الأحد، 23 أكتوبر 2011

السيادة للشعب لا للبرلمان….. ابراهيم الهضيبي


تمثل الانتخابات البرلمانية خطوة ضرورية غير كافية فى مسار التأسيس لسيادة الشعب، فهى تنقل السلطة من جهة تحكم بقوة الأمر الواقع والضرورة إلى جهة منتخبة، ولكنها لا تضمن تمثيل تلك الجهة المنتخبة للإرادة الديمقراطية عند مباشرتها لمهامها التشريعية والرقابية.
 والقصور فى تمثيل البرلمان للإرادة الشعبية يأتى من جهتين،
  • أولاهما ظاهرة لا تحتاج إلى كثير بيان، وخلاصتها أن ضمانات نزاهة العملية الانتخابية من حيث الأمن والإعلام غير كافية، وأن قانون الانتخابات بصورته النهائية يعلى من قيمة القبلية والخدمات على حساب المشروع السياسى، وأن ذلك مع طبيعة التحالفات وتردى مستوى الجدل السياسى يعنى أن الانتخابات ستخرج معبرة عن موقف المقترعين من الهوية والعصبيات والخدمات لا من القضايا الملحة كالاقتصاد والأمن والتطهير، وهو ما يعنى أن البرلمان عند مباشرته النظر فى هذه القضايا لن يكون معبرا بالضرورة عن رأى الأغلبية فيها.
  • وثانيتهما تتعلق بالأطر الدستورية الحاكمة للعمل البرلمانى والتى تفترض وكالة البرلمانيين عن الشعب، وثمة متغيرات عدة توجب إعادة النظر فى هذه العلاقة، منها ما أثبتته التجربة من أن قصر سلطة الشعب على حق الاقتراع الدورى من شأنه قطع الصلة بينه وبين نوابه، وهذا ثابت فى الحالة المصرية خاصة، حيث كانت نسبة التواصل بين الشعب وساسته هى الأقل فى العالم أجمع (4%) بحسب استطلاعات مركز جالوب، كما أن هذا القصر يحول السيادة من الشعب إلى البرلمان، الذى يتمتع أعضاؤه وقتئذ ــ إضافة للحصانة القانونية ــ بحصانة ضد المساءلة والمحاسبة الشعبية.
والحاجة لقيام ديمقراطيات الوكالة لا التمثيل قد انتفت، إذ صار من الممكن توفير المعلومات التى يحتاجها المواطنون لإبداء الرأى فى القضايا محل النظر فى البرلمان بدون كثير عناء بفضل ثورة المعلومات، وأصبح بناء آليات تواصل بين الشعب ونوابه أكثر سهولة بفضل ثورة الاتصالات، وبالتالى لم تعد هناك حاجة لانفراد البرلمانيين بالتشريع والرقابة بعيدا عن الشعب.

وأتصور أن ثمة إجراءات دستورية وسياسية من شأنها انتزاع السيادة من البرلمان للشعب، فأما الدستورية فترمى لتوسيع قنوات الاتصال بين البرلمان والشعب، بحيث تشرك عموم المواطنين فى عملية التشريع، وتمكن الشعب من مراقبة البرلمان ومحاسبته خلال دورات الانعقاد لا بعدها فحسب.

وإشراك الشعب فى عملية التشريع ممكن من خلال نصوص دستورية تسمح للمواطنين بالتقدم بمشروعات قوانين، وهو حق تكفله دساتير عدة، منها الدستور الألمانى (مادة 17)، واليونانى (مادة 10)، والهولندى (مادة 5)، والدستور الإيطالى يوجب على البرلمان مناقشة مشروعات القوانين التى وقع عليها خمسون ألف مواطن (مادة 71)، والدستور السويسرى الصادر سنة 1874 يعطى للمواطنين الحق فى طلب تغيير دستور البلاد عن طريق تقديم مائة ألف مواطن للطلب الذى يجب أن يطرح وقتها للاستفتاء (مادة 120).

وقد يكون إنهاء الاحتكار بآليات أخرى تمكن الشعب من رفض التشريعات المقترحة، فالدستور الدانماركى يعطى لثلث أعضاء البرلمان حق رفض مشروعات القوانين وطرحها فى استفتاء شعبى (مادة 42)، والدستور الألمانى الصادر سنة 1949 يعطى للمجلس الاتحادى (الهيئة التشريعية الممثلة للمقاطعات على المستوى الاتحادي) الحق فى رفض القوانين الصادرة عن المجلس التشريعى (مواد 78 و84)، وهناك حقوق وآليات مشابهة فى دساتير أخرى، بعضها يعطى هذا الحق للشعب بشكل مباشر، وكلها يمكن دراستها وتنقيحها لاختيار ما يناسب الحالة المصرية.

وتمكين الشعب من المراقبة والمحاسبة خلال دورات الانعقاد يكون من خلال نصوص دستورية تعطى عموم المواطنين الحق فى إسقاط عضوية آحاد أفراد البرلمان، أو حل البرلمان مجتمعا، وذلك من خلال جمع عدد معين من التوقيعات يتناسب مع الأصوات التى حازها البرلمان ونوابه، وتفصيلات هذه الإجراءات يضيق عنها المقام، ولكنها تقصد الموازنة بين كفالة هذا الحق الشعبى، والحيلولة دون إساءة استخدامه بشكل يؤثر سلبا على مؤسسات الدولة وسير العمل فيها.

على أن هذه الأدوات الدستورية غير كافية لضمان سيادة الشعب على نوابه، إذ لا بد أن تصاحبها على الصعيد السياسى حركة تضمن تفعيلها وتحولها إلى حقوق معيشة، ولا يكون ذلك إلا ببناء منظومة متكاملة التكوينات التنظيمية الفاعلة العاملة على ذلك. 
  • الضلع الأول للمنظومة يتمثل فى الأطراف الخاسرة فى الانتخابات، والتى ينبغى ألا تقل حركتها بعدها، وينبغى أن يستمر تحركها الساعى لكسب المزيد من التأييد، ولكشف ما تراه من مساوئ فى مواقف النواب المنتخبين، وهو ما يؤدى لإنماء كتلة تتمكن من استخدام النص الدستورى المقترح بإسقاط عضوية النائب شعبيا، وبالتالى يزيد حرص النائب المنتخب على التواصل مع الناخبين وتمثيلهم بشكل منضبط لئلا يفقد تأييدهم لمنافسه. 
  • بينما يتمثل الضلع الثانى فى جماعات الضعط السياسى، والتى يعمل بعضها الآن على زيادة وعى المواطنين ومراقبة العملية الانتخابية ووضع آليات تضمن قدرا أكبر من التواصل بين الشعب ونوابه، ولا بد أن يمتد دور هذه الجماعات لما بعد الانتخابات، وأن تنشط فى تقييم أداء النواب ومقارنة مواقفهم بالبرامج التى انتخبوا على أساسها، وأن نتشر بين الناخبين المعلومات المتعلقة بأدائهم مواقفهم، إذ يؤدى تزايد نشاط تلك الجماعات لتعظيم قنوات الاتصال بين الشعب ونوابه المضطرين وقتئذ للاتصال بالشارع والاستماع لمطالبه والوصول لصيغ تشريعية وسياسية توافقية ترضى الأغلبية ليتأكدوا من استمرار عضويتهم، كما أن قوة تأثيرها من شأنه فتح المجال أمام استخدام النصوص الدستورية المقترحة للاعتراض الشعبى على التشريعات.
  • ولا يمكن لتلك الجهات العمل بمعزل عن التنظيميات المجتمعية الحيوية الأخرى، كالنقابات المهنية والعمالية، واتحادات الطلبة وأعضاء هيئات التدريس، وغيرها من الجهات التى تمثل أوعية مجتمعية يمكن من خلالها تعبئة المواطنين للدفاع عن مصالحهم وتوكيد سيادتهم، كما أنها تفرز قيادات طبيعية تمثل المجتمع وتعبر عنه وتحوز ثقته، ويمكنها إن لم تكن تمثله برلمانيا أن تقود حركته الضامنة لتأثيره فى صناعة القرار السياسى. 
وتقديرى أن تنشيط تلك الجهات وغيرها بما يمكنها من المشاركة فى هذا الحراك المجتمعى الضامن لسيادة الشعب يحتاج لقدر من الإصلاحات التشريعية، يتناول بالأساس إطلاق حق التنظيم، وإعادة النظر فى القوانين الحاكمة لعمل الجمعيات وقوانين الأوقاف لايجاد مجتمع مدنى قوى، مستقل ماديا وإداريا عن الخارج من جهة، وعن أجهزة الدولة وسلطتها التنفيذية من جهة أخرى، والسلطة بطبيعتها لا تهب هذه الحقوق وإنما ينتزعها الشعب كما حدث فى أيام الثورة الأولى، وبقى تقنينها بما يضمن عدم التراجع عنها.

إن مأسسة حالة سيادة الشعب التى عرفتها مصر فى الأيام الأولى للثورة عملية صعبة تستهلك من الجهد والوقت الكثير، وإذا كانت الانتخابات البرلمانية تنتقل بنا من سيادة الفرد غير المنتخب إلى سيادة المجلس المنتخب، فإن الانتقال الديمقراطى إنما يتم بالخطوة الأصعب وهى الوصول لسيادة شعبية ممأسسة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق