الجمعة، 22 فبراير 2013

بناء الشرعية ...... إبراهيم الهضيبى

جوهر الأزمة الحالية ــ السياسية والاقتصادية والاجتماعية ــ هو عدم امتلاك النظام السياسى لقدر كاف من الشرعية يجعل اللجوء لآلياته بديلا مقبولا من القوى المختلفة سياسيا واجتماعيا، ونقطة الانطلاق لتغيير هذا الوضع هى اتخاذ الإجراءات التى من شأنها تعميق الشرعية.

●●●

لا يقتصر سؤال الشرعية على شخص الرئيس، على النحو الذى يشغل بال الأطراف المتصارعة حول خيارى استكماله مدته الرئاسية واللجوء للانتخابات المبكرة، فأزمة الشرعية القائمة تتصل بالسياسات أكثر من اتصالها بالأشخاص، وتعنى بالقرارات والسياسات الصادرة عن مؤسسة الرئاسة أكثر من اعتنائها باسم الشخص الذى يتجه للقصر للعمل كل صباح.

وهذا الغياب للشرعية يتبدى فى لجوء السياسيين المتزايد لسبل موازية أو مغايرة للسبل الرسمية للتعامل مع القضايا الحالة (جلسات الحوار الوطنى نموذجا)، وفى اضطرار النقابيين اللجوء للإضراب لفشل مفاوضاتهم مع الدولة غير مرة، وفى عجز القوى السياسية ــ حكومة ومعارضة ــ عن احتواء موجة العنف فى بورسعيد أو حتى مناقشة أسبابها بجدية، وفى ارتفاع معدل الجريمة والعنف الاجتماعى (كما فى حالات التحرش مثلا)، وله تبديات أخرى.

وهذه الظواهر التى كانت موجودة من قبل اتسع نطاقها مع انهيار الأساس الذى بنى عليه نظام مبارك شرعيته وهو خوف المواطنين من بطش الدولة، وهى شرعية يستحيل استعادتها فى الأمد القريب، لأن القوة الباطشة للدولة ثبت عجزها أمام إرادة الجماهير، ولأن تلك القوة تعرضت لتصدع انتقص منها، ولأن ما بقى منها صار يستفز أكثر مما يخيف فينتج عن استعماله ردود أفعال مضادة للمراد، ثم ازداد اتساع الظاهرة مع تزايد كفر الناس بالنظام السياسى الذى يتشكل، والذى فشل ــ فيما يبدو ــ فى اكتساب ثقتهم.

والمطلوب ــ بالتالى ــ هو تأسيس شرعية جديدة للنظام السياسى، تقوم لا على أساس الخوف من البطش، وإنما على أساس العدل والمصداقية، ولأن تغيير السياسات لا مجرد غياب الرئيس عن المشهد يبدو ــ إلى هذه اللحظة ــ سبيلا أنجع فى بناء تلك الشرعية، فمن الواجب الانشغال بالتغييرات فى السياسات التى قد تكون حلا، مع التسليم بأنه ليس ثمة إجراءات من شأنها بناء شرعية فورية تختفى بها تلك الظواهر، بيد أن بعض التغييرات فى السياسات قد تكون أعمق فى التأثير من غيرها.

●●●

وبناء الدولة شرعيتها على أسس العدالة والمصداقية يستلزم اتخاذ القائمين على الأمر حزمة من الإجراءات التى تعالج أوجه القصور على هذه الأصعدة، خاصة فى مجالات الاقتصاد، والعدالة الاجتماعية، والعدالة الانتقالية، وسيادة القانون العادل.
  • أما ما يتعلق بالاقتصاد فأول المطلوب الشفافية فى بيان حقيقة الموقف الاقتصادى، إذ ليس مقبولا أن يتحدث الرئيس عن «إفلاس» ما يتحدثون عن اقتراب مصر من الإفلاس، ثم يسكت فلا يعرض حقيقة الوضع بينما معدلات التضخم المصحوب بالركود والبطالة ترتفع، والعملة تتراجع، والاعتماد على القروض الأجنبية يتزايد، وهذا الكشف عن حقيقة الوضع الاقتصادى ينبغى أن يشفع باعتذار الرئاسة عن عدم تحقيق الوعود التى أطلقها الرئيس فى حملته الانتخابية، وبيان الأسباب التى أدت لذلك (سوء تقدير الموقف، عدم امتلاك المعلومات الكافية، الخ).

  • والأهم أن يصحب ذلك ببرنامج حقيقى للتنمية، ينشغل بما يتجاوز بعدها التجارى، ليجيب من جهة عن أسئلة الإنتاج من حيث قاطراته الرئيسية وسبل تمويلها وطبيعة ملكيتها والإطار الزمنى لإيجادها، وأسئلة التوزيع من حيث عدالته ودوره فى محاربة الفقر وتقليل فجوات الدخل فى المجتمع، وإيجاد التزامات واضحة يمكن حساب المسئولين على أساسها، وهو ما سيعالج الأزمة الاجتماعية بقدر مصداقيته وجدة ما يطرحه، وبقدر اقتناع الناس ــ خاصة الكادحين منهم ــ بانحياز الدولة إليهم فى خياراتها وبدائلها.
  • وأما على الصعيد الانتقالى فإن استبدال شرعية العدالة بشرعية البطش يستوجب اتخاذ اجراءات جادة تهدف لمحاسبة نظام مبارك على جرائمه، وتضمن عدم تكرارها عن طريق كشف الحقيقة المؤدى للإصلاح المؤسسى فى أربعة ملفات رئيسية هى الانتهاكات الحقوقية، وإفساد الحياة السياسية، والفساد الاقتصادى وإهدار موارد الدولة، والفشل البيروقراطى، ويكون ذلك من خلال لجنة كشف حساب تعنى بالتحقيق فى هذه الملفات الأربعة وتحظى بالاستقلال عن السلطة التنفيذية وتتوفر لها الصلاحيات الكافية لتمكينها من الاضطلاع بوظيفتها، وينبغى ــ من أجل إدارة انتقال ناجح ــ التركيز على الإجراءات التى تستعيد شرعية المؤسستين الأمنية والقضائية على الأسس الجديدة، واتخاذ مواقف أكثر وضوحا وأقل ارتباكا من مؤسسة الرئاسة حيال تلك المسألة.  

  • وفيما يتصل بسيادة القانون العادل ينبغى على مؤسسة الرئاسة تجاوز حساباتها التنظيمية مع الإخوان، والمبادرة بإجراء تحقيق واسع مع كل المتورطين فى أحداث العنف والمحرضين عليه والمتسببين فيه (فى محمد محمود، والاتحادية، والتحرير) بمن فيهم القيادات التنظيمية الكبرى بالإخوان وبالمعارضة على حد سواء، وينبغى أن تتسم هذه التحقيقات بأكبر قدر من الشفافية والمهنية، بحيث تؤشر بوضوح على تساوى الجميع أمام القانون، وتدل على أن الرئيس لا ينوى معاقبة الضعيف وترك الشريف، أو معاقبة الخصوم وترك الأنصار، وبالتوازى مع هذا التحقيق القانونى ينبغى الالتفات للأسباب السياسية والاجتماعية للعنف بحيث ينصرف الجهد لمعالجتها على النحو المذكور أعلاه.

 وينبغى أن ترتفع الرئاسة كذلك ــ وترفع مؤسسات الدولة معها ــ فوق مستوى الشبهات لتكتسب المشروعية السياسية، وهو ما يستوجب إعلانها بوضوح معايير التعيين والترقى فى جميع الوظائف فى مؤسسات الدولة والعزل منها، بحيث تصير محاسبة الرئيس لتلك المعايير ممكنة، وينتهى الكلام عن «أخونة الدولة» أو يعاقب القائمين على التعيينات فى الدولة إن لم يلتزموا بالمعايير المتفق عليها سلفا.

●●●

إقدام الرئاسة على مثل هذه الإجراءات ضرورى، وكلفته السياسية لا بد من تحملها لأن تكلفة عدمها أثقل على الوطن وعلى الحكام، والتزام الشفافية من شأنه إحراج الأطراف السياسية التى لا تملك مشروعا سياسيا جادا، ونقل الجدل السياسى إلى حيث ينبغى من مناقشة القضايا الأولى بالنظر، ومن ثم الاستعادة ــ وإن التدريجية ــ لثقة الجماهير بأن النظام السياسى ينشغل بقضاياهم، ويسعى لمعالجة مشكلاتهم، ويطور الآليات اللازمة لذلك، فيكون ثمة ما يدعوهم للتعامل من خلال آلياته، والإيمان بشرعيته.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق