الاثنين، 31 مارس 2014

تأملات في فقه الشورى والتغيير...... أ. يحيى جاد



1- إن الاستبداد هو نتيجةُ التخلف وعلامةٌ عليه، مثلما هو سببٌ ومضاعِفٌ له. وكلُّ مجتمعٍ مستبدٍ سياسياً هو حتماً مجتمعٌ متخلف. وكلُّ مجتمعٍ متخلفٍ هو، لا مفر، مجتمع مستبد سياسياً. فالاستبداد والتخلف صنوان مقترنان، مثلما أن الشورى (=الديمقراطية)  والتحضر لا يفترقان.

2- إن مبعث الاستبداد - دائماً وأبداً، وفي أي زمان ومكان- هو (غفلة الأمة). فالأمة التي لا تقيم من نفسها رقيباً على حكامها؛ تحاسبهم على عن صغيرة وكبيرة أشد الحساب، سيستبد بها حتماً وكلاؤها؛ إذ الاستبداد أمر طبيعي في الحكام؛ فالحكم حلو الرضاع، مُرُّ الفطام. وما من حكومة، حتى ولو كانت عادلة، تأمن من المساءلة والمؤاخذة - بسببِ غفلة الأمة أو إغفالها، أو لا مبالاتها - إلا وتسارع إلى التلبس بصفة الاستبداد، ومن ثم - بعد أن تتمكن فيه - لا تتركه.
إن الطغيان لا يصنعه الطاغية، وإنما الأمة هي التي تصنع الطاغية والطغيان معاً. فالأمة مسئولة عن الطغيان مسئولية الطاغية عن نفسه وزيادة. وفي الحكمة الشعبية المصرية: "قال: يا فرعون؛ من فرعنك؟ قال: ما لقتش حد يصدني". فالأمة هي المسئول الأول والأخير، الأصلي والأصيل، حتماً وبالضرورة، عن طغيان الطغاة واستبداد  المستبدين.


3- وبناءً عليه، فإن الأمة ليس لها إلا أن تلوم نفسها مبدأً ومنتهىً إنْ هي وقعتْ فريسةَ الاستبداد. فهي الجاني مثلما هي المجني عليه. هي الفاعل والضحية. هي الظالم لنفسه والمظلوم بحاكمه. ومن ثم، فإن الأوضاع السيئة التي تتردى وستتردى فيها وإليها كل يوم هي نتاج طبيعي مستَحَق لتفريطها في حق نفسها، وتهاونها في الدفاع عن حريتها وكرامتها وعزتها وسيادتها. فالحاكم الطاغية إنما هو عقاب تلقائي وذاتي لأمة سمحت له بالاستمرار في غيه. إن الطاغية - وهو فردٌ أو حتى طبقةٌ ما - لا يمكن أن يكون أقوى من الألوف والملايين لو أنها شعرت بإنسانيتها وكرامتها وعزتها وحريتها. لا يمكن أن يطغى أحدٌ - كائناً من كان، فرداً أو طبقة- في أمة كريمة أبداً. ولا يمكن أن يطغى أحد في أمة رشيدة أبداً.

4- ويمكن اختزال المشكلة برمتها في معادلة جامعة مانعة، ذات حدين وطنيين: الأمة - كقطب موجب - والحاكم - كقطب سالب. وليس العكس على الإطلاق.
وبناءً عليه، فالمسألة - مسألة الاستبداد- داخليةٌ بحتة، وعائليةٌ يقيناً. ومن ثم، فالخطر الحقيقي على الأمة، أيةِ أمة، إنما ينبع من داخلها، من جماعتها نفسها، لا من خارجها، من الأجانب والغرباء والغزاة. فالخطر الحقيقي هو في بطش الحاكم أو عجزه من جانب، وفاعلية الجماعة وإيجابيتها أو سلبيتها من جانب آخر.

5- وجماع الأمر كله هو أن حجم الحاكم ونفوذه ودوره إنما يتناسب تناسباً عكسياً مع يقظة الأمة وحميتها وقوتها وصلابتها ومقاومتها ؛ إذ الذي يطيل عمر الظالم هو فساد المظلوم نفسه (فساده مادياً ومعنوياً)!

6- وبسببٍ مِن خطورة ومحورية مسائل السلطة والحكام والشورى والاستبداد، وجدنا القرآن الكريم قد تحدث - حديثاً في غاية الأهمية والدلالة والعمق- عن (أولي الأمر) في موطنين اثنين: "أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم" (النساء:59)، "ولو ردوه إلى الرسول وإلى أوالي الأمر منهم" (النساء: 83) .

ولنا على هذين الموطنين ملحوظتان:
  • الأولى: أن التعبير القرآني لم يتحدث عن (ولي الأمر) بصيغة الإفراد الانفراد، وإنما تحدث عن (أولي الأمر) بصيغة الجمع. الأمر الذي يزكي، بل ويوحي بضرورة جعل السلطة - في الدولة والمجتمع - جماعية شورية؛ كي لا يغري ويفضي الانفراد بالسلطة إلى الاستبداد والطغيان. فغير وارد عن الله، ولا هو من شرع الله، سلوك سبيل التفرد والانفراد بأمر المسلمين. "كلا إن الإنسان ليطغى؛ أن رآه استغنى" (العلق: 6-7). فالانفراد والاستغناء - وخاصة بالرأي أو بالقرار أو بالسلطان أو بالمال- هو المقدمة الطبيعية، والسبيل المستقيم، والقرين الصدوق، للطغيان والفساد والإفساد.
  • الثانية: أن القرآن الكريم قد اشترط لطاعة (أولي الأمر)، ولتخصيصهم بما اختصهم به، أن يكونوا (من) الأمة؛ بمعنى أن يكونوا موضع اختيارها، ومصدراً لثقتها، وأهلاً لقيادة حياتها. وفي الدلالات القرآنية تأكيد على وجوب اشتراك الرعية - بالشورى- في اختيار (أولي الأمر)، وإلا لما جاز وصفهم بأنهم (من) الرعية. فليس (منا) من هو (مفروض علينا) بالغلبة أو القهر أو الاستبداد أو التزوير. كما أن في تلك الدلالات القرآنية تأكيداً على وجوب أن تكون الشورى هي السياسة التي ينتهجها الحكام؛ لأن وجود مقاليد الأمور بيد الجماعة - (أولي الأمر)- لا يستقيم بغير اعتماد (الشورى) سبيلاً واحداً ووحيداً لإنضاج رأي هذه الجماعة، ووصولها، بحكم ولايتها للأمر، إلى مرحلة القرار الصالح للتنفيذ.
7- وبناءً على ما سبق، فإن (الدولة) في الإسلام – بجهازها ورجالها- ما هي إلا (وكيلة) عن الأمة، و(مستخلفة) من قبلها. تختارها الأمة، وتراقبها، وتحاسبها، بل وتعزلها عند الاقتضاء؛ إذ الحكام (عُمالٌ) عند المحكومين و(أُجراءٌ) لديهم. فالحكم - في الدولة الإسلامية - هو لله، بواسطة الأمة المستخلَفة مِن قِبَل الله، وليس حكمَ فردٍ أو حزب أو طبقة تحتكر الحكم باسم الله، أو دوناً عن بقية الأمة. إذ الأمة هي (مصدر) الدولة، والمشتق لا يجٌب المصدر، بل هو تابع له. وهي (مصدر) تقنين النصوص وتشريع ما لا نص فيه. وهي (الرقيبة) و(الحسيبة) على الدولة ومؤسساتها وسياساتها. كما أنها (صاحبة) السلطة والسلطان في الاختيار والمحاسبة والتغيير والعزل، وفق مصلحة وأعراف الزمان والمكان، غير مقيدة بأية قيود سوى أحكام الشريعة ومقاصدها.

8- ولنا كذلك مع سنة رسولنا الأكرم (التي هي البيان القولي والتطبيق العملي للبلاغ القرآني)، الثائرِ الإصلاحي الأعظم، محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وقفةُ تأمل. يقول عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" (أخرجه مسلم وأبو داوود).
فمقاومة الشر والفساد والإفساد في المجتمع - بحسب هذا الحديث الشريف- إنما تكون بتغييره باليد، ثم باللسان، ثم بالقلب. على هذا الترتيب في الوجوب بحسب (السلطات) و(الصلاحيات) المخولة لأيٍّ منا؛ أي بحسب (دائرة تمكين) كل فرد في المجتمع:
  • فمرتبة التغيير العملي هي لمن توفرت لديه القدرة على التغيير.
  • ومرتبة التغيير باللسان هي مهمة الدعاة والمرشدين والخطباء ووسائل الإعلام؛ أي كل من يملك أدوات التعليم والبيان والتربية والتوعية والإرشاد.
  • ومرتبة التغيير بالقلب - التي هي أدنى الوسائل وأضعف الإيمان- هي مهمة جماهير الناس فيما لا يندرج تحت دائرة التمكين العملية أو اللسانية لأيٍّ منهم.
وههنا وقفة طويلة؛ إذ كثيرٌ من الناس - خاصةً في عصور الانحطاط وعهود الاستبداد - يظن أن (التغيير بالقلب) معناه (مجرد الكراهية الباطنية)؛ أي أن تَكره الشر فيما بينك وبين نفسك، فلا ترضى عنه بقلبك - اللهم إنه منكر لا يرضيك! دون أن يبدو عليك أدنى أثر لهذه الكراهة وعدم الرضا. والحق أن في هذا الموقف تحريفاً مزدوجاً؛ تحريفاً للكَلِم في العربية، وتحريفاً لمقاصد الشريعة الإسلامية؛ وتفسير هذه المقولة فيما يلي:

أ - ذلك أن (الإنكار القلبي المجرد عن كل مظهر إيجابي أو سلبي) لا يُسمى (تغييراً للمنكرِ بالقلب)، وإنما هو (إقرارٌ سكوتي) له و(تشجيع) عليه؛ إذ النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل: "فلينكره بقلبه" وإنما قال : "فليغيره بقلبه"؛ فالذي يسكت على المنكر دون إبداء (وجه اعتراض) أو دون إبداء (مظهرٍ من مظاهر الإنكار) ليس (مغيِّراً للمنكر) بل هو (مقرٌّ به ومؤيده).

ب - ثم إن (استبطان الكراهية) للمنكر مع (بقاء المعاملة لصاحبه على وجه البشاشة والمجاملة العادية، ومع المحافظة على تحيته وتكريمه كما يُكرَّم المحسِنون) - أي: إن (استبطان الكراهية) مع (إظهار الرضا)- هو (صريح النفاق) وليس (أضعف الإيمان)؛ إذ الرسول صلى الله عليه وسلم قد جعل (التغيير بالقلب) مرتبةً من مراتب الإيمان - وإن كانت أدناها وأضعفها- فكيف ننزل نحن به -  بسوء تأويلنا - دركتين: إقراراً سكوتياً للمنكر، وإظهاراً للبشاشة في وجه من ارتكبه.

لقد أصبح أمر الشارع الحكيم لنا بالاستمساك بأدنى مراتب الإيمان أمراً بالنفاق - بسوء تأويلنا-. ارجع البصر فيما قلنا كرةً أخرى، تتبين صدق قولي. إن المقصود بـ (التغيير بالقلب) هو (المقاومة السلبية الأدبية)؛ بالمقاطعة الاجتماعية أو الثقافية أو الاقتصادية، أو بالعصيان المدني والثورة الشعبية السلمية المحافظة، قدر الإمكان، على الأرواح الإنسانية والممتلكات العامة.
فالتغيير بالقلب - كما ترى، وكما يجب- (موقف متحفظ) بل و(موقف سلمي مشتعل) يَشعُر فيه المسيء والمجرم بأنه كمية مهملة، وبأنه محروم من التكريم والتعظيم الذي قد تعوده. موقفٌ يُشعِرُه باستياء الآخرين من سلوكه، وبأنه في وحشة وعزلة بسبب هجرانهم له ومقاطعتهم إياه. موقفٌ نَشعُر فيه نحن بأننا بدلنا موقفنا الفاتر المائع المتراخي - موقفَ المجاملة الكاذبة لكل أحد ولو على حساب الحق والفضيلة- واتخذنا موقفاً آخر؛ شعوراً بمسئولية كلٍّ منا عن الحقوق والآداب العامة.

إنه موقف لا يتطلب منا أكثر من العزم والتصميم والشجاعة الأدبية في سبيل كرامة أمتنا وكرامة أنفسنا.  موقفٌ لا يكلفنا شيئاً من المجهود البدني ولا المالي، بل هو راحةُ بدنٍ وضمير، وكبحٌ لجماح الفاجر، وصفعةٌ على وجه المسيء.
على أنه لا يكفي أن يقوم بهذه المهمة فردٌ أو بضعة أفراد، بل لابد من التعاون في كل مجتمع، وكل بيئة، وكل حي، وكل قرية، على مجانبة المفسدين ومقاطعتهم، وإلا فكلنا آثمون. يجب أن يحمل الجميع راية التناصح والمصارحة والتواصي بالحق فيما بينهم، ثم مقاطعة من لا تنفع فيه النصيحة ويصر على الإثم والعدوان.

وأكرر، دونَ خوفِ مَلال، أن كراهية المنكر بالقلب دون أي مظهر إيجابي أو سلبي، مشاركةٌ في المنكر والإثم. يقول تعالى: "وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين" (الأنعام 68). "وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذاً مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً" (النساء: 140).

انظر كيف جعل الله أقل ما يخرج به المرء من المشاركة في هذه الآثام هو أن يُعرض عن صاحبها ويهجر مجلسه. إن الساكت عن أي جريمة شريكٌ فيها، ولا مخرج له من الإثم في السكوت عنها إلا بعمل ما : أقله (العمل السلبي)؛ بمقاطعة صاحبها وهجرانه، هذا أضعف الإيمان، وليس وراء ذلك حبة خردل منه : "إنكم إذاً مثلهم" (النساء: 140). ألم تسمع باللعنة التي نزلت على بني إسرائيل؟!. ألم تعلم أنهم "كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه" فاستحقوها بذلك عن جدارة؟! إذ ليس يكفي إغماض العينين، والاستمرار في المعاملة الطبيعية للآثم، فكن من الذاكرين.

إن التواصي بالحق، ومنه، بل في صلبه، مقاطعةُ الظلمة المستبدين، وإعلان العصيان المدني في وجه أنظمتهم الشائهة، والثورة الشعبية السلمية عليهم. إن التواصي بهذا الحق، والتواصي بالصبر عليه، سلاح بتار ليس فيه شيء من الخطورة على من يستعمله؛ لأنه موقف سلبي خالص لا يؤاخِذُ عليه قانون، ولا يحظره أدب. ومن عجز عن استعمال هذا السلاح الضعيف، فهو عن استعمال غيره أعجز!!

إن أســـوأ الشعــوب في ظني : شعوبٌ تمسك بها النيران من كل جانب ولا تحاول حتى أن تصرخ، وتحيط بها النكبات من كل مكان ولا تحاول حتى أن ترفض، ويحكمها الشر وترضى، ويسود فيها الصغار وترضخ، ويذبح فيها الشرفاء كل يوم وتضحك! ومن ثم، كانت، ولا تزال، وسوف تظل، سفوحُ الجبال مستقرهم الطبيعي ومقرهم الدائم؛ إذ هي مقابر المترددين المرتعشين!
------------------------------------------------------
المصادر والمراجع
1-   الإصلاح بالإسلام: معالم المشروع الحضاري للإمام محمد عبده، د/ محمد عمارة، ص (203)، ط 1، 2006م، مكتبة نهضة مصر- القاهرة.
2-   الإسلام والاستبداد السياسي، حكيم الدعوة الإسلامية/ محمد الغزالي، ص (144)، ط 1، 2003م، دار القلم - دمشق.
3-   الإسلام والتعددية: الاختلاف والتنوع في إطار الوحدة، أستاذنا الجليل د/ محمد عمارة، ص (225، 236)، ط 1، 1997م، دار الرشاد- القاهرة.
4-   الإسلام وحقوق الإنسان: ضرورات لا حقوق، د/ محمد عمارة، ص (44- 45)، ط 1، 2005م، دار السلام- القاهرة.
5-   حصاد قلم، العلامة الإمام د/ محمد عبد الله دراز، جمع وإعداد وتحقيق الشيخ/ أحمد مصطفى فضلية، مراجعة وتقديم د/ عبد الستار فتح الله سعيد، ص (290)، ط 1، 2004م، دار القلم - القاهرة والكويت.
6-   دراسات إسلامية في العلاقات الدولية والاجتماعية، د/ محمد عبد الله دراز، ص (149- 151، 152- 153)، ط 5، 2003م، دار القلم - القاهرة.
7-   شخصية مصر: دراسة في عبقرية المكان، إمام الجغرافيا الحضارية العلامة د/ جمال حَمْدَان، (2/590، 594- 599)، بدون تاريخ، دار الهلال – القاهرة.
8-   الفكر المقاصدي: قواعده وفوائده، د/ أحمد الريسوني، ص (115)، ط 2، 2008م، دار الهادي - بيروت.
9-   في النظام السياسي للدولة الإسلامية، د/ محمد سليم العوا، ص (154- 155، 160)، ط 2، 2006م، دار الشروق – القاهرة.
10- معالم المنهج الإسلامي، د/ محمد عمارة، ص (145- 146، 149)، ط 3، 1998م، دار الرشاد- القاهرة.
الكاتب؛ د. يحيى جاد: باحث مصري شاب، ومؤلف كتاب "في فقه الاجتهاد والتجديد – دراسة تأصيلية تطبيقية"، وهو الكتاب الذي قدم له د. محمد عمارة، وقرظه د. أحمد الريسوني على موقعه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق