الأربعاء، 19 مارس 2014

سقوط الإسلاموية «الأرثوذكسية» .... خليل العناني



يمثل سقوط جماعة «الإخوان المسلمين» نهاية لحقبة يمكن أن نطلق عليها حقبة «الإسلاموية الأرثوذكسية» في تاريخ الحركات الإسلامية. وأعني بذلك سقوط النموذج الكلاسيكي للحركات الإسلامية الذي قام على ثلاثة أركان أساسية: الأيديولوجية المحافظة والتنظيم الصارم والقيادة المركزية الجامدة.

على مدار العقود الأربعة الماضية، وتحديداً منذ بداية السبعينات وحتى الآن، هيمنت الحركات الإسلامية الكبرى كـ «الإخوان المسلمين» بفروعها الممتدة في الأردن وفلسطين وتونس والجزائر والعراق والمغرب وموريتانيا، وتيار الصحوة الإسلامية في الخليج والجماعات الجهادية والحركات السلفية، على المجالين السياسي والاجتماعي في العالم العربي، وكانت بمثابة قوة المعارضة الرئيسية للأنظمة السياسية القائمة. 
وقد نجحت هذه الحركات في جذب قطاعات جماهيرية من خلال ماكينة تعبوية عالية القدرة على الحشد والشحن الديني والعاطفي والسياسي لم يضاهِها في ذلك سوى الماكينة الرسمية والإعلامية للدولة. وقد استفادت هذه الحركات بذكاء من ضعف وتآكل الشرعية السياسية للأنظمة من جهة، وفشل خطط التنمية وغياب العدالة الاجتماعية من جهة أخرى، وذلك من أجل تمتين وتقوية حضورها ضمن قطاعات وفئات وطبقات اجتماعية عديدة.


اعتمدت حركات «الإسلام الأرثوذكسي» على أيديولوجية محافظة دينياً وثقافياً، خاطبت بها قاعدة اجتماعية عريضة ترنو إلى الطقوسية والشكلانية الدينية وتلهبها الحماسة الشعورية والشعبوية المرتبطة بمشروع سياسي أسطوري (المشروع الإسلامي) جرى توظيفه لملء الفراغ الأيديولوجي والرمزي في المجال العام العربي طيلة العقود الماضية بعد سقوط المشروع القومي العربي أواخر الستينات من القرن الماضي.
وفي الوقت الذي انتهت فيه الأيديولوجيات الكبرى بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وتفككه أواخر الثمانينات، انتعش الطلب على الإسلاموية كسردية أيديولوجية شمولية، تعيد تفسير التاريخ من منظور اختزالي بين الخير والشر والحق والباطل ودار الحرب ودار السلام. ولم يكن لهذه الأيديولوجيا أن تنتشر وتتغلغل ضمن أوساط اجتماعية متنوعة من دون وجود تنظيم قوي يمكنه حمل رسالتها وترسيخها من خلال عمليات التنشئة والتلقين داخل المحاضن التربوية لهذه الحركات، ناهيك عن دوائر التواصل الاجتماعي عبر الأسر والشبكات الاجتماعية الواسعة التي وطدت هذه الأيديولوجيا وجعلتها بمثابة إكسير الحياة لفئات الطبقة الوسطى والدنيا وبعض شرائح الطبقة العليا.

ولأسباب عديدة ليس أقلها عمليات القمع والمطاردة التي تعرض لها الإسلاميون، تحولت تنظيماتهم إلى كيانات سرية لا يظهر منها سوى جزء بسيط، في حين بقية الجسد غاطسة في عمق المجتمع. ومع الوقت، تحول التنظيم إلى هدف بحد ذاته وأصبح بقاؤه مقدماً على بقاء «الفكرة» و «المشروع» إلى أن وصل الأمر أحياناً إلى حد «تصنيم» التنظيم وتقديس قياداته التي تحولت إلى أوصياء على الفكرة والمشروع والتنظيم، وهو أمر يبدو بوضوح أثناء الأزمات التي يتحول فيها التنظيم (وليست الفكرة أو المشروع التي هي أكبر وأكثر أريحية) إلى «طوق نجاة» يتشبث به أعضاؤه باعتباره الرابط والخيط الناظم الذي يحميهم، سواء من الضربات الخارجية أو من محاولات التشكيك في الفكرة والمشروع.
وكانت النتيجة المنطقية للسرية تطوير منظومة عقائدية وقيمية تقوم على البيعة والطاعة والولاء والالتزام التنظيمي، والتي تم غزلها ونسجها باعتبارها جزءاً من العقيدة والالتزام الديني للعضو الذي يمكن من خلاله الصعود والترقي والترفيع والتضعيف والتعزير داخل التنظيم. وقد أدى هذا الدمج بين التنظيم والمشروع أو الفكرة إلى خلل في الفهم والحركة وازدواجية في العمل والاستراتيجية.

وفي ظل التنظيمات المغلقة تصبح القيادة هي المصدر الأساسي للشرعية وليست الفكرة أو المبدأ. وتصبح طاعة أوامرها أو عصيانها بمثابة ترمومتر لقياس درجة ولاء الفرد (وأحياناً إيمانه). وهو أمر يبدو بوضوح في حالة جماعة «الإخوان المسلمين» التي تحولت خلال العقدين الأخيرين إلى «تنظيم بدون عقل» سيطرت عليه مجموعة من القيادات التي أعادت هيكلة التنظيم ورسم موازين القوى لصالحها. وقد استغلت هذه القيادات حالة القمع التي تعرضت لها الجماعة من أجل إحكام سيطرتها على التنظيم وتغذية ثقافة الولاء والانتماء لها ولأفكارها في حين همشت وعزلت وأقصت كل من حاول نقدها أو الاقتراب من مصالحها. وقد وصلت الثقة في هذه القيادات إلى حد الطاعة العمياء لقراراتها من دون مساءلة أو مراجعة.

لم يكن لمثل هذه التنظيمات «الأرثوذكسية» أن تصمد في وجه رياح «الربيع العربي» التي جرفت أنظمة عتيقة ووضعت الأيديولوجيات والحركات التقليدية على المحك. وبمرور الوقت انكشفت قدرة هذه التنظيمات والحركات على التكيف مع البيئة المحلية والإقليمية المتغيرة بشدة والتي كانت بحاجة إلى خطاب ورؤية واستراتيجية وأدوات جديدة من أجل مواكبة سرعتها وتحولاتها.
ولكنها عجزت بسبب قيود الأيديولوجيا والتنظيم والقيادة العاجزة، وهو أمر يبدو بوضوح منذ سقوط جماعة «الإخوان» وحتى الآن، فالبرغم من الدور المهم الذي لعبته قوى الثورة المضادة ومن يدعمها داخلياً وخارجياً فى إسقاط «الإخوان»، إلا أن الأيديولوجيا «الإخوانية» كانت قد فقدت جزءاً كبيراً من بريقها ورصيدها الشعبي بعد عام واحد في السلطة، وانكشف كثير من المقولات الرئيسية للتنظيم، على غرار «الإسلام هو الحل» و «المشروع الإسلامي» و «التمكين» و «أستاذية العالم»... إلخ، والتي ثبت أنها لم تكن سوى مجرد شعارات للتعبئة والحشد من دون أي مضمون أو معنى حقيقي. وقد أثبتت خبرة الشهور القليلة الماضية أن «الأيديولوجية الإخوانية» ليست الوحيدة في المنطقة وإنما هناك أيديولوجيات أخرى منافسة لها تمكن صناعتها أو بعثها من جديد، مثل أيديولوجيا «الوطنية الشوفينية» و «الزينوفوبيا»... إلخ.

والأكثر من ذلك أن التنظيمات «الأرثوذكسية» أصبحت رهينة لقياداتها حضوراً وغياباً، فبالبرغم من قدرة التنظيمات المغلقة على ملء فراغ القيادة بشكل سريع نتيجة للتراتبية الداخلية وتسلسل القيادة، إلا أن غياب العقل المركزي للتنظيم من جهة، وأزمة الشرعية التي تواجه القيادات الوسيطة من جهة أخرى تمثل عنصر ضعف، وربما تؤدي إلى افتقاد التماسك الداخلي، وهو ما يبدو بوضوح في حالة «الإخوان» في مصر التي يعاني فيها التنظيم من ضعف وتراجع واضح في الخطاب والأداء والاستراتيجية منذ انقلاب ٣ تموز (يوليو)، وذلك بسبب اعتقال معظم قيادات الصفين الأول والثاني وهروب واختفاء الآخرين الذين قادوا التنظيم طيلة الأعوام الثلاثة الماضية وإن كانت القاعدة التحتية للتنظيم تعمل بشكل روتيني.

وتكمن المشكلة الأكبر في تداعيات تفكيك التنظيمات الإسلامية «الأرثوذكسية»، إن على مستوى الأيديولوجيا أو الحركة، فمن جهة من شأن عمليات القمع والملاحقة والمطاردة التي تجري ضد الإسلاميين حالياً، شد هذه الأيديولوجيا باتجاه اليمين الديني الأكثر جنوحاً وتشدداً بدلاً من أن تدفعها باتجاه المراجعة والمصالحة مع الذات والآخر، وهو أمر لا تخطئه العين في مصر حالياً في ظل تصاعد لغة وخطاب التكفير والعنف والتشدد بين جيل الشباب من الإسلاميين.
ومن جهة ثانية، فإن غياب الوسائط السياسية والاجتماعية (الأحزاب والمنظمات الأهلية والصالونات الفكرية) لا يوفر بديلاً للأجيال الوسيطة من الإسلاميين يمكنها اللجوء إليه والعمل تحت مظلته بأريحية، وهو ما يعطل عملية التفكيك الذاتي لهذه التنظيمات والتي كانت ستحدث بحكم الزمن وتقلباته.
ومن جهة ثالثة، فإن غياب الحرية وتراجع التدافع السلمي بين القوى والحركات والأحزاب ذات المرجعية الإسلامية من شأنه أن يزيد الاحتقان الأيديولوجي والسياسي ويؤدي إلى صراع (وربما اقتتال) عقائدي وطائفي لا يمكن التنبؤ بنهاياته.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق