الخميس، 28 فبراير 2013

كل يدعي وصلاً بالوفاق الوطني!... شريف عبد الرحمن سيف النصر

على التوازي مع المعارك العديدة الدائرة فيها، تشهد الساحة السياسية المصرية معركة خاصة يتبارى أطرافها في احتكار والحديث باسم مفاهيم بعينها، أشهرها على الإطلاق مفهوم "التوافق الوطني"، والذي تدعي كل الأطراف اقتناعها به، وتمثلها له، ولكنهم عند التطبيق يفترقون ويتجادلون، إذ ينطلق كل طرف من قناعته الخاصة وتصوره الضيق لهذا المفهوم، حتى صار لدينا أكثر من نسخة من نسخ التوافق الوطني.
  • فالمعارضة العلمانية ترى أن التوافق لا يتحقق إلا بالعودة لنقطة الصفر، وإلغاء كافة المكتسبات التي تم إحرازها منذ بداية الثورة، وضرورة الدفع بمسار الأحداث في وجهة مختلفة تضمن تصدرهم للمشهد السياسي، واعتلاءهم قمة مؤسسات الدولة، من دون الاحتكام إلى إرادة الجماهير. وقد تم اللا إفصاح عن هذه الأفكار منذ الأسابيع الأولى للثورة بالدعوة إلى تأجيل الانتخابات التشريعية الأولى، ثم الدعوة إلى صياغة وثيقة مبادئ فوق دستورية، ثم الدعوة إلى إعادة كتابة الدستور، وأخيرا من خلال الدعوة الفجة لإعادة الانتخابات الرئاسية. أخطر ما في هذا التصور هو قناعة الكثير من أصحابه بأنه من الممكن فرض التوافق بالقوة أو العنف، وذلك بالدعوة إلى تطبيق العصيان المدني قسرا، بقطع الطرق وتعطيل المؤسسات، وانتهاء باستخدام العنف اللفظي والبدني لتمرير مشروعهم التوافقي!

ويبدو من تفكيك هذا التصور للتوافق أنه يقوم على إفراغ الديمقراطية من محتواها، وذلك من خلال الإلحاح على فكرة أن الديمقراطية ليست هي الصندوق الانتخابي فحسب، وأن الشعب المصري غير مهيأ بعد لممارسة الديمقراطية كاملة، أو أن الديمقراطية لا تتعارض مع التفكير في استدعاء الجيش وقت اللزوم، أو حتى دعوة الغرب للتدخل في الشأن الوطني الداخلي.
  • وعلى العكس من هذا التصور الذرائعي للتوافق تدعو المعارضة الإسلامية ممثلة في حزب النور السلفي إلى تصور مختلف للتوافق يعكس حالة من المثالية الساذجة التي تكاد تتصادم مع الواقع على نحو تام، فقد افترض الحزب أن الحوار حول التوافق يمكن أن يتم في أجواء من الإخلاص المطلق لمصلحة الوطن، وأن المعارضة يمكنها أن تسمو إلى حالة من التجرد عن تحيزاتها الضيقة وأن تنبذ مخاوفها الخاصة بوجود تيار مناوئ لها في السلطة.

آفة هذا التصور أنه لا يأخذ في اعتباره حقائق الواقع، مثل حقيقة أن قوى المعارضة التي يعرض عليها مبادرته يسيطر عليها هاجس الهوية (التي يرون أنها صارت إسلامية أكثر مما ينبغي)، بأكثر مما تقلقهم أخطاء النظام السياسي القائم (كما يدعون)، كما يفترض هذا التصور لمفهوم التوافق أن الخلافات الأيدلوجية بين القوى السياسية يمكن أن تتواري متى بدأ الحديث عن الوطن، ويغفل المناورات التي قامت بها هذه القوى في السابق لكي تشق الصف الإسلامي، ولكي تسرق إرادة الجماهير التي اختارت فصيل الإسلام السياسي لكي يقود بها هذه المرحلة من عمر الثورة.
  • أما الطبقة الحاكمة ممثلة في الرئاسة وجماعة الإخوان المسلمين، فتتحدث عن التوافق الوطني وفي ذهنها أن تكسب المزيد من الوقت الذي تستفيد منه في إكمال المسار المؤسسي الذي يتبقى منه إجراء الانتخابات التشريعية. ولكن الرئاسة في الوقت الذي ترفض فيه فكرة وضع شروط مسبقة لبدء الحوار حول التوافق الوطني، فإنها تضع ما يبدو للجميع أنه شروطا مسبقة، من مثل استبعاد فكرة تغيير الحكومة ورفض مطالبة النائب العام الحالي بالتنحي من موقعه تمهيدا لاختيار نائب جديد، والأسوأ أن الرئاسة تمتلك في هذا الصدد سجلاً من حالات التراجع عن الالتزامات ما يجعل من التوافق معها محل نظر فيما يخص الجدوى من ورائه، خاصة أنها قد استبقت المعارضين بتحديد موعد الانتخابات المقبلة على نحو منفرد، في الوقت الذي كانت قوى المعارضة تبتغي أن يكون هذا الموضوع (موعد إجراء الانتخابات القادمة) من المواضيع المدرجة على أي برنامج مزمع للحوار أو التوافق الوطني.

النموذج الذي تتبعه الطبقة الحاكمة يوحى أنها تعتبر التوافق مجرد جزء من مناورة سياسية، الغرض منها استهلاك الوقت واستنفاد طاقة الخصوم. وفي أحسن الأحوال يتم النظر إلى التوافق على أنه من ضرورات الشكل الديمقراطي، الذي يتزين بجولات الحوار المتعددة والتي لا تكاد تنتهي إلى قرارات ملموسة، حتى صارت بمثابة مناسبة لعدم القيام بأي شيء ذي جدوى، فالحوار من أجل الحوار صار هو الشعار الفعلي لكثير من الفاعليات التي عقدت لهذا الغرض، والاستماع إلى المعارضين كان يتم في غالب الأحيان بغرض استيعاب أضرارهم أكثر من المشاركة معهم في إعادة تأسيس الوطن.

وهكذا تتعدد طرق النظر إلى التوافق، ويفهمه كل فصيل بطريقة مختلفة، فيشارك فيه أو يرفضه لاعتبارات مغايره لاعتبارات خصومه.
أما النسخة الغائبة من التوافق فهي:
  •  تلك النسخة التي تؤكد أنه ضرورة لمرحلة البناء والتأسيس، وتؤمن أنه إنما يصنع بين القوى التي تؤمن به وتراهن على نجاحه وتتبناه كمشروع وليس كمناورة،
  • هذه النسخة من التوافق تنطلق من تصور للواقع بكافة تضاريسه، وبفهم كامل لطبيعة القوى المؤثرة فيه، وبأوزانها النسبية الحقيقية، والتي تصنعها قدرتها على التأثير الإيجابي في هذا الواقع.
  • هذه النسخة من التوافق تؤمن بأن الواقع معتبر ولكنه ليس قيدا حديدياً،
  • وأن مؤسسات العهد السابق معيبة ولكن يتعين الاستفادة من حقيقة وجودها لا نفيها بالكلية،
  • النسخة الغائبة من التوافق هي النسخة التي تحاول وضع قواعد لإدارة الخلاف الحالي وخلافات المستقبل،
  • وتعتبر أن التوافق هو عملية سياسية تخص الوطن بأكمله ولا تخص فصيلاً بعينه،
  • وأنه يصنع حول أولويات ومصالح الدولة، وليس على أساس أولويات ومصالح فصيل أو جماعة أو فرد.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق