الأحد، 17 فبراير 2013

حوارٌ مع الدكتور حسان حتحوت رحمه الله

تبدأ مقدمةُ آخر كتب الدكتور حسان حتحوت على الشكل التالي: "أبحثُ عن ورثة .. وليست تِركتي مالاً أو عقاراً أو صناعةً أو تجارةً أو غير ذلك من حطام الدنيا!! ولست أنعي على من عنده من ذلك نصيب ، فالله يرزق من يشاء بغير حساب ، ونِعمَ المالُ الصالح للعبد الصالح .
لكن الذي أهمّني بِشأنِ تِركتي أنها ليست من التركات التي تبقى بعد صاحبها، لأنها تموتُ بِموتي، وتنقضي بانقضائي ، فلا يعودُ إلى الانتفاع بها سبيل .
تركتي أفكارٌ وخبرات وتجارب نضجت بهدوء على مدى حياة حافلة ، أحمَدُ الله سبحانه وتعالى عليها، لم يكن فيها مجالٌ للملل ، ولم يكن للعبث فيها مجال! ويمدُّ الناس يَدَهم ليأخذوا وأَمدُّ يدي لأعطي ، لكن بشرط أن أورثَ قبل أن أموت ، فهل من وارث؟!" .

ولئن كانت هذه الكلمات تعبر أصدق تعبير عن شخصية الدكتور حسان ومنهجه في الحياة ، فإننا نسأل الله أن يحفظه ويمدّ في عمره ويبارك في عطائه ويلهمه كل ما فيه خير هذه الأمة . إلا أننا  في الوقت نفسه  نأمل أن يكون في هذا اللقاء معه شيءٌ من الاستجابة لدعوته وسؤاله عن أولئك الذين يريدون أن يكونوا من وارثي أفكاره وخبراته وتجاربه حفظه الله . ولئن كنا نعلم أن في الكتاب الأخير للدكتور حسان إشارات  بعضها تفصيلية  إلى كثير من القضايا المعروضة في الأسئلة المطروحة أدناه ، فإننا نأمل أن يكون في هذا الحوار فرصةٌ للتواصل مع من لم يُتح له الاطلاع على الكتاب من قراء هذه المجلة (دون أن يعني هذا على الإطلاق أن هذه العجالة تُغني عن قراءة الكتاب الذي تعبق في حنايا سطوره وأخباره روح الدكتور وشخصيته المتميزة). فضلاً عن أننا نأمل أن يكون في الحوار شيء من الإضافة المركزة على بعض المسائل المنهاجية الهامة ..
الرشاد: نعلم أن كتابكم الأخير (بهذا ألقى الله: رسالةٌ إلى العقل العربي المسلم) لقي استجابةً طيبةً وقبولاً واسعاً في معظم البلاد العربية رغم انطلاقه من رؤيةٍ أصيلةٍ (تجديديةٍ) للدين والحياة ، وهي رؤيةٌ يعتبر البعض أن الآراء والمواقف التي تنتج عنها تسبب الكثير من الجدال والصخب والمعارك الكلامية في أوساط العرب والمسلمين ، بل ربما اعتُبرت مثل تلك الآراء والمواقف عند البعض الآخر سبيلاً للتسيّب والتميّع والانفلات .. ما هي في رأيكم المعطيات التي أضحت تسمح لمثل هذه الرؤية التجديدية باختراقٍ متزايدٍ لجدران وحصون الجمود والتقليد والآبائية ؟ و هل بدأت حقاً رحلة العقل العربي والمسلم نحو فهمٍ أكثر توازناً وعمقاً ، بل ونقول أكثرَ أصالةً لهذا الدين ؟
الدكتور حسان: أما الاختراق المتزايد لجدران وحصون الجمود والتقليد والآبائية فإنه أمرٌ حميد ، وقد قصدت إليه بالتأكيد فيما قصدتُ عندما أزمعتُ أن أكتب "بهذا ألقى الله". والعجيب أن ما تُسميه أنت نزعةً تجديدية قد تعلمته أنا في الأربعينيات من هذا القرن على يد من لا يشكُّ عارفوه في دينه و علمه و أمانته . و هو النهج السوي و المحجة البيضاء لا يضيرها أن يتجاوزها البعض إلى التسيب و التميع و الانفلات ، ولا أن يقصر عنها البعض فينحبسَ في الجمود و التقوقع و الورائية . إنما الذي رأيته "جدَ" فيما بين شبابي و كهولتي هو أن هذه الصفحة البيضاء و المرآة الصافية و الدعوة الناصعة قد تكاثف عليها الغبار وران عليها الصدأ و حجبتها خيوط العناكب ، فرحتُ مع غيري نحاول أن نجلوها و نجليها من جديد . أما الكثير من الجدال و الصخب و المعارك الكلامية بين العرب و المسلمين كما ذكرت فهي شيمةٌ في أصحابها و ليست في الدعاوي المطروحة.. وقد كان النبي عليه الصلاة و السلام و الذين تبعوه بإحسان إلى يومنا هذا يناقشون الناس في الأمر الأجلّ و هو "لاإله إلا الله" في غير صخبٍ و لا عراك ، تابعين في ذلك أسلوب رب العزة سبحانه و تعالى في كتابه الكريم، ونحن للأسف نتقاتل و نتعادى على فروع فروع الفروع التي لو صمتنا عنها تماما في ظروفنا الحاضرة  لكان أقرب للتقوى.
أما رحلة العقل العربي والمسلم نحو فهمٍ أكثر توازناً و عمقاً و أصالةً فمعاذ الله أن أقول إنها بدأت .. بل هي مستمرةٌ من الماضي للحاضر و المستقبل ، و أما الغبارات التي ثارت مؤخرا من جراء الاستجابة العاطفية المفرطة لبعض الظروف، و التي يكاد يعذرها البعض لأنه من العسير أن يظل الإنسان طبيعياً تحت ظروف غير طبيعية ، فهذه هي التي نرجو أن تهدأ و تثوب و تؤوب حتى يصب الجهد كله في المسار المطلوب بتعقل وحنكة ورأب وحتى لا يكون بأس المسلمين بينهم و لصالح عدوهم. ولعل من الواضح في الخطاب القرآني أنه اتجه إلى"الذين يعقلون" لا إلى الذين يتحمسون.
الرشاد: مادمنا في أجواء الحديث عن التجديد والاجتهاد ، لا شك أن هناك عوامل  تساعد الأمة على إدراك ضرورةِ وحتمية الانطلاق من هذين المعلمين من جهة ، وعلى قبول المواقف والأحكام والبرامج الجديدة التي تنبثق منهما من جهة ثانية . وربما كان من هذه العوامل امتلاكُ الحد الأدنى المطلوب من آليات الاجتهاد و نصابِهِ (بعيداً عن المعاني التقليدية التي تُذكرُ في هذا الباب) ، والفهمُ العميق العلمي لأصول الدين ومقاصده ، والإحاطةُ المنهجية بالذخيرة التاريخية من التراث الإسلامي (ونقصد بالتراث كل ما عدا الكتاب والسنة) . ما هي برأيكم السبيل إلى ضمان استصحاب مثل هذه العوامل ، خاصةً في المواقع التي تشتدُّ وتتعددُ فيها الضغوط العملية ، وتتعاظم فيها الحاجة إلى استجاباتٍ سريعةٍ ومباشرةٍ للكثير من الحوادث والمستجدات ، و تقلُّ فيها بالتالي الفرصة لفسحةٍ من البحث العلمي المتعمق بحثاً عن إجاباتٍ منهجية للأسئلة التي تطرحها تلك المستجدات ؟
الدكتور حسان: أود بادىء ذي بدء أن أزيل لبساً يقع فيه كثيرٌ من المسلمين ، وهو أنهم يحسبون التجديد تغييراً وانتهاكاً للأصل . فإذا كانوا على رأيٍ وطالَعتَهم بِغيره انزعجوا  انزعاجا شديدا و انطلقت التهمة الجاهزة و كأنها الفعل المنعكس تتهمك بتغيير الدين ، و كأنما تلك التهمة سهمٌ مشدودٌ في قوس . مع أن الجميع يعلمون – نظرياً على الأقل – أن للشريعة ثوابتها التي لا تُمسّ ، و لكن معظمها من أمور الفقه التي تخضع للنظر و تطالُها ظروف الزمان و المكان و الإمكان، وبهذا اجتمعت لنا مذاهب ومدارس و سِعَها المسلمون ما وسعتهم العافية في دينهم وعقلهم. و قد تعاقبت القرون وأفرخت من الشؤون والمستجدات ما يستعصي على الحصر وما زالت المذاهب المشهورة أربعة (لدى أهل السنة) وما زال اللاحق يعتمد على السابق حتى في الأمور التي لم ترد على زمن هذا السابق ولا على خاطره.
ولقد أنصفتَ إذ ذكرت أن المسلمين المستنيرين يدركون أن الحاجة ماسة إلى التجديد و الاجتهاد ، و الشريعة بحمد الله تحمل في طيّاتها آلية مرونتها و قدرتها على مواكبة الجديد . و قد تفضلت بذكر "امتلاك الحد الأدنى من آليات الاجتهاد و نصابه" و أرى أن الشروط التقليدية للأهلية للاجتهاد ينبغي كذلك أن تراجع ، فالثقافة العامة و الدراية بما يجري في العالم من أحداث و ما يجدُّ به من مذاهب اجتماعية أو أخلاقية أو فلسفية و ما يطالعنا  به العلم من كشوف وما أتاحته العلوم الطبية من مداخلات و غير ذلك كثير أصبحت شرطا أساسيا للمجتهد .
و تستغرقني الدهشة و الأسى عندما يبحث مؤتمر إسلامي موضوع البصمة الجينية و التعرف على الشخص بوسيلة حمض النوديل DNA و يكون إسهام الفقيه المسلم في ذلك بحثا عن علم "القيافة" و شروط القائف كما وردت في كتب السلف . و كنا مرةً مؤتمرين نبحث باباً من أبواب علم التكاثر البشري و بويضة المرأة ووصفها  فإذا بفقيهٍ جليل يتساءل لماذا نصر على البحث في بيضة المرأة و هي على هذا الصغر و لا نستبدلها ببيضة الدجاجة  فهي أكبر حجما و أيسر رؤية !!! بل كنا في لجنة الصياغة إثر مؤتمر عن الاستنساخ و إذا بمفتي إحدى الدول الإسلامية يطلب مني أن أشرح له الموضوع من الأول لأنه لم يفهمه . إن مؤهلات الاجتهاد التي تعتمد على الذاكرة و قوة الحافظة ربما عوض عنها ببعض الشيء قرص أو أكثر من أقراص الكمبيوتر في زماننا هذا .. أما الفهم و الوعي فلا غنى عنهما خاصةً و القاعدة الشرعية تؤكد بأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره .
كذلك ينبغي أن تروض الأمة نفسها على سماع أكثر من اجتهاد و كل منها مقبول . و قديماً قال عمر أُفتبنا بما علمنا و نفتي بما نعلم . و كتب الشافعي في بغداد ثم كتب من بعدها في القاهرة ، فماذا تراه كان سيكتب لو عاش معنا في بلدنا هذا (لوس أنجلوس) في زماننا هذا (آخر القرن العشرين) . إلا أنني لابد أن أسجل بالثناء أنني لقيت بعض الفقهاء ممن تجاوزوا هذه العقلية ، مثل مفتي تونس (الشيخ محمد مختار السلامي رعاه الله) فإتقانه للفرنسية وَصَلَهُ بالعالم المعاصر . كما أن هناك اتجاهاً حميدا يجعل الاجتهاد جماعياً يصدرُ عن ندوات تضم العلماء و الفقهاء . لكنني – في الوقت نفسه - لا أعفي زملائي و أبنائي من أهل العلوم الكونية من القراءة في العلوم الشرعية . و العقل الذي استوعب الطب أو الكيمياء لن يضيق عن استيعاب كتب الفقه .
تبقى مسألة التراث الإسلامي .. و فيه الكثير مما يستفاد منه .. و لكن فيه الكثير من غير ذلك أيضا . و لعل من حسن الحظ أن تاريخ المسلمين لم يندرج بين مصادر الشريعة ، فلم يكن تاريخ المسلمين دائماً تعبيراً أميناً عن الإسلام .
3. الرشاد: ربما يكون من المتفق عليه أن تلقِّي المعلوم من الدين بالضرورة بلغةٍ غير العربية (مثل الإنكليزية في هذه البلاد) يكفي لِعامَّةِ المسلمين   من غير الناطقين بالعربية  في فهم دينهم والانطلاق من ذلك الفهم في التعامل مع واقعهم المعين ، بل وحتى في تمكينهم من إعطاء النموذج الحضاري المطلوب . إلا أن الحكم في المسألة يختلف حين يتعلق الأمر بمسائلِ الاجتهاد والتجديد التي يُشترط فيها امتلاكُ ناصية اللغة العربية لضمان التلقي المباشر من نصوص القرآن والسنة .. كيف ترون إمكانية التعامل مع هذه المسألة خاصةً فيما يتعلق بالأجيال القادمة في مثل هذه البلاد المفعمة بالحيوية والانطلاق .. بشكلٍ يمكن أن نتجنب فيه ولادة أو (استنساخ) إسلامٍ مسخٍ أو مشوهٍ لا علاقة له بأصول الدين ومقاصده في كثيرٍ من المجالات ؟
الدكتور حسان : مسألة اللغة العربية مسألةٌ هامة لأكثر من وجه . لكن يبدو من سؤالك أن الأمر قليل الأهمية في اكتساب المعلوم من الدين بالضرورة إذ تكفي فيه الترجمة و هو أمرٌ ينطبق على الأغلبية الساحقة من المسلمين . و تراها أنت ضرورية بالنسبة للصفوة القليلة من الفقهاء الذين يتصدون للاجتهاد و الإفتاء . و أنا معك في أن إعداد هؤلاء ينبغي أن يشتمل على دراسة متعمقة للغة العربية تجعلهم يأخذون بناصيتها . كان يحدث ذلك في السابق فأنتج فقهاء أجلاَّء لم تكن العربية لسانهم الأول . و يحدث أيضا في اللاحق في الأقسام المتخصصة في جامعات الغرب ، أو كما تقرأ  في تعقيبات محمد أسد في "رسالة القرآن" المشهورة بترجمة محمد أسد . و قد سجلتُ في السابق حواراً تلفزيونياً مع الرجل في بيته بالأندلس باللغة العربية فما أخطأ في النحو مرة واحدة .. و في إحدى الدول العربية وزيرةٌ للثقافة حائزةٌ على الدكتوراه عن "أبي العتاهية" من جامعة ادنبره باسكتلندا . و لقيت مرة فتاةً أمريكية أسلمت و زارتنا بالكويت فإذا عربيتها سليمة لا لحن فيها و لا لكنة ، و أجابتني أنها تعلمتها في جامعة السوربون في باريس . و كان هناك شابٌ أمريكي كان يزاملني في ندوة في السعودية حسبته سورياً فلما هنأته على سلامة عربيته أدركت أنه غير عربي . و التخصصات الإسلامية في الهند و باكستان و إيران تشتمل على العربية .. و لا أعتقد أن الأمر في أمريكا مُحالٌ و لكن الاهتمام الكافي لم يتوافر بعد .
و ريثما يتم ذلك فإن العلم (من التراجم) بالحلال و الحرام و المقاصد و المصالح مقترنا بالورع و التقوى و الفطنة كفيلٌ بسدِّ الثغرة إلى درجة كبيرة . لكن دعني أرجع إلى جماهير المسلمين و عامّتهم في مشارق الأرض و مغاربها و تخصنا مغاربها أكثر . فأنا أرى الموضوع حيوياً و جوهرياً على المدى الطويل . و لن يكون المسلمون أمةً إلا إذا التقوا على لسان ،  وأنا لا أطمح إلى عربيةِ المتخصصين في اللغة و المتبحرين فيها بل الفهم العادي و الدراية بالكتابة و القراءة . و لا أقصد أن يكون ذلك بدلا من الدراية باللغة القومية لمن شاء ، و لكن على المسلمين أن يتعلموا العربية و كان ينبغي أن يكون ذلك على قمة اهتمامات المراكز الإسلامية (من بعد تعليم الطفولة) كما يهتم اليهود بتعليم كل يهودي اللغة العبرية التي أحيوها من بعد موتها.. فاللغة للأمة كيانٌ و رباطٌ و شرفٌ و هويةٌ و أخوةٌ و اعتدادٌ و صِلةٌ بين مصدر الشريعة و مصبها و بين أفراد الأمة على طول تاريخها السابق و عرض جغرافيتها الحاضرة . إن المطلب ممكنٌ إذا طلبناه .. و لكن لا هِمَّةَ لمن لم يُرِدْ و استمرأَ الأمر الفُرُط .
4. الرشاد: كثيراً ما يرى الإنسان في مواقع وجود الجالية المسلمة في بلدٍ مثل الولايات المتحدة تبايناً بين صورتين ، إحداهما تُظهر التزاماً بالغاً (وربما مُبالغاً فيه) بالمظاهر و القوالب والأشكال ، يصاحبُهُ انغلاقٌ فكري وجمودٌ عقليٌ يتجلى في طرق التفكير وفي المواقف والبرامج والمناهج بشكلٍ لا يليق بفهم المسلم الأصيل لدينه وشريعته . بينما تُظهرُ الصورةُ الأخرى مرونةً عقليةً وانفتاحاً فكرياً يفهمُ الواقع بمتغيراته ، ولكن يُصاحبهُ زهدٌ  وانصرافٌ (ربما يكون أيضاً مُبالغاً فيه ومُتَعمداً عند البعض) عن كثيرٍ من مظاهر الالتزام وأشكاله الخارجية . حتى لكأنَّ هذه المُقابلة الظالمة صارت قدَراً لايرى البعض واقع المسلمين في أمريكا ويتعامل معه إلا من خلاله .. بشكلٍ ضاعت فيه كل معاني التوازن و الوسطية التي جعلها الله سبحانه العلامة المميزة لهذه الأمة. ماهي برأيكم مقدمات وسبل الخروج من تلك المقابلة الظالمة ؟ وما هو دور العلماء والمثقفين والموجهين التربويين في هذا الباب ؟
الدكتور حسان : هناك طائفةٌ ثالثةٌ بطبيعة الحال و إن لم نكن نشعر بها و هي ما يُعبَّرُ عنه بالأغلبية الصامتة و أسميهم الأغلبية الغائبة . فلقد قرأت من سنوات قلائل بحثاً لأحد الباحثين خلصَ فيه إلى أن المؤسسات الإسلامية من مراكز و مساجد و جمعيات لا يرتادها أكثر من خمسة بالمائة من  المسلمين في الولايات المتحدة . و يبقى خمسة و تسعون بالمائة خارج النطاق في حياتهم (المدنية) العادية . و لا أزعم أنهم كلهم ضائعون من الإسلام بل و إن فيهم من يحافظ على صلاته و صومه و يتحلى بالخلق الإسلامي الصحيح كما يفعل سواد الناس في بلاد المسلمين .. لكن منهم كذلك – و لعلهم الأكثرية – من ضاع من الإسلام و ضاع منه الإسلام و اندرج مع سائر الأسماك في أحشاء المحيط الضخم . و تنشغل أنت و أنا و أمثالنا بالحركة الإسلامية و تملأ علينا أفقنا و تحتشد لها جهودنا و نصنفها و نحللها و نتدارسها و نقسمها و خمسة و تسعون بالمائة  من المسلمين خارج مجال البصر ، فلا يملأ المساجد والمراكز إلا تلك الخمسة بالمائة ، وأما ما غاب عنهم فهو غير موجود ..
بهذه المقدمة أعود بك إلى النمطين الذين ذكرتهما و الموجودين في المراكز الإسلامية و المساجد ، قد تصطبغ بأي منهما مساجد فتكون الحرب سجالاً بين المسجد و المسجد ، و قد يلتقيان في المسجد الواحد فتكون الحرب أهلية داخل الجدران ، إما حرباً مستمرة و إما ريثما يتمكن أحد الفريقين من التخلص بطريقة ما من الفريق الآخر ، و قد تحدث خلال ذلك أحداث مؤسفة و نوادر مقزّزة لو تخيلت إزاءها الإسلام إنساناً لشهدت الدموع تفيض من عينيه أنهارا .
و تعال و لو من باب الاصطلاح نطلق على الفريقين اللذين ذكرتهما أهل الخشونة و أهل المرونة . أما الأولون فهم على وجه الإجمال مخلصون ، و هم صادقو الرغبة في خدمة الإسلام ، و لكنهم يحدثون أثراً عكسياً و إن صلحت نواياهم و ظنوا أنهم يحسنون صنعا . إن هؤلاء لن يكونوا عناصر جذبٍ للجيل الجديد من ورائهم و لا للجيل الحاضر من حولهم و لا لغير المسلمين في مجتمعهم . إن و جودهم في أمريكا و جودٌ جغرافي لا فعلي ، و فيما عدا بعض الصور السلبية التي تصدر عنهم فإنهم إلى زوال في جيل أو اثنين. و أنا أعذرهم فذلك مبلغهم من العلم (و إن كنت صادفت من بينهم أفرادا يحملون الدكتوراة) .. و آفتُهُم أنهم يحسبون علمهم القليل كل العلم و ينغلقون عليه فلا يتفحصون ما سواه . و أنا أحبهم و أدعو لهم و لا أحمل لهم الضغينة  و لو طالني منهم أذىً أو غيبة ، بل لعلي كنت أحمل ملامح منهم عندما كنت في سن المراهقة حتى تخطيت هذه المرحلة بفضل الله ، و لكنني لا أيأس منهم فإن بيد الله مفاتيح القلوب . بلوالحمد لله أن كثيرا من التجمعات التي كانت تُكفِّرنا لذهابنا لغير المسلمين أو لدعوتنا المسلمين إلى المشاركة في الانتخابات تحولت إلى موقفنا الآن و نسأل الله لهم التوفيق .
أما أهل المرونة فالآمال معقودةٌ بهم . و هم أقدرُ على استرداد الأغلبية الغائبة و على حمل الإسلام إلى أنظار غير المسلمين و على تنشئة الأجيال المقبلة على الإسلام . وباعتبار أنهم على الإجمال أوفى نصيباً من التعليم فهم  أجدرُ أن يكونوا أقدرَ على تفهم الإسلام . و هم أقدر على الصبر على أهل الخشونة من العكس ، و مع ذلك فنودُّ أن نُحذِّرهم من حبلين من حبائل إبليس خشية أن يقع فيهما أحدٌ منهم ، الأول أن يصيبهم الكبر و التعالي أو الاستهزاء بالفريق الآخر ، و الثاني أن يبالغوا في دور العقل و أهميتهِ الشرعية  فيتجاوزوا الحدود الواضحة باسم الاجتهاد بل الورع الورع و الخشية و الحذر.
5. الرشاد: نعلم أنكم ممن يُقدّرون  بتوازن  الدور المهم للعلم والمنهجية في إعادةِ إحياء العقل العربي المسلم وترشيدِ حركته نحو استعادةِ دورهِ في صياغة الحضارة الإنسانية الإسلامية التي يمكن وصفها بحق على أنها "رحمةٌ للعالمين" . في ضوء تجاربكم المتطاولة في الولايات المتحدة ، ما هي أولوياتُ الوجود الإسلامي في هذه البلاد ؟ وهل ترون أنه يمكنُ اقتحام المواقع المؤثرة والموجهة للحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في أمريكا بشكلٍ خاص والغرب بشكلٍ عام بشكلٍ حقيقي وفعال ببضاعةٍ مُزجاةٍ من التخصص العلمي والمنهجي ، و اعتماداً على مزيجٍ محدود من الخبرات والتجارب الشخصية العامة   المصحوبة في بعض الأحيان بالذكاء الفطري أو "بالفلهوة"  كما يحصل في كثيرٍ من المواقع . لاسيما وأن فقه الواقع انطلاقاً من التخصص والمنهاجية يطرح رؤىً مختلفةً تختلفُ معها الأولويات كما تختلف معها المناهج والبرامج والوسائل والأساليب ؟
الدكتور حسان : ما أعذب أن أسمع وصفك للحضارة الإسلامية بأنها "رحمة للعالمين" فهذا هو السبب الأصيل الذي أرسل الله سبحانه من أجله محمدا عليه الصلاة و السلام . ذلك بأنني كثيراً ما صادفت علماء و فقهاء أجلاء تبدأ صلتهم بالإسلام من المعرفة بالأحكام و القواعد و الأوامر و النواهي تفصيلاً بعد تفصيل فإن حاولت ربط ذلك بالكليّة الأساسية "رحمة للعالمين" وجدتَ فاصلاً يُذكِّرُك بانفصال شجرة عن جذرها أو شبه ذلك . و من بين فطاحل القيادات الإسلامية في زماننا هذا من لم أُبْصِر على وجهه ابتسامةً قط لا في صورة و لا في مشهد .. مع أن رسولنا عليه السلام جعل الابتسامة صدقة . و طالما قلت لطلابي و طالباتي أن الأسنان ليست عورة .. و ذلك لأحفزهم على السمَّتِ الباسم بدلاً من السمت المتجهم الذي يحسبونه من تمام الورع و متممات التقوى .. هذه هي ابتسامة الثغر ، و هي أسهل الابتسامات و تبقى ابتسامة التعامل و الأخذ و العطاء و البيع و الشراء و الدعوة و الدعوى و النقاش و الجدل و لا حرمنا الله بركة الابتسامة .
و تسأل عن أولويات الوجود الإسلامي في أمريكا و ألخص ذلك في اثنين: الأولى أن أكون مسلما (أو أن أصبح مسلما .. حسب مقتضى الحال) ، و الثانية أن ترث ذريتي إسلامي حتى لا تضيع التركة و تنقطع السلسلة .. و تحت كل منهما كلام كثير لا أحسب قارئ الرشاد يحتاج إلى تفصيله .
ثم نأتي لموضوع "اقتحام المواقع المؤثرة و الموجهة للحياة السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية" ، فأقول إنها تخضع للناموس الإلهي العام الذي يصل الأسباب بالمسببات . و لا أفترض جرثومةً معينة تصيب المسلمين فقط فتعطلهم عن اليهود و النصارى و الهندوس و السيخ و ذراري كوريا و الصين و اليابان و الوافدين من بلاد الله الأخرى . و لا أصدق من يقول أن إسلام المسلم أو المسلمة يشكل عقبةً ابتدائيةً أمامهما في هذه البلاد . و في غضون سنوات قليلة اكتشف الناس في أمريكا أن المسلمين بشرٌ عاديون كسائر البشر، و تقاول الناس أن منهم من ينظفون أحياءهم من المخدرات وتجارها، و أن السجين الذي يعتنق الإسلام في السجن عادة لا يعود إليه، وأن منهم العلماء النابهين في الجامعات ومراكز البحوث، وأن فيهم الاقتصاديين الناجحين رغم حداثة المدة، و أنهم أهل أمانة و نظافة، وصدقني في اعتقادي أن الصور المزرية والشريرة الصادرة عن بعض المسلمين أشد ضرراً من حملات أعداء الإسلام عليه على فداحتها.
و في صفِّنا أيضا إدراك القوم أن حضارتهم صارت تحمل في جسدها جراثيم فنائها . و أن تقدمها المادي لن ينقذها من عقابيل إفلاسها في القيم ، وهي قيم  يمتلك  المسلمون مفاتح خزائنها ، بقي أن يفيق المسلمون إلى واجبهم الذي قرره الله ليكونوا مثلاً له ودعوةً  إليه " كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر".
6. الرشاد: تحدثتم وتحدث الكثيرون عن التفرد بالرأي والإصرار عليه وعن قلة المشاورة على أنها من السلبيات والإشكاليات التي أصابت الصحوة الإسلامية الراهنة ، خاصةً على مستوى القيادات . رغم ذلك ، يجد البعض أن مثل هذه السلبيات لا يزالُ موجوداً للأسف في كثيرٍ من مواقع العمل الإسلامي حتى في الغرب ، وحتى منها المواقعُ التي امتلك أصحابها نصيباً مقدراً من الوعي والانفتاح . صحيحٌ أن المنطلقات ربما لاتكون واحدةً في جميع الحالات ، وأن مثل تلك السلبيات ربما ينتج عن الخوف الصادق على سلامة البناء الذي بُني بالعرق والتعب و الجهد .. وصحيحٌ أن منها ما ينتج عن عاطفةٍ أصيلةٍ مفعمةٍ بإرادة الخير للمشاريع ، وعن ظنٍ بأن مانراه هو الأصوب بحكم تاريخنا وعلاقتنا الوثيقة بتلك المشاريع .. وصحيحٌ أن منها ما لايكون ناتجاً عن أثرةٍ أو غرورٍ أو استمساكٍ بالمناصب والواجهات . كل ذلك صحيح ، ولكن ما ينتج عن وجود تلك السلبيات من هروبٍ للطاقات وتناقصٍ في النمو وتمحورٍ حول الأشخاص وتأففٍ من قبل الناصحين والمحبين ، كل هذا يُصبحُ نتيجةً طبيعيةً لا مفر منها ولا تنفع معها المعاذير السابقة . تُرى ، ماهي الوسيلة العملية للخروج من مثل هذه الأزمة لضمان الاستمرارية والنمو والتطوير والإبداع وتواصل الأجيال ؟
الدكتور حسان : إذا نظرنا للموضوع من زاوية واسعة و جدناه أمرا منطقياً. فالأمة منذ الفتنة الكبرى زمن علي و معاوية رحمهما الله قد سقطت في قبضة الديكتاتورية و لا زالت فيها إلى الآن .. و استنبتت في الديكتاتورية الأجيال و الأجيال على مدى القرون المتطاولة حتى أصبحت تراثاً ، و دخل في روع الناس أن الحياة العادية هي ما يرون . قد يكون الحاكم صالحاً فتصلح الأمور و قد يكون فاسدا فتفسد (و هو الأغلب) ، لكنه على الحالين صاحب الكلمة العليا و الرأي المطاع . و رأى الفقهاء ذلك في تاريخ المسلمين فأدخلوه – خطأً – في الفقه الإسلامي ، مع أن تاريخ المسلمين لا يلزم أن يكون من مصادر الشريعة . و منهم من جامَلَ الشورى لكنه جعلها غير ملزمة مع أنه جعلها لأهل الحل و العقد و لو لم تكن شوراهم ملزمة فإنهم في الواقع لا يحلون و لا يعقدون .
و سارت الديكتاتورية في المجتمع فأصبحت خُلُقاً قوميا لا في سدة الحكم فقط و لكن في مصالح الحكومة و الدواوين و الأسر و المدارس و المساجد و طبعا المراكز الإسلامية . و الذي نعيبه في حكامنا هو فينا كلٌ حسب موقعه. و يوم ترفع حاكماً و تضع مكانه أي أحد فسيتحول إلى ديكتاتور مماثل . و يوم يتولى فيعلن أنه سيتنحى بعد مدة رئاسية واحدة فلن يصدق وعده . هذه شيمة الأمة عموماً و ليست شيمة أفراد شذوا عن القاعدة .. و المصلح الإسلامي أو الوطني الحق هو أشبه الأشياء بالطبيب النفسي الذي يخلصنا من هذه العقدة ، و ترتيبها عنده يسبق الخطط الاقتصادية و السياسية و العسكرية ، و هو يستطيع أن يصوغ النظم و القوانين و المؤسسات التي تفي بذلك و ليس شرطاً أن يبقى في السلطة إلى حين اكتمال التجربة ، لكن هذا يحتاج إلى قوة شخصية و إيثار للصالح العام على المدى الطويل . و ينبغي التركيز على تعليم الناس ذلك ، ففي تاريخنا الحديث أسماء مثل شكري القوتلي و سوار الذهب أصبحت نسياً منسياً .. بينما التمجيد بل التقديس منصبٌ على الذين يفعلون عكس ما فعله أولئك تماما .
و تجربة دول الغرب تدلنا على أن الأمم لا تعقم فتنجب الواحد الذي لا بديل عنه ، و أن انتقال السلطة من يدٍ إلى يد في سهولة و يسر لا يُنتج الخراب و الدمار بل التقدم و الازدهار . أما فيما يتعلق بالمؤسسات الإسلامية في أمريكا فهناك اعتباراتٌ أساسية لا يجوز التعامي عنها ، إن المساجد مفتوحةٌ للجميع لا تغلق أبوابها دون أحد ، لكن العمل و النشاط و الخطط و خط السير و الإيديولوجية ليست كذلك . فهناك إيديولوجيات شتى و رؤى قد تكون متخالفة بين أنماط المسلمين في أمريكا ، و على الذين ينوون إقامة مركز إسلامي أن يبدؤوا بتكوين جمعية  من بين المتجانسين في الرأي و أصحاب المفهوم المشترك ، تتولى اختيار الجمعية العمومية على نفس الأساس . و من هؤلاء يصير انتخاب مجلس الإدارة و رئيسه و لجانه و وضع لائحة داخلية تكفل تداول السلطة بشكل يحول دون تركيزها أو استمرارها بغير حد . فهذا هو الكيان الإداري للعمل ، لكن باب خدمة الإسلام مفتوحٌ للجميع و كل كفاءة يجب أن يُستفاد منها ، فأنا في مركزنا الإسلامي مثلاً لم أكن أبدا رئيساً لمجلس الإدارة و لا حتى عضواً فيه . و جعلُ دفع الاشتراك هو وحده شرط العضوية غير كاف ، و قد علمت عن مراكز يأتي يوم الانتخاب فإذا بفلان من الناس يدفع شيكا باشتراك مائتين من رواد المسجد و يختطف المركز بهذه الطريقة إلى طقم جديد ذي مفاهيم مغايرة تماما .
هذا وإن نشر التعليم (وليس العلم الشرعي وحده) و إتمام مكارم الأخلاق ، بجهد المعلمين و الدعاة اللذين بلغوا هذا المستوى ، هو الطريق الوحيد لإصلاح الحال و تعديل المسار ، و لعل الأجيال الجديدة الناشئة هنا و البريئة من هذا الداء في تراثنا تكون أقدر على ذلك إن شاء الله .
7. الرشاد : نعرف عنكم اهتمامكم البالغ بمسألة التعليم في الغرب عموماً وفي الولايات المتحدة على وجه الخصوص . ولا نكشف سراً إذا قلنا أن ريعَ كتابكم الأخير موقوفٌ على إنشاء مدارس لتعليم أبناء المسلمين في الولايات المتحدة . رغم ذلك ، يقول البعض أن تعميم مثل هذا النموذج بكثافةٍ غيرُ ممكنٍ من الناحية العملية ، وأن الأمر سيظلُّ حلاً محدوداً (للنخبة) أي لمن يمتلكون الإمكانات المادية الكبيرة وهؤلاء معدودون ، بينما مئات الآلاف من أبناء المسلمين بعيدون عن هذه الإمكانات . ولذلك فإن الأجدى  حسب هذا الرأي  هو تسخيرُ الطاقات والجهود الفكرية والمادية للبحث عن حلولٍ أخرى تنفعُ تلك الأعداد الكبيرة التي ستظل تتلقى تعليمها في المدارس العامة . ما رأيكم في مسألة (النخبة) و(العامة) ؟ وإذا كان هذا التحليل صحيحاً ، ما هي البدائل الممكنة على المستوى الطويل ؟ ثم ، إذا افترضنا إمكانية نجاحِ وتعميمِ تجربة المدارس الإسلامية ، هناك رأيٌ يقول بأن مثل هذه التجارب تُؤكِّدُ العزلة عن المجتمع الكبير ، فضلاً عن أنها تضع أبناء المسلمين في أجواءَ اجتماعية مثالية تختلف جذرياً عن أجواء المجتمع الخارجي ، الأمر الذي يمكن أن يؤدي بهم إلى صدمات نفسية وعملية حين يحين الوقت الذي لابد فيه من الخروج إلى ذلك المجتمع الكبير والمعقد . كل هذا لاسيما أنه من الصعب أن يكون الجهاز الإداري والتعليمي لكل المدارس الإسلامية بنفس المستوى المأمول وعياً وانفتاحاً وتوازناً ، فنحن نتحدث عن جالية وليس عن تجربةٍ واحدة متميزة هنا أو هناك . وحسب هذا الرأي فإن النتيجة في النهاية ستؤدي إلى خلق عقلية (الغيتو) المُغلقة التي تئدُ كل إمكانيات التفاعل الحضاري والتأثير الثقافي ، وتمنعنا  كمسلمين  من نقلِ كل المعاني والقيم العظيمة الموجودة في هذا الدين إلى أكثر المجتمعات على الأرض حاجةً إليها . من واقع تجربتكم الطويلة ، ماهو رأيكم في مثل هذه التحليلات ، وكيف السبيل لإدراك نقطة التوازن بين هدف الحماية والتأهيل وهدف المشاركة والتأثير؟
الدكتور حسان : يكاد يكون التعليم الإسلامي هو الضرورة الأولى لبقاء الإسلام في أمريكا في المستقبل ، و أوضاع البيوت الإسلامية و مدارس يوم الأحد في المراكز لا تنهض لهذا الهدف . و في أمريكا ألف و خمسمائة مسجد وددت لو كانت ألف و خمسمائة مدرسة تأوي كل منها مسجداً . لكن الظاهر أن الأفواج الأولى من المهاجرين كانت من جراء الخوف من المستقبل تتمسك بالماضي و تلوذ إليه فهم يريدون مسجدا شبيهاً بمسجد البلد الأم  ذا مئذنة شبيهة بمئذنته على قدر الإمكان ، و تتنقل في أمريكا فتجد عددا كبيرا من المساجد "القومية" بكل معنى الكلمة . و لم يجيء دور التفكير في المستقبل إلا عندما ترعرع الأولاد فإذا هم لا يكادون يمتون إلى الوطن الأصلي بشيء ، و إنما هم عملياً أمريكان في بيئة أمريكية و مضامين اجتماعية و أخلاقية أمريكية تُلقِّنُها و تروج لها المدرسة الحكومية الأمريكية .
و لقد ظهر أن شعار "التعليم الخالي من القيم" ليس تعليماً محايداً كما يزعمون.. إلا من قبيل الحياد بين الذئب و الحمل ، بل هو إخلاء السبيل بين القيم المنحطة و بين الشباب تدعمها صناعة الفساد المزودة بمئات المليارات من الدولارات و التفاصيل يدركها كل ذي إدراك .
فمنذ عام 1989 قرر المجلس المحلي المُتّحد للتعليم بلوس أنجلوس أن يكون شهر يونيو/حزيران من كل عام عيداً للمنحرفين . و شاهدت كتاباً اسمه " لي أبوان" و آخر اسمه" لي والدتان" .. و منذ فترةٍ قريبة دعت مدرسةٌ خاصةٌ للبنات بالغة العراقة و الاحترام وتقع في ضاحية "باسادينا" القريبة من مدينة "لوس أجيلوس" إلى محاضرةٍ عن السحاقية بدعوى تعليم البنات سعة الصدر و عدم التعصب.. و الأخلاقيات في المدارس على ما يعلم الجميع ، فمن يُعلِّمُ أبناءنا أن هناك حلالاً و حراماً و مباحاً و غير مباح ، و أن لنا نحن المسلمين قيمنا و أخلاقنا و أنه إن كان الشعار المطروح الآن "كن ما أنت" فشعار الإسلام "كن ما ينبغي أن تكون" .
أما زيادة الطلب على المعروض من المدارس الإسلامية فعلاجه العطاء لأقصى حد لبناء المدارس و تشغيلها و إعانة غير القادرين على مصروفاتها . و ليس الأمر واجب أسر التلاميذ فحسب بل هو نفيرٌ إسلاميٌ عام يدعو من لهم أطفال  و من ليس لهم أطفال إلى هذا الباب من الجهاد ، بحيث تصبُّ فيه التبرعات و الزكوات و يُغدقُ عليه الفقراء و الأغنياء لا تبرعاً و تفضلاً و لكن واجباً و جهادا .
و أنا معك في أنه ستبقى بعد ذلك أعدادٌ كبيرةٌ من الأطفال المسلمين ليس لهم مكان إلا التعليم العام .. فيلزم أن ندبر من أجلهم أموراً ثلاثة:
الأول مكانه في المراكز الإسلامية في نهاية الأسبوع و في رعاية الأسرة طول الأسبوع . و الثاني في برنامج "ما بعد الدراسة" بحيث يكون هناك يومان في الأسبوع بعد انتهاء الدراسة يتجمع فيهما الأطفال قبل الذهاب للبيت في مكانٍ مُعَدٍّ لساعتين من دراسة الإسلام (قيماً و أخلاقاً و ليس نصوصا فقط) و اللغة العربية . أي أربع ساعات في الأسبوع ، و هو نشاطٌ رائجٌ عند الجالية اليهودية و يعمل به قليل من المسلمين .
أما الأمر الثالث - و هو ما أهملناه حتى الآن – فيتمثل في أن يكون لنا أثرٌ على التعليم العام . و قد علمت أن قرار احتفال المنحرفين بكرامتهم في شهر يونيو نجح بفارق صوت واحد .. ولو كان هناك عضوٌ مسلمٌ في المجلس لحسم رأيه الأمر . و لذلك فإن علينا أن نقدم المرشحين لمجالس التعليم و أن نحتشد لانتخابهم ، و نكتشف إن شاء الله أن انتخاب مثل هؤلاء في المتناول  و ليس في عسر الانتخابات السياسية الكبيرة كالترشيح للبرلمان مثلا . و على أولياء الأمور بجانب ذلك أن يحرصوا على المشاركة في جمعيات "الأهل و المعلمين" في المدارس بشكل عام .
أما سؤالك : هل نحن نعزل الناشئة في "غيتو" إن أدرجناهم في المدارس الإسلامية و أخفينا عن عيونهم البحر الهادر و المجتمع الفائر الذي ينتظرهم؟
أبدا و الله . فليست رسالة  التعليم الإسلامي إلا إعدادهم لخوض هذا المحيط . إن الجندي يُعدُّ للمعركة من قبلها فينزل إليها مؤهلا لملاقاتها.. كما نُحصِّنُ المولود ضد الأمراض قبل أن يتعرض للعدوى بزمن طويل حتى إذا تصدى للجراثيم كانت المناعة قد تكونت في جسمه . وفي التعليم الإسلامي يعرف أطفالنا الله و يرتبطون بالإسلام و يتعلمون السباحة ضد التيار و يعرفون الخير و الشر فيأخذون قرارهم مسبقاً كيف يتصرفون عندما يأتي اليوم الذي يقدم له إغراء الجنس و الدخينة و المشروب و رفقة السوء .. بل إن منهم من يُنصِّبُ نفسه سفيراً للإسلام بالقدوة و بالدعوة عندما يتخرج من المدرسة الإسلامية إلى ما بعدها من مدرسة أو كلية .
9. الرشاد: ختاماً ، سؤالٌ ربما يبدو تقليدياً ، ولكننا نحرص في الرشاد على إلقائه على علمائنا ومثقفينا انطلاقاً من حرصنا المُركَّز على مخاطبة الشباب (وكل من يمتلك روحهم) . من وراء الخبرة الممتدة ، ما هي نصيحتك المحددة التي تُقدِّمُها لأبناء هذا الجيل ممن يرغبون في تقديم عطاءٍ يكون استمراريةً ووفاءً لعطاءِ جيلكم من الطلائع الروّاد ، دون أن يكون بالضرورة نسخةً مكرورةً عنه ، لأنها لن تُعبِّر في جوهرها (إذا كانت مكرورةً) عن تلك الاستمرارية وذلك الوفاء ؟
الدكتور حسان : سؤالك سؤال ختام و يبدوا أنه يوحي بإجابةٍ قصيرة . و لا أعتبر سؤالك هذا هو الأخير فالواقع أنه الأول و الأخير بالنسبة لي إن أردت مني النصيحة الصادقة و الوصية الجامعة . و تتلخص نصيحتي مائة بالمائة للمسلمين شبابا أو كهولا في كلمةٍ واحدةٍ و عنصرٍ واحدٍ اسمه "الحب".
إن الأزمة الطاحنة التي تهد كيان المسلمين يا ولدي العزيز هي أزمة الحب .. بل هي في نظري الأزمة الأساسية الوحيدة .. و بدون حلها لا أمل في حل ما بعدها . و إذا انصلحت فالباقي غير  عصيٍ على الحل .
"الحب" ذلك الذي عشته زمناً في شبابي ثم راح و ما زلت أنتظر عودته إلى الآن . لقد كان الإمام "البنا" يُعلِّمُنا مراراً وتكرارا " سنقاتل الناس بالحب". قلوب المسلمين في بلادهم الآن لا يملؤها الحب . حتى أبناء الصف الواحد ، ناهيك عن المحبة تجاه سائر الناس بل سائر المخلوقات .
"الحب" و ليتني أستطيع أن أحدث الخلف عن حياتنا أيام كنا في سِنِّهم .. لعلهم يتصورون . "الحب".. و امدد  البصر  إلى دول الإسلام و شعوب الإسلام بل العالمين للإسلام ، و ستدرك معنى ما أقول ، حتى مع افتقادك فرصة المقارنة بين الذي كان و الذي هو كائن .
و أسأل الله أن يملأ قلوبنا بالحب ، و أن يصلي على الحبيب المصطفى عليه السلام .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق