الخميس، 14 أبريل 2011

الضامن الوحيد لتحقيق الديمقراطية هو مجتمع مدني قوي وليس أحزاب سياسية متنافسة

الضامن الوحيد لتحقيق الديمقراطية هو
مجتمع مدني قوي وليس أحزاب سياسية متنافسة

إلى المتحزبون الجدد: السياسة ليست أهم من المجتمع

المجتمع القوي والحاكم المستبد لا يجتمعان

أ. مؤمن بلال
أحدثت الثورة المصرية الأخيرة حراكا غير اعتيادي على الأصعدة المختلفة، البعض يرصد مظاهر ذلك الحراك في ضخ الدماء في شرايين المجتمع وإعادة أكثر فئاته وطبقاته إلى الحياة بعد عهودا طويلة من الركود والخمود وانتفاء الفاعلية، أو التخفي من الاعتراضات والمطاردات الأمنية، وبذلك تكون الثورة المصرية قد أعادت الكثير من التيارات المهمشة إلى قلب المجتمع الذي بات ينبض بالحياة.

رغم ذلك فإن النظرة المتأنية تدرك أنه من الصعب أن نصف كل مظاهر هذا الحراك بالإيجابية، بل إن بعض مظاهر هذا الحراك يبدو تحول عشوائي غير مسئول لا دافع وراءه سوى فورة الحماسة في بعضه، و استغلال للأوضاع ومحاولة المسارعة في قطف ثمار الثورة في بعضه الآخر، فالحراك الإيجابي فيما نعتقد هو الذي يسمح لقوى المجتمع المختلفة بالتمدد في نشاطاتها وزيادة فاعلياتها وتطوير امكاناتها، وهو الذي يعيد للمجتمع قوته المسلوبة طوال السنوات الماضية بفعل الدولة التي رأت في وجوده وقوته تهديدا لكيانها ومنافسة لها في نفوذها وفي مجالات عملها.
فليس من اليسير أن نصف بالإيجابية ما نشهده في الفترة الأخيرة من رغبة عارمة في تحول العديد من التيارات ومنظمات ومؤسسات المجتمع المدني من ممارسة أنشطتها المجتمعية الخيرية والتنموية المختلفة إلى الرغبة في التواجد على الساحة السياسية من خلال إنشاء أحزاب سياسية تمثل هذه التيارات، وبصرف النظر عن نوايا هذه الجماعات - فالممارسة السياسية هي في نهاية الأمر حق مشروع لهم يكفله الدستور والقانون- فإن ما يثير قلقنا هنا هو أثر ذلك التحول المفاجىء على مستقبل العمل المجتمعي الإصلاحي والتنموي من ناحية، وعلى مستقبل الحياة والمنافسة الحزبية السياسية من ناحية أخرى.
أبرز الجماعات المتحولة
لن يدور حديثنا هنا كما هو متوقع عن جماعة الإخوان المسلمين، فجماعة الإخوان على أية حال مارست العمل السياسي طوال ثمانون عاما هي عمر إنشاء الجماعة على الرغم من أن إعلان الجماعة عن إنشاء حزبها السياسي أثار حافظة البعض، وهو يهدد مستقبل العمل المجتمعي للجماعة في نظر البعض الآخر، لكننا سنتحدث عن نموذجين آخرين لم يعرف لهما دورا أو مجرد رغبة في ممارسة العمل السياسي في عهد ما قبل الثورة.
 
أما أولهما فهو التيار السلفي الديني بتياراته المتعددة، والذي يشغل مساحة واسعة من المشهد الإسلامي العام سواء في مصر أو العالم العربي، والذي تقوم أصوله -على حد زعمهم- على تنقية العقيدة من الشوائب والرجوع بها إلى منابعها الصافية في القرون الأولى للإسلام، لم يعرف عن هذا التيار في عهد ما قبل الثورة المصرية أية محاولة للمنافسة السياسية وإنما كانوا يرون في تنقية العقيدة مفتاح لحل جميع أزمات المجتمعات الإسلامية، بل وصل بهم الأمر إلى تحريم أي اعتراض على النظام الحاكم السابق واعتباره من قبيل المفسدة العامة وشق عصا الجماعة وخروج منبوذ عن الحاكم.
وبالإضافة إلى مسألة تنقية العقيدة تلك كان للتيار السلفي كذلك دورا بارزا في العمل المجتمعي والخيري العام من خلال مؤسساتها الرسمية "كالجمعية الشرعية لتعاون العاملين بالكتاب والسنة المحمدية" التي تنتشر فروعها في جميع أنحاء الجمهورية، وتعتبر من أقوى وأبرز المنظمات العاملة في العمل الخيري، ليس فقط لأنها تمتلك أكثر من 350 فرعا في مختلف أنحاء البلاد، بل لامتلاكها بنية خدمية اجتماعية واقتصادية تغطي أنحاء البلاد، وربما يكون قيام الجمعية على مبدأ مؤسسها الشيخ محمود السبكي في "الانشغال بالسياسة، وعدم الاشتغال بها" هو ما أتاح لها فرصة الانتشار والاستمرار في مجالات عملها الخيري.
كذلك من خلال تيار جماعة أنصار السنة المحمدية، وهي جماعة قوية بما تملكه من مؤسسات خيرية ومعاهد علمية ومكتبات و مساجد، وبالجملة فقد تمثل العمل المجتمعي للتيار السلفي في العديد من الأنشطة الخيرية مثل كفالة اليتيم، ومساعدة الأرامل والمحتاجين، وعلاج الفقراء وكسوتهم، والإنفاق على الفقراء من الطلاب، وإغاثة منكوبي الحروب والكوارث الطبيعية في العديد من المجتمعات الإسلامية، وبناء المدارس والمعاهد الأزهرية، والأهم من ذلك كله أنها ساهمت في الحفاظ على الجوانب الأخلاقية لأفراد المجتمع من خلال نشرها لقيم الإسلام في التعايش والتسامح الأخلاقي ونشر أخلاق البر والتعاون خلال فترة حكم النظام السابق والتي أدت لأسباب مختلفة من القهر والفساد المالي والإداري إلى تردي الأوضاع الأخلاقية.
 
على نحو مفاجىء تتملك هذه الجماعات الرغبة في ممارسة العمل السياسي على الرغم من تبنيهم لفترات طويلة للغاية مناهج إصلاح مغايرة تقوم على إصلاح أفراد المجتمع مرددون في أغلب الأحوال للحديث النبوي الشريف "كما تكونوا يولى عليكم" كأنهم يرادفون بين السياسة والحكم أو كأن الحاكم هو وحده الذي يستحق أن يطلق عليه لقب السياسي .. غير أن نظرة متأنية في التعريفات المختلفة لمفهوم السياسة تجعلنا ندرك أن للسياسة معانيها العامة، والخاصة وأن الحكم و الحصول على النفوذ ليس سوى أحد المعاني الخاصة لمفهوم السياسة، فالسياسة كما يعرفها "الماوردي" وهو أحد أهم فقهاء السياسة الشرعية في الإسلام هي "القيام على الأمر بما يصلحه" فكل من يقوم على إصلاح شأن من الشئون العامة وفقا للماوردي هو سياسي من الطراز الأول دون حكم أو نفوذ.
 
أما النموذج الآخر فيتمثل فيما قام به الداعية الإسلامي الشهير الدكتور "عمر خالد" من إنشاء مؤسسات خيرية قوية مثل "صناع الحياة" و"مجددون" والتي زادت من فاعلية الشباب المسلم، وأكدت على قيم الإيجابية والفاعلية في الاهتمام بشئون المجتمعات الإسلامية، استطاع عمر خالد ورفاقه في الفترة الماضية إخراج الكثير من الشباب من حالات الفردية والسلبية والعزوف عن الانشغال بالشأن العام إلى المشاركة في هموم المجتمعات وإشاعة روح التضامن والتكافل بين أفراده، وتمثلت أعمال هذه المؤسسات في العديد من الأنشطة مثل كفالة اليتيم، ورعاية الأسر الفقيرة، ومحو الأمية مجانا، وعقد دورات الكمبيوتر،ودور لتحفيظ القرآن الكريم، إضافة إلى مشاريع الأسر المنتجة ومساعدة غير القادرين على الزواج.
 
وصل النجاح بهذه المجموعات أن أصبح لها امتدادات في سائر البلدان العربية، وهو ما يعني أهميتها في القيام بدور الرابط بين الشعوب العربية وتكافلها بصرف النظر عن المواقف الرسمية للحكومات، ويمكن أن نعد ذلك الوسيلة الأنجح في التمهيد لتحقيق الوحدة العربية المأمولة لاسيما في ظل نجاح الثورات العربية في تخليصنا من الأنظمة التي أدت إلى تشرذم هذه الشعوب وعملت على الإيقاع بينها، فتحريك محرك البحث عن "صناع الحياة"، و"مجددون" يتحفك بالعديد من النتائج عن صناع الحياة في مصر وسوريا والأردن ودبي ولبنان وغيرها من البلدان العربية، ولكن للأسف ليس هناك ضامن لعدم اتهامهم كتنظيم دولي بعد إعلان مؤسسهم الدكتور عمرو خالد إنشاء حزبه سياسي حتى لو كان تحت مسمى مختلف.
 
خطورة التحول
أعلنت هذه الجماعات في الآونة الأخيرة عن رغبتها في إنشاء أحزاب سياسية، ولأنها تدرك لا خطورة وإنما غرابة ما تقدم عليه فإنها تشفع ذلك بأمرين:
 
أولهما: أنها ستكون أحزاب منزهة لا تطمع في حكم ولا تنافس على سلطة، وإنما تريد أن يكون لها مقعد على مأدبة السياسة المصرية.
ثانيهما: أنها تطمئن المجتمع فتعد بعدم التوقف عن ممارسة العمل الخيري والمجتمعي.
 
وفي الأولي انحراف عن الفكرة الأساسية لإنشاء الأحزاب السياسية، فأحد أهم مهام الأحزاب السياسية كما هو متعارف عليه في الأنظمة السياسية العالمية هي محاولة الانتشار من خلال طرح برامج تنموية وتقدمية وقومية، والمنافسة على الوصول للحكم لتنفيذ هذه البرامج، أما إنشاء أحزاب سياسية لمجرد إعلان التواجد على الساحة فهذا ينذر بحدوث فوضى حزبية وسياسية لأنه يستحث جميع الأقليات وأصحاب المطالب الفئوية على إنشاء أحزاب سياسية.
 
الأمر الثاني أن وعود هؤلاء بالاستمرار في تأدية الأعمال الخيرية في حالة قيامها بإنشاء هذه الأحزاب يعني وجود حالات من الابتزاز السياسي، ومحاولة ليست فقط استمالة وإنما استقطاب جماهير الناخبين من خلال تهديدهم وإزلالهم بالمساعدات والمعونات الخيرية، وهي أزمة تهدد المستقبل الحزبي على وجه العموم، (وجماعة الإخوان بوجه خاص).
 
إن مكمن الخطر في هذا التحول ليس فقط في دخول العديد من الأفراد غير المؤهلين بمجال الممارسة السياسية مما ينذر بمزيد من الاضطرابات السياسية في وقت نحن أكثر ما نكون فيه في حاجة إلى الاستقرارا- كما شهدنا منذ أيام حديث الداعية السلفي محمد حسين يعقوب عن "غزوة الصناديق" كما سماها وهو ما أثار ردود فعل عدائية لدى العديد من قوى المجتمع-، وإنما في ضعف المجتمع المدني نتيجة الفراغ الذي يحدثه تحول هذه الجماعات إلى ممارسة أنواع أخرى من النشاط كالممارسة السياسية.
 
فالضمانة الوحيدة للحفاظ على الديمقراطية ليس في وجود أحزاب سياسية منافسة فقد رأينا كيف استطاعت الأنظمة الاستبدادية السابقة أن تحيل الأحزاب من قوى سياسية إلى مسوخ لا تملك من أمرها شيئ، وإنما الضامن هو وجود مجتمع مدني قوي يملك مؤسساته البديلة عن مؤسسات الدولة، ويملك تكتلات جماهيرية غير مغرضة يستطيع أن يناوش بها سياسيا الأنظمة متى حادت عن خطوات المستقبل المرسوم، فمجتمع قوي وحاكم مستبد لا يجتمعان، ومجتمع مفكك ضعيف البنية هو مقدمة ضرورية لنظام فاسد وحاكم مستبد، فقوة هذه التجمعات هي في وجودها بين صفوف الجماهير كجزء منها يعمل على تنميتها وليس كقوى سياسية إما وهمية، وإما حقيقية تسعى لاستغلالها والصعود على أكتافها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق