السبت، 19 فبراير 2011

شركاء لا أوصياء……. فهمي هويدي

إحدى معضلات المشهد السياسي المصري أن المتصارعين فيه يتصرفون باعتبارهم أوصياء لا شركاء، دون أن يفوضهم أحد في هذا أو ذاك.
(1)
أتحدث عن الجزء الظاهر في هذا المشهد الذي يحتل الواجهات، لأنني أعلم أن ثمة جزءا غاطسا أفضل منه كثيرا. والأول ما تقدمه لنا وسائل الإعلام وما يستأثر بالقدر الأكبر من الأضواء، في حين أن الجزء الغاطس نجا من غواية الأضواء وأثبت حضوره بالأفعال وليس بالأقوال.. الأولون هم النخب الذين فرضوا أنفسهم على المجتمع وملؤوا الفضاء العام، سواء بحكم الأمر الواقع أو من خلال وسائل الإعلام، والآخرون هم النشطاء العاديون المغمورون الذين يتحركون على الأرض، مدفوعين في ذلك بمحبة الوطن والمواطنين، وليست لديهم حسابات ولا تطلعات أو أجندات.
  
القصة عشنا وقائعها بعد الثورة، حين أقر أكثر من ثلاثة أرباع الشعب المصري (77%) في استفتاء حر بعض الأحكام الدستورية التي من شأنها ترتيب خطوات انتخاب المجلس التشريعي ووضع الدستور الجديد وانتخاب رئيس الجمهورية، ومن ثم تسليم السلطة للمدنيين في فترة لا تتجاوز شهر يونيو/حزيران لعام 2012. لكن النخب المفروضة على المجتمع والمهيمنة على وسائل الإعلام رفضت الخيار الشعبي، ومارست العديد من الضغوط والحيل التي استهدفت إجهاض المخطط الموضوع من خلال تشكيل مجالس غير منتخبة ضمت أناسا معبرين عن ذواتهم أو جماعاتهم ولا يمكن الادعاء بأنهم يمثلون الرأي العام. وتمخضت حوارات المجالس عن وثيقة إعلان المبادئ التي أريد بها فرض أجندة النخبة على المجلس التشريعي وتكبيل لجنة وضع الدستور، في مصادرة مدهشة لمختلف تجليات الإرادة الشعبية. وقد شرح كل ذلك وفضحه المستشار طارق البشري في دراسته المهمة التي نشرتها جريدة "الشروق" يومي الجمعة والسبت الماضيين (10و11 نوفمبر/تشرين الثاني).
لقد ظلت رسالة عناصر تلك النخب طول الوقت تعلن على الملأ أنها وحدها تحتكر الصواب، وأنها لا تثق في إرادة الجماهير واختيارها، من ثم فرؤيتها ووصاياها وحدها التي ينبغي الاسترشاد بها لكي ترسو سفينة الوطن على بر الأمان.
لا يقف الأمر عند حد الادعاء باحتكار الصواب في رسم مستقبل الوطن أو الإصرار على رسم ذلك المستقبل على النحو الذي تنشده النخبة، إنما بناء على ذلك أو تعبيرا عنه فإن تلك النخب اعتبرت نفسها الوكيل "الحصري" والمحتكر الأوحد لمجموعة من القيم والشعارات الإيجابية التي في مقدمتها الديمقراطية والليبرالية والمدنية والحداثة والتنوير. وتمسكوا بنسبتها إلى العلمانية في حين أن تلك القيم (ونقيضها أيضا) موجودة داخل كل تيار، بما في ذلك محيط الإسلام السياسي.
(2)
في الأسبوع الماضي قرأنا قول أحد المرشحين في الإسكندرية إنه بظهورهم في الساحة وبفوزهم المنشود في الانتخابات "فإن الإسلام قادم وحكم الشرع قادم". كأن الإسلام كان غائبا عن مصر طوال السنين والقرون التي مضت، وسيعود إليها إذا فازوا بإذن واحد أحد، وبذلك اعتبروا أنفسهم هم الإسلام، إذا غابوا غاب وإذا حضروا حضر.
يوم الخميس الماضي 10 نوفمبر/تشرين الثاني نشرت صحيفة "الوفد" حوارين مع اثنين من رموز السلفيين تحت عناوين كبيرة على ثمانية أعمدة، ونقلت عن أحدهما قوله: انتهى عصر شرب الخمر وتعري النساء في الشوارع، وقال الثاني: لو وصلنا إلى الحكم سنغلق الملاهي الليلية ومصانع السجائر!
صحيح أن العناوين لم تخل من اصطياد، وأن الحوار فاحت منه رائحة الإيقاع والتوريط، إلا أن المتحدثين استجابا للتوريط وتكلما كما لو أن المجتمع على أيدي جماعاتهم سوف ينتقل من الفساد إلى الصلاح ومن الضلال إلى الهداية والرشاد. ولا أستثني من ذلك أصواتا من مرشحي الإخوان اعتبروا أنفسهم قاطرة المجتمع، ولم يروا في الآخرين سوى مقطورات تجرها القاطرة وراءها.
(3)
أكثر ما يلفت النظر في ذلك الاحتراب أن الطرفين لم يتحدثا عن أي مساحة مشتركة يمكن أن يعملا فيها سويا، رغم أن ذلك المشترك متوافر في ساحة العمل الوطني، خصوصا في مجالات الدفاع عن الديمقراطية والاستقلال والتنمية والعدالة الاجتماعية.
في هذا الصدد لا مفر من الاعتراف بأن النخب العلمانية التي ظلت مهيمنة على مختلف المنابر هي الأكثر تشبثا بمفهوم الوصاية ورفض الشراكة. وذلك مفهوم، لأنهم يدافعون عن مواقعهم واحتكارهم التقليدي لتلك الواجهات، بسبب من ذلك فإن الدور الوصائي للنخب العلمانية اقترن برغبة شديدة في الإقصاء، وهذه الروح الإقصائية واضحة فيما خص التيار الإسلامي. وذلك واضح في مجالين على الأقل يمثل الإعلام أولهما.
  
جدير بالذكر في هذا السياق أن الإعلام المتصيد يجد في جماعات السلفيين حديثي العهد بالعمل السياسي مادة وفيرة للتخويف والإثارة، وحين رجعت إلى نص الحديث الصحفي الذي أجري مع القيادي السلفي الذي سبقت الإشارة إليه، وجدت أن الأسئلة التي وجهت إليه كانت كالتالي: أصحاب محال الخمور وأصحاب الملاهي الليلية يتخوفون من وصول السلفيين للحكم، ما تعليقك؟ ماذا عن السجائر؟ ماذا عن السائحات العاريات؟ البعض يتخوف من فرض النقاب في حال وصولكم للحكم؟ لو انتخبت سلفية عضوا بمجلس الشعب هل ستدخل بالنقاب أم بالحجاب؟
(4)
من يقرأ الصحف المصرية يقتنع بأن في البلد قبيلتين تقتتلان، وأن النخبة تركت الثورة وأهدافها في المطالبة بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية وتفرغت للاقتتال والسباق حول مقاعد مجلس الشعب المقبل. وهو انطباع صحيح بصورة نسبية، لأن ذلك حال النخب الطافية على السطح التي أشرت إليها في البداية، إلى أنها تمثل الجزء الظاهر من المشهد، في حين ذكرت أن ثمة جزءا غاطسا أكثر جدية وبراءة، وأكثر وفاء للثورة وأهدافها.
ولأنهم كذلك فهم لا يزالون يعملون بروح ميدان التحرير، حين التحم الجميع مع بعضهم البعض وظلت أعينهم معلقة بأهداب الوطن. لم تشغلهم المغانم ولم تحركهم المرارات والحسابات المتراكمة، وإنما خلع كل منهم انتماءه الفكري والسياسي وظل مهموما بشيء واحد هو الشوق إلى استرداد الوطن من خاطفيه وإلى إقامة الحلم على الأرض. هم من قماشة الذين خرجوا إلى الميادين في 25 يناير. وبعدما انفض الجمع فإنهم شكلوا من أنفسهم جماعات انتشرت بين الناس لكي يواصلوا الدفاع عن قيم الثورة وأهدافها.
أتحدث عن جيل آخر من الثوار الذين لم "يحرقهم" الظهور على شاشات التليفزيون ولم يدعوا إلى المحافل الدولية أو ندوات النخب الذين اعتبروا أنفسهم قيادات سياسية للبلد، ولم يعرف عناوينهم سماسرة التمويل الأجنبي. ولأنهم يعملون في الظل وأعدادهم تفوق الحصر في مختلف محافظات مصر، فمن الصعب التعرف على الجميع. لكنني أذكر منهم مثلا مجموعة "التيار الرئيسي" في القاهرة، التي تعتبر أن الأغلبية الصامتة من الشعب المصري هي التيار الرئيسي في البلد الذي ينبغي مخاطبته.
أتحدث أيضا عن "منتدى الدلتا" في طنطا الذي ينهض بمسؤولية توعية الناس وتثقيفهم لكي يتحملوا مسؤوليتهم في المرحلة الجديدة، ويعمل جنبا إلى جنب مع "اللجان الشعبية للدفاع عن الثورة" التي تنتشر في مختلف المحافظات. وعن مجموعة "شارك" في حي المعادي التي تتصدى لاستنهاض الهمم وإثارة الحماس للمشاركة في العمل العام، ومجموعة "شباب ضد القبلية" في قنا التي تحارب التعصب القبلي في الصعيد وتدعو الناس إلى الاشتراك في بناء الوطن.
 لست أشك في أن هناك مجموعات أخرى تنشط في الساحة وتعمل في صمت بعيدا عن الأضواء، لكن أكثر ما يهمني أن ندرك أن الذين استولوا على الواجهات ليسوا كل شيء في البلد، بل ربما كانوا يمثلون النصف الفارغ من كوب الثورة إذا جاز التعبير، أما هؤلاء الناشطون الذين يحاولون تجديد الدماء في عروق الوطن واستنهاض همة الأغلبية الصامتة فهم النصف الملآن، بل هم أملنا في استمرار الثورة التي تحاول النخب احتكارها، وهم طوق النجاة لنا من حالة الإحباط التي صارت تعذبنا هذه الأيام.
هذه الآلاف التي تتحرك في أنحاء مصر، هم التجسيد الحقيقي لروح 25 يناير، وهم المعول عليهم في إقامة نظام جديد يشترك الجميع في بنائه، بعيدا عن هيمنة الأوصياء وقبضتهم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق