لكن أفلاطون –كما يراه الباحثون والدارسون- قد آمن بقيم عليا وراء المادة، ولا يسعنا المقام هنا لبسط رؤاه الفلسفية، لكننا نتناول كتابه الذي يؤسس لفكرة المجتمع الذي تحكمه الفضيلة والحكمة وتؤسسه التربية وينشد العدالة والفضيلة.

نَص خرج من عقل لا يهتدي بالوحي ، لكنه اقترب من كثير من المعاني العميقة ، ولم يتمكن من عبور المسافة الباقية التي لا يهدي لها إلا الوحي ولا تصوغ موازينها إلا النبوة.
هذا كتاب بستحق السير والنظر فيه..والتجوال بين صفحاته، فيه عِبر مثل التي وجدناها عند ابن خلدون، وفيه تلامس مع سنن لاحظها وأمسك بطرفها أفلاطون..وفيه ما أفلت منه وقصُر عنه وعيه وإدراكه.
لذا فالمقارنة مفيدة مع مقدمة ابن خلدون ونحن نسير في طرقات ومسالك جمهورية أفلاطون.

سيجد القاريء الكثير من الأسماء في الحوارات..لا عليك من تذكرها..الذي يهم هو منطق الجدل وتَبايُن الحُجة، فما ينقصنا في ثقافتنا الراهنة هو المُحاججة وإدارة الجدل للخروج باتفاق في حد الأدنى ، في كل الدوائر الاجتماعية والسياسية.
منطق الجدل وصياغة الحُجة في القرآن واضح وقوي، وصياغة القول وبناء الفكرة مركب وعميق، فمقارعة الحجة بالحجة مهارة تشبه المبارزة.. تحتاج فهم وتدريب وأحياناً احتراف.. فإن لم يكن كل الناس أهلٌ لذلك في دوائر الفكر والجدل، فلا يستغني عن قدر من هذا عاقل .. وما لا يُدرك كله لا يُترك جُله.. في هذا الباب أيضا فائدة يهديها لنا الكتاب.

في مقدمة الأستاذ الدكتور فؤاد زكريا الذي ترجم الكتاب إشارة مهمة:
يبدأ بالقول أن قيمة الكتاب ليس في وصفه لأزمة وأسئلة عصر أفلاطون بل في منهجه في التفكير في عصر الأزمة ولذا فهو مفيد في أزمة العصر. العالم العربي يموج بالتحولات الفكرية منذ قرنين.. لذا نقرأ الكتاب ونحن نحمل الأسئلة التي تشغلنا نحن، وتلك الإجابات التي تأتي من عصور مختلفة لنفس الأسئلة التي لم تنقطع منذ بدأ الإنسان رحلته على هذه الأرض مفيدة نأخذ منها الحكمة ونتأمل فيما خالفها في تقديرنا أو في عقيدتنا (أفلاطون كان عنده عقله.. وكان عنده عقيدته وتصوراته اليونانية العامة عن تصورهم أن هناك تعدد آلهة تشبه حياتها حياة البشر ..وكان عنده أساطيره).

في عصور الأزمات تراجع المُسلمات والأسئلة الكبرى، في عصر السنوات القريبة راجعت فرنسا مع أزمة الحجاب سؤال من هو الفرنسي، وما هي العلمانية، وفي العقد الماضي راجع هنتنجتون في كتابة من نحن سؤال من هو الأمريكي، وفي الغرب تساءل طارق رمضان عما يعنيه كونك أوروبيا ومسلما. في الأزمات تحدث المراجعات للأسئلة الكبرى.
ولكننا قطعا سنظلم أفلاطون.. علينا أن نعترف كما ذهب فؤاد زكريا.. فنحن لا شك سنحاول أن نستنطقه.. نحن سنقدم عليه بهمومنا وربما تقاطعت الهموم للاشتراك في البشرية لكن ربما اختلفت باختلاف السياق التاريخي والثقافي. سنحاول أن نكون ضيوفاً كراماً ننتقي ما ينفع كما تُنتقى الورود بعناية من بساتين الحكمة، ونذر ما سوى ذلك.

يلفتنا فؤاد زكريا في المقدمة إلى أن أفلاطون بقي في منزلته في تاريخ الفلسفة لأنه حاول بمهارة أن يمزج بين المنحى المتجاوز المثالي المتعالي على المادي (الذي يصفه المترجم بالمنحى الصوفي-ولي على ذلك تحفظ) وبين المنهج العلمي التجريبي... حتى إن اختلفنا في تقييم درجة نجاحه فلسفيا وعمليا. وليس المزج هنا خلط عشوائي بل مقادير محكمة وجدلية مركبة. بهذا بنى جسرا بين اتجاهين.. وعبر في حياته عبر جسر التجربة السياسية من مثالية مفرطة إلى واقعية منضيطة في آخر حياته (وتأثر بذلك تلميذه أرسطو وواصل موازنة الكفتين بدوره).

وينفي فؤاد زكريا عن أفلاطون خصوصية يونانية منغلقة.. ففي عهده تمازجت الثقافات وهو يرى أثراً من الفلسفات الشرقية عنده .. الفارسية والهندية ومدارس الفلسفة التي كانت نبراساً في مصر.

أيضا من المهم أن نفهم الخلفية الارستقراطية والأصل العائلي لأفلاطون..فالمفكر ابن بيئته، أفلاطون كان محتكا بدوائر الحكم (كما كان ابن خلدون وإن لم تكن تجربة أفلاطون السياسية بنفس الزخم) .. فلم يكن في برج عاجي لكنه آثر التعليم على العمل السياسي المباشر.. وعرف عن قرب مثالب أن يكون الحكم في نخبة أرستقراطية فاسدة خاصة لو تماهت مع النخبة العسكرية لتنتج نظاما يبطش ويستبد.

في مسيرة أفلاطون تسرد المقدمة رحلة أفلاطون ومحاولته اصلاح النخبة في صقلية وتحول النظام الذي حاول اصلاحه لنظام طاغية. شهد أفلاطون مؤامرات وانقلابات ..وشهد كيف هجر تلامذته ما تعلموه وتخلوا عن قيمهم حين وصلوا للسلطة وجلسوا في سُدة الحكم، فأصبح أكثر واقعية وأكثر اهتماما بمنظومة القوانين، وبصناعة رجل السياسة الذي يمكنه إقامة نظام عدل وسط أنواء السلطة وصراعاتها .

في الجزء الخاص بمنهج الجدل في المقدمة يؤكد المترجم على صيغة السؤال والإجابة ( في كتاب الله آيات كثرة نتعلم منها الحفاوة بالسؤال وشرعيته، وفي السيرة النبوية كثير من هذا.. بدءا من حوار جبريل مع النبي ليتعلم الصحابة دينهم مرورا بالكثير من مواقف السيرة)، فالحقيقة لا يُتوَصل إليها إلا بعملية تدرجية من السؤال والإجابة، وتتولد الرؤية من هذه المسيرة العقلية الجدالية ويتم تنقية العقل من الأفكار الفاسدة بأسئلة يستوعبها (نتذكر حوار رسول الله مع من استأذنه في الزنا وكيف أجاب بالسؤال تلو السؤال-وهو قياس مع الفارق لأن في حوار أفلاطون مغالطات رصدها المترجم في حين كان للرسول هدياً من وحي).

ومن الأفكار المهمة في مقدمة المترجم : الإجابة البديلة. القاريء هنا لا يتابع فقط حوارا بل يمكنه أن يطرح إجابة بديلة..فلو كانت الإجابة لا ترضيه يمكنه أن يتفوق بإجابة ثالثة..لذلك المحاورات مدرسة يمكنها المساعدة في بناء عقل توليدي يتفاعل ثم يصوغ حجته هو ..هذا هو التدريب المفيد للقاريء هنا.والأمثلة التي يضربها المترجم مفيدة لمن أراد الاستفاضة.
نقف هنا ونواصل استعراض أهم أفكار مقدمة المترجم يوم الثلاثاء بإذن الله

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق