الأحد، 23 أكتوبر 2011

جيش مصر وثورة مصر…….. معتز بالله عبدالفتاح

هذا المقال نصفه عن الحاضر، والنصف الآخر عن المستقبل. النصف الأول يتحدث عن إدارة المجلس الأعلى للقوات المسلحة للمرحلة الانتقالية والنصف الآخر عن مستقبل علاقة المؤسسة العسكرية بمؤسسات الدولة المصرية الأخرى.

فيما يتعلق بالحاضر، فإن الجيش قام بدور الوكيل عن الشعب فى إدارة المرحلة الانتقالية من خلال مصدرين للشرعية تداخلا وتلازما لكنهما تمايزا من حيث الزمن والدلالة. مصدرا الشرعية عبر عنهما أولا الشعار الذى ظهر فى مساء يوم 28 يناير حين قال المتظاهرون «الجيش والشعب إيد واحدة» بعد أن كانوا يقولون «الشعب يريد إسقاط النظام.» وكأنهم بهذا يعلنون أن الجيش والشعب إيد واحدة فى إسقاط نظام مبارك. لكن هذا المصدر للشرعية واجه ويواجه ثلاثة تحديات. فمن ناحية لم يحدث اتفاق بين الثائرين والمجلس العسكرى بشأن كيفية إدارة هذه المرحلة وبأى سرعة. من ناحية أخرى كان الأداء العام للدولة المصرية فى مرحلة ما بعد الثورة ليس فى أحسن أحواله فى ظل إدارة المجلس العسكرى سواء أمنيا أو اقتصاديا أو سياسيا بما فتح بابا للنقاش بشأن كفاءة الإدارة العسكرية للبلاد، وأخيرا زيادة فجوة الثقة بين المجلس والكثير من القوى السياسية وقيادات الرأى العام. وهنا ظن الكثيرون فى المجلس العسكرى الظنون وترجمت هذه الظنون فى الدعوة للعديد من المليونيات التى تعبر عن سخط الكثير من الثائرين على أداء المجلس العسكرى والحكومة.

وكان المصدر الثانى لشرعية المجلس العسكرى كما قال بها أحد قيادته هو شرعية «نعم» للتعديلات الدستورية؛ ففى حدود فهم بعض أعضاء المجلس لدلالات «نعم» أنها مبايعة للمجلس كى يدير المرحلة الانتقالية وفقا لرؤيته ولا قيد عليه إلا تفسيره لمواد الاستفتاء الموافق عليها. لكن هذه الشرعية واجهها تحديان. التحدى الأول هو حقيقة أن الإعلان الدستورى كان أكبر كثيرا من المواد التى استفتى عليه الناس؛ فقد تتضمن الإعلان الدستورى 63 مادة من بينها مادة الإصدار، مع أن الاستفتاء كان على 11 مادة فقط، وكان السؤال المشروع لدى البعض طالما أننا تخلينا عن دستور 1971، ألم يكن من الأوفق أن نعمل استفتاء على دستور جديد؟

●●●

التحدى الثانى كان تحويل المجلس الأعلى للقوات المسلحة «نعم» إلى «لعم» مزاوجا بين إجراءات «نعم» ولكن بسرعة «لا.» كما هو مفهوم «نعم» كانت تعنى جدولا واضحا وسريعا نسبيا لتسليم السلطة إلى برلمان ورئيس منتخبين على أن تبدأ هذه العملية من يونيو الماضى. وكان هذا يتفق مع ما فى الرسالة رقم «28» من المجلس الأعلى للقوات المسلحة بتاريخ 27 مارس 2011 أى بعد أسبوع من إعلان نتيجة الاستفتاء وقبل ثلاثة أيام من إعلان البيان الدستورى والذى كان يقول: «يؤكد المجلس الأعلى للقوات المسلحة أنه لا صحة للأنباء التى تناقلتها وسائل الإعلام المختلفة عن تأجيل انتخابات الرئاسة لعام (2012)، كما يؤكد المجلس أن القوات المسلحة تسعى لإنهاء مهمتها فى أسرع وقت ممكن وتسليم الدولة إلى السلطة المدنية التى سيتم انتخابها بواسطة هذا الشعب العظيم. والله الموفق». ولكن حدث تراجع عن هذا الوعد فى نص المادة 60 من الإعلان الدستورى والذى «ضبط» وفقا لتعبير أحد قيادات المجلس العسكرى المادة 189 مكرر والتى كانت تنص على أن «يجتمع الأعضاء غير المعينين لأول مجلسى شعب وشورى تاليين لإعلان نتيجة الاستفتاء على تعديل الدستور لاختيار الجمعية التأسيسية المنوط بها إعداد مشروع الدستور الجديد خلال ستة اشهر من انتخابهم وذلك كله وفقا لأحكام الفقرة الأخيرة من المادة 189». ولكن جاءت المادة 60 من الإعلان الدستورى مضافا إليها أن يكون هذا الاجتماع «بدعوة من المجلس الأعلى للقوات المسلحة» وكأنه بهذا قرر أن يتخلى عن الإعلان 28 الصادر قبل الإعلان الدستورى بثلاثة أيام. وبهذا أجل المجلس صراحة عملية تسليم السلطة من عام 2011 إلى عام 2012 عكس ما كان يريد أهل «نعم».

إذن المحصلة النهائية أن المرحلة الانتقالية كانت أكثر ارتجالية ومليئة بالتخبط من قانون إلى تعديل، ثمن من التعديل إلى تعديل التعديل. بل إن المجلس من وجهة نظر الكثير من الثائرين كان أقل ثورية وإصلاحية وأكثر محافظة (وربما رجعية) مما تمنوا.

وفى كل الأحوال، المحك الرئيس هو ماذا بعد المرحلة الانتقالية. وهذا هو الجزء الخاص بالمستقبل فى هذا المقال. تشير النظم السياسية المقارنة إلى أربعة بدائل فى علاقة القوات المسلحة بعمليات التغيير الثورى، والنظام السياسى الناتج عنه. هناك أولا بديل أن تتحول الثورة إلى انقلاب مثلما حدث فى ميانمار وفى بوليفيا حيث يختطف الجيش الثورة ويصعد على سلمها ليحتكر السلطة وكأننا نعيد إنتاج سيناريو 1954. وهناك ثانيا أن يدافع الجيش عن النظام القديم ضد الثوار مثلما يحدث فى سوريا الآن، وحدث فى الصين فى 1989 والأمثل كثيرة. ولكن مصر تجاوزت هذه المرحلة. وهناك ثالثا، أن يدير الجيش من خلف الستار، وهذا تاريخ تركيا منذ استقلالها فى عام 1924 وحتى التعديلات الدستورية فى 2010 والتى قلمت أظافر الجيش تماما. وهناك البديل الرابع وهو أن ينسحب الجيش من الحياة السياسية ويترك السلطة للمدنين المنتخبين ديمقراطيا. وهذا البديل الرابع هو واحد من أهداف ثورتنا. ولكن السؤال هو: ما هى الشروط المفضية لهذا البديل؟

●●●

أقترح رؤية ثلاثية تقوم على ثلاثية:

أولا: «عفا الله عما سلف» فى كل ما يتعلق بمرحلة ما قبل 25 يناير أى أن الثورة تجب ما قبلها لكل من لم يعاديها. وهى الخبرة المعروفة فى الكثير من دول أفريقيا جنوب الصحراء وأمريكا اللاتينية تحت صيغة «التحول بالتعاقد» (Pacted Transition) عن الطريق التعاقد مع النخبة القديمة على أن تترك السلطة بعفو رئاسى تام مثلما حدث مع الرئيس «بينوشية» فى شيلى والذى أُعطى مقعدا أبديا فى مجلس الشيوخ مع قرار بعدم المساءلة له ولأى من رموز حكمه. وقد أقر الجيش هذا المبدأ بالفعل من خلال قانون لا يحاكم بموجبه العسكريون الحاليون والسابقون إلا أمام محاكم عسكرية.

ثانيا: لا بد من الالتزام بمبدأ «وحدة الموازنة وشمولها» فلا يوجد فى دولة ديمقراطية حديثة إلا موازنة موحدة لكافة قطاعات الدولة بما فى ذلك قواتها المسلحة. وما كان مقبولا فى الماضى لم يعد مقبولا فى المستقبل. قطعا فى الدول الديمقراطية هناك سرية بشأن بعض البنود ولكنها سرية فى إطار منضبط يسمح بمراجعتها من قبل لجان متخصصة من البرلمان. وما كان متوقعا من المجلس العسكرى من إجراءات كى يوقف نزيف الخصخصة والفساد فى الماضى، لن يكون متوقعا منه فى المستقبل كما أن الاحتفاظ باقتصاد عسكرى مواز للاقتصاد المدنى سيحتاج توافقا سياسيا وشعبيا، وضمان الرقابة البرلمانية فى كل الأحوال.

ثالثا: لا بد من النص الصريح فى الدستور على حدود الدور السياسى للمجلس العسكرى. وهذه نقطة حساسة لكن لا بد من مناقشتها، لأن هناك تقاليد استقرت بأن رئيس الجمهورية بحكم كونه قائدا أعلى للقوات المسلحة كان يستدعى وحدات من القوات المسلحة كى تقوم بمهام «شرطية» فى حالة قيام تهديد لمؤسسات الدولة مثلما حدث فى أحداث يناير 1977، وفى فبراير 1986 (أحداث الأمن المركزي) ثم فى يناير 2011 حين أجبر الرئيس مبارك على «التخلى» و«تكليف» المجلس الأعلى للقوات المسلحة بإدارة البلاد رغما عن أن دستور 1971 فى الفصل السابع من الباب الخامس (نظام الحكم) والذى يناقش طبيعة ودور «القوات المسلحة ومجلس الدفاع الوطنى» لا ينص على أى شىء يشير إلى تدخل القوات المسلحة فى الحياة السياسية على هذا النحو الذى تم فى عهد الرئيسين السادات ومبارك. ما أقترحه أن يتم النص صراحة على أن يكون تدخل وحدات من القوات المسلحة بناء على قرار من رئيس الجمهورية أو أغلبية أعضاء مجلس الشعب شريطة موافقة المحكمة الدستورية العليا بحكم أنها مسئولة عن ضمان عدم مخالفة القوانين والقرارات للدستور. هذا طبعا يتطلب إصلاح قانون المحكمة الدستورية العليا كذلك حتى لا يكون قرار تعيين قضاتها قرارا سياسيا صرفيا، وإنما يكون هناك قيود تضمن عدم تسييس المحكمة.

أما وأن القاعدة استقرت فى استدعاء الجيش للتدخل فى الحياة السياسية، إذن لا بد من تقنين هذا التدخل حتى لا تتحول القوات المسلحة إلى أداة حزبية من قبل البعض ضد الآخرين. والله الموفق.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق