الخميس، 14 فبراير 2013

موقف أ/ حسن البنا مع الأفكار الصادمة والمخالفة له


مقال قديم للباحث المتميز الشيخ/ عصام تليمة نشر فى مجلة وجهات نظر في سبتمر 2006، وأرى أن موضوعه يناسب مانمر به الآن من أحداث وضيق صدر البعض بالآخر وصعوبة الحوار بين أطياف المجتمع السياسية، فأردت أن أذكر بمنهج أ/ البنا مع المخالف له فى الافكار والمنهج، ومن بعده أ/ الهضيبي وبيان أن هذه هى الثقافة التى يتربى عليها الاخوان وأن مايصدر من أى فرد منها غير هذا ماهو إلا سلوك فردى جانبه الصواب ولايعبر عن المدرسة الاخوانية التى تنتقد فى موضوعية ورفق ودون تجريح أو مصادرة وفى إطار الجماعه الوطنية… اترككم لتستمتعوا بهذا المقال الرائع….
——————————————
لم يكن الحوار الذي دار قبل أشهر بين الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح وعدد من المثقفين في صالون الأستاذ نجيب محفوظ، حول موقف الإخوان من عدة قضايا وبخاصة الفن والأدب والثقافة هو التناول الفكري الأول من جانب الإخوان لمثل هذه القضايا إذ يعلم الدارسون لأدبيات الإخوان أن معظم ما تكلم به الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح هو نفس فكر الإمام حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، لا يختلف عنه قيد شعرة، وهو موقف جدير بأبناء الحركة الإسلامية أن يقفوا عليه جيدا، ويدرسوه، باحثين عن الأسباب التي أدت ببعض الفكر الإخواني لمخالفة بعض أفكار مؤسس الجماعة حسن البنا ــ رحمه الله ــ خاصة في القضايا المطروحة.

بداية.. لم يكن من نهج حسن البنا مصادرة الرأي المخالف له، ولا منعه، بل علي العكس فلقد رحب البنا بأن ينقد ويخالف، سواء علي مستوي المخالفة الفكرية الشخصية، وعلي مستوي المخالفة الفكرية لجماعته ودعوته، ولو رحت أحصر للقارئ القضايا التي خولف فيها حسن البنا ونشر ما قيل ضده في مخالفة رأيه، لاستغرق ذلك بحثا كاملا لا يقل عن خمسين صفحة، دون مبالغة. ولكن الأدعي للتأمل في تسامح حسن البنا في طرح المفكر رأيه وإن كان يخرج به علي إجماع الأمة، ومصادمة ثوابتها، وقد كان للبنا في ذلك نهج نراه غائبا للأسف فيما بعد عن أبناء حركته، فلم يكن يميل ــ رحمه الله ــ للمصادرة، ولكن كان يميل للمناقشة، ودحض الحجة بالحجة، والبرهان بالبرهان، والفكرة بالفكرة، وأنه لا شك أن الحق هو الذي سيعلو وينتشر، وأن الخطأ لا بد من زواله وذهابه.
وسأضرب لذلك أمثلة ثلاثة مع ثلاثة رجال مسلمين كتبوا ما يصادم العقول الإسلامية، وما يخالف إجماع المسلمين، وهم: الدكتور طه حسين، والدكتور محمد أحمد خلف الله، والأستاذ سيد قطب، علي ما علي الرجال الثلاثة من ضجة عند الإسلاميين، ما بين الذم والمدح، والحب والبغض، ومعروف لدي الراصدين للحركة الثقافية والإسلامية في مصر ما أثاروا من جدل بكتاباتهم.
مع د/ طه حسين
أما الدكتور طه حسين فقد كتب كتابه (الشعر الجاهلي) وقد رد عليه عدد من العلماء آنذاك منهم: الشيخ محمد الخضر حسين في كتابه (نقض الشعر الجاهلي)، والدكتور محمد أحمد الغمراوي، والأستاذ محمد فريد وجدي وغيرهم كثير لا يحصي. ومع ذلك كان أرفق المناقشين للدكتور طه حسين هو الإمام حسن البنا -رحمه الله- وتأمل عزيزي القارئ هذا النص الذي يناقش فيه الشيخ حسن البنا طه حسين في فكرة من أفكار كتابه (الشعر الجاهلي) يقول:
(زَلَّ الدكتور طه حسين بك في هذا المزلق حين انتحل من قبل ما قاله أحد المستشرقين حين قال: «للتوراة أن تحدِّثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللإنجيل أن يحدِّثنا عنهما، وللقرآن أن يفعل ذلك، ولكن هذا لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي بهذا الدليل»، وثار الناس وهم محقون، ولو قال بعد ذلك: «ولكني كمؤمن بالقرآن الكريم، أثبت وجودهما التاريخي بهذا الدليل، وإذا كان البحث التاريخي المجرد بأدلته الفنية الخاصة لم يصل إلي إثبات شيء عن إبراهيم وإسماعيل فذلك لقصور قد يكشفه الزمن، وقد نصل في المستقبل إلي ما عجزنا عنه الآن كما يحدث ذلك دائمًا، وأخيلة الأمس حقائق اليوم، وأخيلة اليوم حقائق الغد، وحَسْبَ الكتب السماوية أن تضع أيدينا علي طرف الحبل، وعلينا بعد ذلك تمام البحث. ومن أنكر ذلك من المستشرقين فهو مُتَجَنٍّ علي العلم، فليس توقف العقل عن حكم دليلا علي الاستحالة» لو قال ذلك لكان محققًا، وكان مُحقًّا، وكان جامعا بين تحليل العالم العصري، واعتقاد المؤمن القوي، ولما ثار الناس به وثار هو كذلك بالناس). انظر: مقال (مقدمات… مقاصد القرآن الكريم) للشيخ حسن البنا المنشور في مجلة (الشهاب) في العدد الأول الصادر في غرة المحرم سنة 1367هـ ـ 14من نوفمبر سنة 1947م.

وقد رفق البنا هنا في نقاش بطه حسين، ولم يعنف، ولم يجرح، ولكنه اكتفي بأنه لو قال كذا لكان أفضل له، مع نقاشه لفكرته بالدليل.
ولما كتب الدكتور طه حسين كتابه (مستقبل الثقافة في مصر) وهاجت الدنيا وماجت، وثار علماء الأزهر علي طه حسين، وقد نادي فيه طه حسين بأن علي مصر إذا أرادت أن تتقدم عمليا، بأن تحذو حذو الغرب، وتأخذ بكل ما فيه خيره وشره، حلوه ومره، فأُعلن عن محاضرة لحسن البنا في جامعة القاهرة ليناقش فيها الكتاب، فتحدث في المحاضرة دون تجريح في مؤلف الكتاب، بل بذكاء رد علي الكتاب بكلام طه حسين نفسه من بين ثنايا الكتاب نفسه، وفي نهاية المحاضرة قابله طه حسين وكان جالسا خلف ستار يستمع لمحاضرته، فقال: يا شيخ حسن لو عاملني الأزهريون كما عاملتني لكان لي موقف آخر أقل حدة.
مع د/ محمد أحمد خلف
أما الكاتب الثاني فهو الدكتور محمد أحمد خلف الله عضو المجمع اللغوي، وقد كتب رسالة للحصول علي درجة علمية، عنوانها: (الفن القصصي في القرآن الكريم) وقد كان معيدًا آنذاك بقسم اللغة العربية بكلية الآداب، وقد أثارت رسالته جمهور القراء، ومن قبله المناقشين: الأستاذ أحمد أمين، والأستاذ أحمد الشايب، وقد اعترضا علي الرسالة، وثارت ضجة شهيرة آنذاك، وقد تناولتها الصحف والمجلات، وعلي رأسهم مجلة (الرسالة) في العددين: (471) و(472) عام 1947م. وقد تعرض الإمام البنا لرسالة الدكتور خلف الله، فقال:
(وهذا الكاتب الجديد صاحب رسالة «القصص الفني في القرآن» التي لم تظهر للناس بعد، وإنما ظهر طرف منها تناولته الصحف نحا هذا النحو. ولكن في وادٍ أدبي متَّصل بالتاريخ، فهو يريد أن يقول: إنَّ رعاية الناحية الفنية عند الأديب المجرَّد لا تستلزم صدق الرواية ولا صحة الواقعة، وهذا حق، بل إنه كثيرًا ما يتجلي فن الأديب المبتكر من الحوادث والمتخيل من الروايات أكثر مما يتجلَّي في رواية الوقائع الصادقة الحقة، بصرف النظر عما يقوله المربون وعلماء النفس في خطر هذا الأسلوب علي التكوين الفكري والنفساني للأشخاص، ثم هو يريد بعد هذا أن يجرِّد من نفسه أديبًا بعيدًا عن كل اعتبار آخر، ويجرِّد من القرآن كتاب أدب بعيدًا عن كل اعتبار آخر كذلك، وينظر فيه علي هذا الأسلوب بصرف النظر عن صدق هذه القصص ومطابقتها للواقع والتاريخ أو مخالفتها لذلك كله.
ولو قال: إنه يتخذ هذا البحث وسيلة إلي إثبات سمو الناحية الفنية في كتاب الله وعمقها، وإنه مؤمن بالقرآن الكريم، يصدِّق بأن هذه الوقائع جميعا لا بد أن تكون حقائق تاريخية، وذلك مما يزيد في روعة التصوير ودِقَّة الفن. ولا عجب فهو (صنع الله الذي أتقن كل شيء) لو قال هذا لاستراح وأراح، ونفي عن نفسه وعن الذين يقرؤون له: لَوْثَات الزيغ والضلال، وقل مثل ذلك في مثل هذه المناحي جميعا).
ونلاحظ أن البنا في نقاشه هنا أيضا كان أهدأ نفسا، حتي من مفكرين كبار غيره.
مع أ/ سيد قطب
والنموذج الثالث الذي تعامل معه البنا بحكمة أيضا، وهو لرمز من رموز الإخوان المسلمين بعد وفاة البنا، إنه الأستاذ سيد قطب، الذي كتب في أحد الأيام في جريدة الأهرام المصرية مقالا دعا فيه صراحة إلي العري علي الشواطئ، وقد أنكر المقال، وصحة نسبته للأستاذ سيد قطب عدد من الكتاب والمفكرين إسلاميين وغير إسلاميين، منهم: الشيخ يوسف القرضاوي، والدكتور صلاح الخالدي، وعدد آخر، بل حتي من الكتاب القوميين كالأستاذ حلمي النمنم، وغيرهم، وكان قد جاء في المقال المنسوب للأستاذ سيد قطب والمنشــــور في جـــــريدة الأهــــــرام بــتاريخ: 7/10/1937م. ما يلي:
(ليس في الجسم العاري علي (البلاج) فتنة لمن يشاهده ويراه في متناول عينه كل لحظة. وفتن الأجسام هناك، هي المستترة في (البرنس) أو (الفستان) أما في (المايوه)، فهي لا تجذب ولا تثير. وإن أثارت شيئا فهو الإعجاب الفني البعيد ـ بقدر ما يستطاع ـ عن النظرة المخوفة المرهوبة! إن صورة واحدة عارية مما ينشر في الصحف، أفتن من شاطئ كامل يموج بالعاريات، لأن الصورة المصغرة، تثير الخيال، الذي يأخذ في تكبيرها والتطلع إلي ما وراءها من حقيقة. وهذا هو الخطر. أما الجسم العاري نفسه فليس فيه ما يثير الخيال، لأنه واضح مكشوف. أطلقوا الشواطئ عارية لاعبة، أيها المصلحون الغيورون علي الأخلاق فذلك خير ضمان لتهدئة الشهوات الجامحة، وخير ضامن للأخلاق).

وقد أثار هذا المقال ثائرة أحد أعضاء الهيئة التأسيسية للإخوان المسلمين، وكتب مقالا ناريا يرد فيه علي هذا الكاتب الذي دعا لما ينافي أخلاق الإسلام، ويصادم الذوق العام، وعندما ذهب بمقاله ليعرضه علي الأستاذ حسن البنا، فما كان من البنا إلا أن قال لكاتب المقال (الأستاذ محمود عبد الحليم):
أولا: لا شك في أن فكرة المقال فكرة مثيرة تجرح قلب المؤمن.
ثانيا: كاتب هذا المقال شاب متأثر بالبيئة التي تعرفها ونعرفها جميعا، وهي التي تغذيه بمثل هذه الأفكار.
ثالثا: إن هدف هذا الشاب من كتابة هذا المقال ليس هو مجرد التعبير عما يؤمن به، وإنما هو محاولة جذب الأنظار إليه علي أساس عرفهم من أن الغاية تبرر الوسيلة.
رابعا: إن قراء «الأهرام» عدد محدود بالنسبة لسكان هذه البلاد. وليس كل قراء «الأهرام» قد قرأوا هذا المقال، فأكثر قراء الأهرام لا يقرأون فيه إلا الأخبار، وأكثر الذين قرأوا المقال لم يستوعبوا فكرته لأنهم اعتادوا قراءة المقالات غير الرئيسية قراءة عابرة.
خامسا: إذا نشرنا ردا علي هذا المقال في الأهرام كانت لذلك النتائج الآتية:
1ـ سيثير نشر الرد اهتمام الذين لم يقرأوا المقال الأصلي إلي البحث عنه وقراءته، كما سيدفع الذين قرأوه قراءة عابرة أن يقرأوه مرة أخري قراءة متأنية، وستبرز بذلك فكرة المقال في مختلف المجتمعات وتكون موضوع مناقشة واهتمام.. ونكون بذلك قد عملنا - من حيث لا نقصد - علي تحقيق مأرب صاحب المقال من جذب الأنظار إليه، وجعل اسمه علي الألسنة.
2ـ نكون - من غير قصد- قد تسببنا في لفت الأنظار إلي لون من الرذائل ربما علقت به بعض النفوس الضعيفة، ولو لم نرد عليه لمرت الدعوة إلي هذه الرذائل في غفلة من الناس غير معارة أي اهتمام ولطمرت في طيات النسيان.
3ـ الرد نوع من التحدي، والتحدي يخلق في نفس المردود عليه نوعا من العناد، وهذا العناد يجعله يتعصب لرأيه مهما اقتنع بخطئه، ونكون بذلك قد قطعنا عليه خط الرجعة؛ وفي هذا خسارة نحن في غني عنها.
وهذا الكاتب شاب وترك الفرصة أمامه للرجوع إلي الحق خير من إحراجه.. وما يدريك لعل هذا الشاب يفيق من غفلته، ويفيء إلي الصواب، ويكون ممن تنتفع الدعوة بجهوده في يوم من الأيام.) انتهى. انظر: الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ لمحمود عبد الحليم المجلد الأول ص 191، 192.
هذه مواقف ثلاثة مع رجال مسلمين أتوا بما يخالف فكر البنا، وفكر المسلمين عامة، وبما يهيج العامة والخاصة عليهما، وأضرب نموذجا رابعًا وهو الأستاذ مكرم عبيد الرمز السياسي المسيحي المعروف، وقد كتب أحد الكتاب مقالا في جريدته يغمز فيه الإسلام، فما كان من الأستاذ صالح عشماوي رئيس تحرير مجلة (النذير) الإخوانية إلا أن أمسك بقلمه، وكتب مقالا ناريا، بعنوان: (الإسلام بين خصومه وأنصاره) وصب جام غضبه علي صاحب المجلة الأستاذ مكرم عبيد، وعلي كاتب المقال، ولكنه ركز في هجومه علي مكرم عبيد، وكان نقده لاذعا، وقد وصل عدد المجلة إلي الأستاذ حسن البنا وكان في معسكر بالدخيلة مع عدد من شباب الإخوان المسلمين، وقرأ المقال، فلم يرق له الأسلوب الذي كتب به صالح عشماوي المقال، ولا لغة المقال، فكتب البنا يعتب علي عشماوي أسلوبه وهجومه اللاذع الذي لا يخدم القضية التي يدافع عنها، انظر: مجلة النذير العدد (12) من السنة الأولي الصادر في 15/8/1938م.
ولم يرق لعشماوي رد البنا عليه، فكتب عشماوي مقالا يخالف فيه البنا فيما ذهب إليه، وكتب عشماوي يستغرب من موقف البنا من حزب الوفد، ومن مكرم عبيد ومجلته، ولماذا يهادن ويتعامل بالحسني أمام ما يصدر من الحزب والمجلة، ولماذا لا يعاديهم، وهم ـ كما يري عشماوي ـ يعادونه، وإن أخفوا عداوتهم؟!
فكتب البنا ردا آخر عليه، نشرته مجلة النذير في العدد (14) من السنة الأولي بتاريخ: 29/8/1938م، يقول فيه لصالح عشماوي: يا أخي صالح ليس من أخلاقنا أن نفتش عما في قلوب الناس، ولنا أعمالهم الظاهرة، ثم إن كاتب المقال شخص أنت رددت عليه، فلم النيل من مكرم عبيد، وما ذنب مكرم وجريدته، وما هي إلا ناشرة لمقال الرجل، ثم تعاتبني علي عدم إظهار عدائي لهم وهم يكنون العداوة لي كما تقول، إنني أريدك أن تكون حكيما حتي مع أعدائك وخصومك الذين يخفون عداوتهم لك، فليس من الحكمة أن تبدي عداوتك لشخص ستر عداوته عنك!
هكذا يا سادة كان موقف حسن البنا ممن تصدر منهم أفكار تخالف أفكاره، وتصادم الأفكار الإسلامية وتخالفها، إما أن يبين الحق والصواب فيها، دون أن يهيج أو يجرح، وإما أن يهملها حتي تموت إن رأي الإهمال علاجا لها.
تلاميذ حسن البنا
واستمر الإخوان المسلمون علي هذا النهج من بعده، فجاء الأستاذ حسن الهضيبي المرشد الثاني، وتعامل بنفس المنهج، فلما قام كاتب مسيحي وقد كتب كتابا يهاجم فيه الإسلام، ويصف الفتح الإسلامي لمصر بالفتح الظالم الهمجي، فما كان من الأستاذ الهضيبي إلا أن كلف الشيخ محمد الغزالي بأن يرد عليه برد علمي، وقد اشترط عليه: ألا يهاجم، وألا يجرح، وألا يعنف عليه، وهو ما بينه الغزالي في مقدمة كتابه (التعصب والتسامح بين المسيحية والإسلام) فقال: (إن الرجل الذي كلفني بكتابة هذا المبحث قد طلب إلي أن ألتزم حسن العرض، وأن أكتفي بتنحية القذي عن طريق الإسلام، دون غضب أو تحد  وقد بذلت الجهد في إجابة نصحه، وإن كنت شعرت أحيانا بسورات الغيظ تملكني وتجرفني، إذ أجد حقا يغطي الهوي وجهه المبين، وعسفا يراد فرضه علي الصراط المستقيم) انظر: كتاب (التعصب والتسامح بين المسيحية والإسلام) ص4.
 ومن قبل ذلك لما كتب الأستاذ خالد محمد خالد كتابه (من هنا نبدأ) الذي أثار ضجة وزوبعة هائلة، تبني فيه: أن الإسلام دين ولا مكان فيه للدولة، وقد نادي عدد من علماء الأزهر بطرد خالد محمد خالد من زمرة علماء الأزهر وخريجيه كتب الغزالي يقول:وأحب أن أذكر أني صديق للشيخ خالد منذ سنين، ولكن ابن القيم لما رأي عوجا في كلام شيخ الإسلام إسماعيل الهروي ـ وكان صديقا له ـ قال: شيخ الإسلام حبيب إلينا، والحق أحب إلينا منه!! ثم بين الغزالي موقفه مما تردد من نية الأزهر في سحب شهادة الشيخ خالد محمد خالد الأزهرية، ووقف ضد هذا الإجراء. ثم قال: أما نحن فسنكتفي بتمحيص الحقائق في كتابنا.
كما كتب يبين منهجه إزاء هذه الأفكار فقال: إن حرية الرأي لا تعني حماية الخطأ وإعطاءه حق الحياة، وأقصي ما يناله الخطأ أن يعيش ريثما يعدم ويتواري، والطريق التي نؤثرها: أن نحارب الفكرة بالفكرة، ونحن كممثلين للإسلام لا نهاب أي هجوم عليه، لأننا موقنون أنه سوف يتكسر علي حدوده. ولذلك نحن نتلقف الشبه والاعتراضات والأوهام ونتركها تضطرب وتسعي، ثم نقذف بينها بالحق الذي أنزله الله فيعود الأمر كما قال الشاعر:
                 إذا جاء موسي وألقي العصا            فقد بطل السحر والساحر
انظر: من هنا نعلم للشيخ الغزالي ص13.
بل حتي رواية (أولاد حارتنا) للأستاذ نجيب محفوظ، كان الذي تولي كتابة التقرير حولها عالم من علماء الإخوان المسلمين، وهو الشيخ الغزالي رحمه الله، ولم يتعرض بكلمة تنال من عقيدة الأستاذ نجيب محفوظ، بل كتب تقريرا بناء علي ما قرأ، ومفاد التقرير: أن بالرواية رموزا تدعو للريبة، ودعا مؤلف الرواية لتوضيح هذه الرموز، ثم بعد ذلك رأت الرقابة في الأزهر مصادرة الرواية، ولما سئل الشيخ الغزالي بعد نيل الأستاذ نجيب محفوظ جائزة نوبل، أثني عليه أديبا وروائيا.
وقد ناقشني أحد المثقفين فقال لي: وهل كان يملك الإخوان وحسن البنا آنذاك أي وسيلة أخري غير مواجهة الفكر بالفكر؟! فقلت له: كانوا يملكون أكثر من ذلك يا سيدي، كان يستطيع حسن البنا أن يهيج الرأي العام، وأن يسير المظاهرات، وأن يفعل ما يريد، في وقت كان لجماعته الثقل السياسي في الشارع المصري، وكان يملك (النظام الخاص) لو أراد ذلك، وقد مارس هذا النظام بعض حوادث العنف بغير إرادة البنا، إذن كانت عنده كل الوسائل متاحة، ومع ذلك آثر البنا ــ رحمه الله ــ منهج التغيير السلمي، والمواجهة الفكرية للفكر.
هذا أيها القارئ غيض من فيض من مواقف كثيرة، تبين بوضوح موقف الإخوان المسلمين متمثلا في فكر مؤسسها، وفي فكر علمائها الأفذاذ من أصحاب التوجيه والقبول، وهو فكر يقوم علي مقاومة الفكر بالفكر، والحجة بالحجة، والبرهان بالبرهان، وليس هذا يمنع من أن يقول المخالف رأيه، وأن يقول الإخوان رأيهم أيضا، فإذا سمح للكاتب بأن يخالف بإعلان رأيه، فمن حق من خالفـــــه في الــــــرأي أن يعلـــــن بمخالفته لـــــــه، وهـــــذه أقــــــل درجات الديمقراطية التــــي يـــــنادي بها المثقفون أنفسهم، أم أنـــــهم يريدون ديمقراطية التفكير والنشر، ولا يريدون ديمقراطية المخالفة لهم؟!
وللإخوان أن يرموا الكرة في ملعب المثقفين أيضا، ويتساءلوا: يا معشر المثقفين الخائفين من الإخوان علي الحرية والديمقراطية، وتتساءلون عن موقفنا منها: فماذا كان موقفكم عندما حوكم الإخوان المسلمون دونًا عن غيرهم في محاكم عسكرية مرات عدة، ولما هوجم الإخوان المسلمون أيام الانتخابات الأخيرة في الإعلام المصري وكان الكلام دوما من جانب واحد، أين كان إنصافكم ومناداتكم بوجود من يمثل الرأي المُهاجَم؟ أليس من حق الإخوان أن يسألوا هؤلاء المثقفين الفزعين من وصولهم للسلطة هذه الأسئلة، وأن يعتبوا عليهم هذا العتاب.
أما عن إذا ما تولي الإخوان المسلمون السلطة، وأصبح في أيديهم زمام الدولة، فما موقفهم تجاه المؤلفات والكتب التي تخالف نهجهم، أو تصادم الشرع وتخالفه، ومدي حرية الإبداع الفكري والفني في ظل سلطتهم، في الحقيقة أنه لا يوجد نص في أدبيات الإخوان يبين ذلك بوضوح، لا في قديمها ولا في حديثها، ولا يوجد عند جماعة من الجماعات الإسلامية في أدبياتهم موقف واضح من هذه القضية، وهل هذا الموقف سيكون موقفا نظريا فقط، أم لا؟ كل هذه تعتبر تكهنات، لا يملك أحد دليلا علي صحتها أو خطئها، وهو أمر يدعو القائمين علي شئون الحركات الإسلامية، والكتاب الإسلاميين الكبار للكتابة في هذا الأمر، وبيان موقف الإسلام من ذلك بوجه عام، ثم في ظل دولة إسلامية بوجه خاص، فتصور الدولة الإسلامية من حيث تكوينها، ومواقفها من قضايا كثيرة معاصرة لم تكن علي عهد فقهائنا القدامي، أصبحت ملحة في دراستها، ولا يتسع المقام هنا لذكر شيء منها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق