الاثنين، 3 أكتوبر 2011

الإسلاميُّون بين الدعوة والدولة (ج1/3)…… د. طه جابر العلواني

فى مرحلة الشباب الأولى من (18-35) من العمر كنت مثل كثيرين من أترابي شديد الحماس لرؤية «دولة إسلاميّة»، أي دولة يرأسها خليفة، تطبق الأحكام الفقهيّة وتقيم الحدود (العقوبات)، التي يطلق عليها «الحدود الشرعيّة». لقد صورت لنا ثقافة المسلمين في تلك المرحلة أنّ العيش في ظل نظام يحمل هذه الصفة يمثل طريقًا يبسًا إلى الجنة لا يخاف سالكه دركًا ولا يخشى؛ لتداول خبر شائع يحتاج سنده ومتنه إلى جهودٍ بحثية للتأكد من مستوى الثقة به سندًا أو متنًا من عدمها، ألا وهو «من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهليّة»([1])، وهذا الخبر شاع واشتهر لاتخاذه أصلا استندت إليه أنواع كثيرة من البيعات للحكام وللمشايخ وللمراقبين والمرشدين وأئمة الدعوة، وعززت تلك الثقافة بحديث «التأمير»: «إذا كنتم ثلاثة فأمِّروا عليكم أحدكم»([2]).
لقد كنَّا نرى أنَّ العيش في ظل أمير للمؤمنين من «الموقعين عن رب العالمين» يضمن لنا سبعين في المائة أو أكثر من الجهود المطلوبة لدخول الجنة. وأتذكر أيضًا ذلك الحديث الذي جعلتنا كثرة ترديدنا له نستغني بها عن النظر في صحة سنده أو متنه، وهو: «المرأة نصف الدين فاتق الله في النصف الآخر»([3])، فإذا رزق الإنسان «الودود الولود» وخليفة يطبق الأحكام ويقيم الحدود فقد ضمن لنفسه الجنة!! 

ولقد دخلت في الرابعة والعشرين من عمري في جدال مع عبد الكريم قاسم، الذي حكم العراق بعد انقلاب ناجح قاده ضد الملكيَّة مع عبد السلام عارف، صيف ( 1958م ) حول النظام الإسلاميَّ استغرق عدة ساعات، وكدت أفقد فيه حياتي بمسدس عبد الكريم لولا عناية الله ثم الأجل، فالرجل كان يهاجِم بشدة النظام الذي أسسه المسلمون في واقعهم التاريخي، وكنت أدافع عنه دفاع المستميت معتبرًا أسوأ مَا فيه أحسن وأعدل مما أفرزه أيُّ نظام آخر، ومنها نظامه الجمهوري. ثم بدأت السن تتقدم والتجارب والخبرات تكثر وتتراكم، والقراءآت تزداد، والعقليَّة تتحول من حالة «التلقي المستسلم» لكل مَا يقرأ إلى حالة «النقد والتحليل» والتفكير بما يعرض من جوانب عديدة فبدأت الطريقة المتسائلة والمنهج ينموان فإذا بى أعيد النظر في كثير من تلك الأفكار وأراجع الكثير من تلك المسلَّمات، فاكتشفت الظلم الفادح الذي أوقعته «الدولة بالدعوة»، وذلك أنَّ الإسلام دين عالميّ يشتمل على الحنيفيَّة السمحاء كلها يحمله خطاب عالميّ شامل للبشريَّة كلها، لم يستثن ولا يستثنى أحدًا منها فالبشريَّة كلها مخاطبة به مدعوة لتلقيه بشموله وعمومه وعالميّته، فآفاق الدعوة لا تحدها حدود ولا تقيدها قيود إلا مَا يتعلق بحقيقتها وخصائصها وآفاقها الرحبة الواسعة.

 أما الدولة أو الحكومة أيَّا كان نوعها فإنَّها أخص في حقيقتها ومقاصدها وأهدافها واهتماماتها من الدعوة، ويمكن للدولة أن تتبنَّى قيم دعوةٍ وأهدافًا منبثقة عنها دون أن تمزج بين الاثنين أو ترفع الفروق بين الجانبين، فذلك أمر يضر بالدعوة ويضيق ميادينها ولا يقدم للدولة الكثير وحينما يمزج بين الأمرين فلن يمضى زمن طويل حتى يجد رجال الدعوة أنفسهم في حالة حرب أو عداء أو مواجهة مع رجال الدولة، فالدولة بمثابة جهاز استهلاكي ضخم ودولاب يحتاج إلى أن لا يتوقف عن الدوران أو النشاط ولو للحظة، ويغلب أن تجد الدولة نفسها شاءت أم أبت في حاجة إلى تجاوز بعض مَا لا تستطيع الدعوة أن تتساهل فيه أو تتهاون، وهنا يحدث التصادم الحتمي بين الدولة والدعوة.

 وحين ننظر في تاريخنا نظرةً فاحصةً بدءًا من الفتنة الكبرى واستشهاد ذي النورين، ثم اغتيال على بن أبي طالب، ثم انتشار الفرق، وحروب الصحابة كمعارك الجمل وصفِّين، ثم ثورة أبي عبد الله الحسين رضي الله عنه وأرضاه، ومحمد ذي النفس الزكية، ثم ثورة القراء بقيادة عبد الرحمن الأشعث والصراع بين أهل السيف وأهل القلم، ثم بين أهل السيف أنفسهم، ثم أهل القلم في ميادينهم ومجالهم يتبيّن لنا أنَّ من أهم مداخل الفهم والتفسير لأجل مَا حدث من أحداث جسام يعود إلى ذلك الصراع بين حملة الدعوة ورجال الدولة، ولعلّ من آخر مَا عُرف، صراع الملك عبد العزيز والإخوان الوهابيَّة بقيادة الدويش. 

ثم تلك الصراعات التي بدت بعد الثورة في إيران بين رجال الدعوة والدولة، خاصّة حين كان رجال الدعوة يرون أنَّ لديهم فرصة مواتية عليهم أن يستغلوها لنشر الدعوة في حين كان رجال الدولة يراعون مواقف سياسيّة معينة ويحاولون أن يدرأوا عن سمعة الدولة الإيرانيَّة تهمة العمل على تصدير الثورة إلى الخارج، وكان ذلك الاختلاف بداية الانقسام إلى محافظين وإصلاحيّين، وقد جرت مع جميع الاحتياطات الضروريَّة التي اتخذتها الدولة بتعدّد المجالس الضابطة لحركة الدولة والدعوة احتكاكات لا يمكن إنكارها واستبعاد آية الله حسين على منتظري وإبعاده عن موقع الولي الفقيه مع أنّه كان المرشح الوحيد لذلك بعد الخميني نموذج لتلك الصراعات التي لم تكن في نظرنا سوى أمور عادية لا بد أن تظهر إذا وضعت الدعوة مع الدولة في موقعٍ واحد.

 كما أنَّ القلق الذي اتسمت به حركة الدولة أو الدول التي عملت على تبنّى توجهات المزج بين الدعوة والدولة نستطيع رصدها في سائر التجارب وفي مقدمتها التجربة الباكستانيّة، ومن أواخرها التجربة السودانيّة مرورًا بتجارب الدولة السعوديَّة الأولى مع الدعوة السلفيَّة، والدولة الليبيّة مع الدعوة السنوسيَّة، والمهديّة في السودان وغير ذلك كثير.
 وقد يكون لجوء بعض الحركات الإسلاميَّة إلى تأسيس أحزاب إلى جانب حركاتها وتيَّاراتها محاولةً لفك الارتباط بين الجهتين، «جهة الدعوة وجهة الدولة»، وإعطاء كل منهما الأفق الذي تحتاجه والمجال الخاص بها تلافيًا لأيّ صدام ومنعًا للوقوع في محذور تحجيم أي منهما للآخر.

 إنَّ النموذج الوحيد الذي التقت فيه الدعوة مع الدولة –بشكل سليم- هُوَ نموذج الخلافة الراشدة، والخلافة الراشدة نجحت في عهد الشيخين وسنوات من عهد كلٍ من عثمان وعلى رضي الله عنهم أجمعين لأنَّها كانت خلافة علىّ منهاج النبوة يجتمع فيها عنصرا الدولة والدعوة في حاكم واحدٍ قادر على تجسيد الوظيفتين في مرحلة انطلاقٍ وإقلاعٍ لها ظروفها الزمانيَّة والمكانيَّة والمحليَّة والخارجيَّة؛ ولذلك مَا كان من الممكن أن يتكرر ذلك النموذج في أيّة مرحلةٍ من مراحل التاريخ الإسلاميَّ.

 إذا تبيّن مَا تقدم وفهم مَا أريد، فإنَّني أود أن أقول لرجال الدعوة في كل حركة إسلاميّةٍ، إنَّ لهم الحق في أن يلتزموا بمتطلَّبات الدعوة وبسقوفها المعرفيَّة مهما كانت عالية، لأنَّها والحالة هذه تقدم السقف الذي ينبغي أن يحاوله الدعاة، فهي مثل قوله تعالى: ]إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ[(الأنفال: 65) فذلك السقف العالي الذي يمكن للداعية أن يحض المجاهدين أو المقاتلين على أن يرتقوا إليه ويحاولوا بلوغه ويصبحوا وهم ينادون به بمثابة الخزانة التي ترفد معنويّات أبناء الأمّة بالسمو والطموح الذي تشتد حاجتهم إليه.

 أما العسكري في الميدان فإنه لا يستطيع أن يتجاوز الطاقة الواقعيَّة لجنده كثيرًا ليبلغ إلى المثال أو إلى السقف الأعلى مع وجود طاقة بشريّة محدودة فيأخذ بقوله تعالى: ]الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ[ (الأنفال: 66)، وذلك يعني: أنَّ من هُوَ في الميدان في مجال سياسي أو عسكري في حاجة إلى مرونة وقواعد تقربه إلى الواقعية بشكل شديد ليستطيع أن يستجيب للحاجات الدوارة السريعة المتجددة للدولة، في حين أنَّ الداعية يستطيع أن يرسم الآفاق العليا انطلاقًا من مثاليَّة الدعوة وقواعدها المذهبيَّة، في هذه الحالة لن يقع تصادم بين الداعية والسياسي، فالداعية سوف يتفهم موقف السياسي والعوامل التي تحكمه، والسياسي سوف يتفهم موقف الداعية والعوامل التي تحكمه، فلا يضغط على الداعية ليبحث له عن رخص وتأويلات وتنازلات لا شك أنَّها ستعود بكثير من الأفكار السلبيَّة على الدعوة وقد تعرّض كثيرًا من الثوابت لمحاولات الإلحاق بالمتغيِّرات تحت ضغوط الممارسات اليوميَّة، في الوقت نفسه سوف لن يجد الداعية نفسه مضطرًا إلى الضغط على رجل السياسة الذي هُوَ شقيقه وأخوه، لا يفصل بينهما إلاَّ اختلاف طبيعة العمل ليضغط عليه باسم الدعوة لتبنِّى أو تمثيل أو اتخاذ سياسات قد تؤدى إلى إحراج الدولة ورجال السلطة.

 لو نجحت هذه المعادلة فإنَّ الفريقين سيسيران في خطين متوازيين إلى الهدف المشترك والمقاصد العليا المشتركة دون أن يحرج أيٌّ منهما الآخر ودون أن يقعا في حالة تصادم.
 هذه المقدّمة ضروريّة لتناول مَا سنتعرض له من اجتهادات معاصرة مرت أو محاولات اجتهاد منتظرة نسمع فيها ونقرأ اختلافات كبيرة بين دعاة وسياسيّين أو رجال حكم كثير مَا نجد الناس منقسمين حولها على مستوى الحزب الواحد والحركة الواحدة.

 مثل من تجربتي السياسيّة:
 لقد اشتركت في مقتبل العمر في تجربة سياسيّة، وذلك حين سمحت ظروف العراق في عهد عبد الكريم قاسم في ستينات القرن الماضي بتشكيل أحزاب سياسيّة، وقام عدد من حملة الدعوة والهم الإسلاميَّ بتأسيس «الحزب الإسلاميَّ العراقي»، الذي أُعلن أنَّه سيؤسسه عدد من الإسلاميّين المستقلين، وكنت من بين هؤلاء المستقلين، واتضح فيما بعد أنَّ من روجوا لتأسيس هذا الحزب في بادئ الأمر كانوا «الإخوان المسلمون في العراق» الذين كانوا يعملون في إطار تنظيم سرىّ، فقرروا تأسيسه ليكون واجهة علنيَّة لهم، ووضع المستقلون أمثالي في إطارٍ جعلهم يشعرون بأنّهم أهل هذا الحزب وأصحابه ومؤسّسوه وأنَّ الآخرين هم إخوان قرروا تجاوز العمل السري إلى العلن، فأصبح كل منهم لا يختلف عن أيّ إسلاميَّ مستقل يمارس التحرك والعمل السياسي؛ انطلاقًا من مرجعيَّة الإسلام ولتحقيق مقاصده وغاياته. وبعد قيام الحزب وبدءه ممارسة نشاطه العلني فوجئ المستقلون أمثالي بأنَّ القيادة الحقيقيَّة للحزب إنَّما هِيَ القيادة السرية لجماعة الإخوان العراقيّين، أمَّا قيادة الحزب فلا تستطيع أن تمرر قراراتها أو تنفذها إلا إذا صادقت عليها قيادة الإخوان السريَّة، وكان ذلك أول الوهن وبداية الفشل التي أدت بعد ذلك إلى توقف نشاط الحزب تمامًا إلى أن قام قادة الحزب المعاصرون بعد انضمامهم إلى المعارضة العراقيَّة بنفض الغبار عنه وتنشيطه في إطار المعارضة العراقيّة التي تسلمت السلطة بعد أن أسقط الأمريكان نظام صدام وأعوانه من «البعثيّين اليمنيّين» كما كان يطلق عليهم.

 هنا أود أن أقول إنَّ علماء الدعوة ورجال الفكر الدعوىّ ليسوا بحاجة إلى أن يسارعوا في الاجتهادات التي نسمع الجديد منها في كل يوم حول «الديمقراطيّة والتعددية الليبراليَّة والحزبيَّة» إلى آخر المنظومة، والمتصدون للفتوى من مشايخ تلك الجماعات لا ينبغي أن يسترسلوا في ذلك النوع من الاجتهادات التي كانت لها آثار سلبيّة في عصر بروز فكر «المقاربات والمقارنات» في القرنين التاسع عشر والعشرين، وقد تكون لها آثار سلبيّة في مقبل الأيام وسأستعرض فيما يلي شيئًا من هذه الاجتهادات محاولا بيان مَا فيها من استعجال لأؤكد أنَّ الأولى هُوَ أن نفصل بين مؤسّسة الدعوة ونحافظ على مثاليَّتها والمؤسّسة السياسيَّة لنحافظ على مرونتها وعمليَّتها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق