الأربعاء، 11 يناير 2012

منكرات هذا الزمان………..فهمي هويدي


 
(1)
أعذر كل من انتابه الخوف والقلق من استخدام مصطلح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي ابتذله بعض المتدينين الهواة، خصوصا أنه تحول إلى عنوان لتجارب فاشلة لدى جيراننا، تحولت إلى عبء على المجتمع وعلى السلطة ذاتها. ذلك أنه ما خطر ببال أحد من علماء الفقه والأصول أن يختزل «القطب الأعظم في الدين» -بتعبير الإمام أبو حامد الغزالي- الذي هو باب للنهوض بالأمة وصلاح أمرها، بحيث يصبح في نهاية المطاف نوعا من الركض في الشوارع لتتبع سلوكيات الناس وأزيائهم، أو دعوة لإغلاق المحال التجارية في أوقات الصلاة.
 
هذا التهوين من شأن القيم الدينية الذي يستخف بها ويفرغها من مضمونها، جزء من التدهور المشهود في حياتنا الثقافية، التي بات الهزل فيها يختلط مع الجد، والرعونة والحمق يتقدمان على الرصانة والمسؤولية. الأمر الذي أوقعنا في نهاية المطاف بين شرين، شر المتدينين الهواة، وشر المتربصين والمتصيدين لما يصدر عن الأولين من زلات وسقطات، يتم تعميمها والتهويل من شأنها بهدف الإثارة أو التخويف وإشاعة الذعر.
  
كما شهدنا جدلا حول الخلافة الإسلامية ومدى إمكانية قيامها في زماننا..، بل قرأنا مرافعة حول مصطلح «ميرى كريسماس» باعتباره من ضرورات الحداثة والعصرنة، وتحدث آخرون عن التماثيل الفرعونية وهل هي أصنام أم لا.. إلى غير ذلك من الحوارات العبثية التي تجسد الانفصال عن مشاكل المجتمع الحقيقية، وتعبر عن الخلل الفادح في ترتيب الأولويات والانصراف عن الجد إلى العبث. الأمر الذي ينطبق عليه قول الجاحظ إنه: سقم في العقل وسخف في الرأي لا يتأتيان إلا بخذلان من الله سبحانه وتعالى.
 
(2)
حين قال الشيخ محمد الغزالي رحمه الله إن الناس في بلادنا ينتفضون ويثورون إذا هتك عرض أي فتاة، ولكنهم لا يبالون إذا هتك عرض الأمة، فإنه كان ينتقد الخلل الفادح في العقلية التي لا ترى المنكرات العامة، وتنشغل بما هو خاص منها وحدها. وهو ما يسوغ لنا أن نقول إن عوام المتدينين، والسلفيين بوجه أخص، يستنفرون لقضية عري النساء، لكنهم لا يحركون ساكنا إذا صارت الأمة عارية من كل ستر وفاقدة لأسباب المنعة والنهوض. ويستفزهم اختلاء شاب بفتاة لكنهم لا يرون غضاضة في استفراد طاغية بشعبه وتنكيله بمعارضيه.
 
والقياسات الأخرى كثيرة، وكلها تفضح المدى الذي بلغه قصر نظر بعض المتدينين الذين لا يرون حتى مواضع أقدامهم. ذلك أنهم يتجاهلون المنكرات العامة التي تشكل التحديات الكبرى ويشغلون أنفسهم بالمنكرات الخاصة والصغرى، مع أن الأولى ليست أخطر فحسب ولكنها أيضا مقدمة على الثانية من وجهة النظر الأصولية والشرعية. فما يهم المجتمع بأسره مقدم على ما يخص بعض أفراده. ودفع الضرر الأكبر أولى من التصدي للضرر الأصغر.
 
إننا لم نسمع من إخواننا هؤلاء كلاما عن مكافحة الفقر والظلم والبطالة والفساد ونهب ثروة البلد والطوارئ والتعذيب، وغير ذلك من صور المعاناة التي تعذب الملايين وتثقل كاهلهم، في حين ظلت جموعهم ومظاهراتهم محصورة في دائرة التفلت السلوكي والأخلاقي، والحديث الذي لم يتوقف عن المحظورات والمكروهات. وإذ أفهم أن يكون ذلك أسلوب آخرين في مجتمعات تقمع فيها الحريات. ويحظر على الناس أن يتكلموا في الشأن العام، فمن غير المفهوم أن يمضي سلفيونا في مصر على ذات الدرب بعدما غيرت الثورة من الأجواء، ولم يعد هناك عذر لمنسحب أو صامت.
  
هناك نقطة أخرى جديرة بالملاحظة، هي أن المنكرات العامة التي سبقت الإشارة إليها من الأمور التي لا تحتمل الاجتهاد أو الخلاف الفقهي، في حين أن المنكرات الخاصة والصغرى التي ينشغل بها السلفيون أكثرها محل خلاف. ومن الشروط التي تعارف عليها الأصوليون أنه لا ينبغي إنكار ما هو مختلف فيه، لأن ما يراه البعض خطأ قد يراه آخرون صوابا مباحا.
 
إن إخواننا هؤلاء مشغولون بالمحظورات وبالانتقاص من حياة الناس، لكنهم لا يحدثوننا عن المباحات أو أي إضافة تنفع الناس. علما بأن النص القرآني والأحاديث النبوية كلها قدمت الأمر بالمعروف على النهي عن المنكر. لكنهم أسقطوا الشق الأول حين لم يدلوا الناس على أي معروف، وجعلوا النهي عن المنكر وحده قضيتهم ومحور حركتهم.
 
(3)
رغم أن الغموض والشك يحيطان بمن أطلقوا في مصر فكرة تأسيس هيئة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنني لم أفهم لماذا تختص هيئة بذاتها بهذه المهمة، في مصر أو في غيرها من الدول. بل أكاد أزعم أن تأسيس مثل تلك الهيئة هو جزء من ابتذال الفكرة واستهلاكها. ذلك أن تكوين الدولة الحديثة وفر العديد من الوسائل والهياكل التي تنهض بالمهمة أمرا بالمعروف ونهيا عن المنكرات، العام منها والخاص.
 
فالمؤسسات المتمثلة في الأحزاب والنقابات والاتحادات ومنظمات المجتمع المدني المختصة بالدفاع عن حقوق الإنسان، والمجالس النيابية والمحلية المنتخبة، وكذلك الأجهزة الرقابية إذا كانت مستقلة، هذه كلها كيانات ومنابر تقوم من الناحية الموضوعية بمهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من زوايا مختلفة.
 
إن هذا التكليف الشرعي الجليل أكبر من أن تنهض به جهة بذاتها في داخل الدولة، وإنما تتوزع مهامه على كل أجهزة الدولة ومؤسساتها الأهلية، التي تتولى مسؤولية النهوض بالمجتمع وتحقيق الإصلاح السياسي والعدل الاجتماعي، كما تتولى مكافحة كل فساد أو انحراف فيه، جنبا إلى جنب مع مؤسسات التربية والتعليم والإعلام والوعظ والإرشاد.
 
لذلك فمن الأوفق أن تدعو تلك المؤسسات لأن تتحمل مسؤوليتها إزاء تحقيق الإصلاح المنشود، بدلا من أن يترك الأمر لبعض الهواة الذين يتصورون أنهم يقومون بدور الوصاية على المجتمع فينفرون ويفسدون بأكثر مما يصلحون، كما حدث في التجارب الأخرى المماثلة.
 
(4)
بقيت عندي كلمتان في الموضوع، الأولى أن عملية تغيير المنكر ينبغي أن تمارس بعقل واع ويقظ تتوافر له أربعة شروط هي:
 
1- إدراك المقاصد العليا وتصويب النظر إليها طول الوقت. ويضرب المثل في ذلك بقصة النبي موسى وأخيه هارون، التي وردت في القرآن الكريم، حين غاب موسى عن قومه فأغراهم أحدهم (السامري) بعبادة العجل فعبدوه. وهو ما فاجأ سيدنا موسى عند عودته، فنهر أخاه وأنَّبه جراء ذلك -لكن الأخير رد عليه قائلا «يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي، إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي» (سورة طه: 94).
 
وقد استشهد الدكتور يوسف القرضاوي بالقصة في حديثه عن فقه الموازنات، حيث وجد أن هارون آثر أن يسكت على عبادة العجل -رغم أنها من قبيل الشرك- لكي يحافظ على وحدة قومه ويتجنب فتنتهم. وهي الحجة التي قبل بها النبي موسى ولم ينكرها. إذ وجد وجاهة في الإبقاء على وحدة قومه، وذلك هدف جليل، رغم مروق بعضهم وعبادتهم للعجل من دون الله.

٢ ــ ملاحظة أن ثمة ضرورات تفرض نفسها على الواقع على نحو يبرر إباحة بعض المحظورات. إذ كما ان للفرد ضروراته، فكذلك المجتمع الذى قد تفرض عليه ضرورات اقتصادية أو عسكرية أو اجتماعية. وهذه وتلك ينبغى أن تكون لها أحكامها الاستثنائية التى تستمر باستمرار الضرورة.
  
3- إنه لا غضاضة في السكوت على المنكر إذا ترتب على تغييره منكر أكبر منه، دفعا لأعظم المفسدتين وارتكابا لأخف الضررين، واستنادا إلى ذلك المبدأ قرر الفقهاء مثلا طاعة الإمام الفاسق إذا أدى خلعه إلى إثارة فتنة أكبر من فسقه.
 
4- ضرورة مراعاة سنة التدرج، وهو المبدأ الذي سار عليه الإسلام منذ البداية، إذ تدرج بهم في الفرائض كالصلاة والصيام والجهاد. كما تدرج بهم في تحريم الخمر، وحدوث التدرج في التشريع يسوغ التدرج في تنفيذ الأحكام.
 
الكلمة الثانية تخص المكلفين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ذلك أن التغيير له مراتبه الثلاث المعروفة، ولكل مرتبة أهلها. وحسبما يذكر الشيخ محمود شلتوت، الإمام الأكبر، في كتابه «من توجيهات الإسلام»، فإن التغيير باليد منوط بالحكام القادرين على التغيير العملي العام، وأرباب الأسر في محيطهم، والمربين، وسائر الرؤساء الذين ملكهم القانون شيئا من صور التغيير العملي.
 
أما الإنكار بالقول (مرتبة التغيير الثانية) فهو منوط بأهل الوعظ والتوجيه، سواء كانوا من علماء الدين والتربية أو القائمين على منابر الإعلام. أما من يعجز عن التغيير بالفعل أو بالقول فعليه أن يعبر عن موقفه بما نسميه الإنكار السلبي، الذي يدفع المرء إلى مقاطعة أهل المعصية ومظانها. ذلك أن المؤمن إذا لم يستطع أن يكون حربا على الباطل وأهله، فلا أقل من ألا يصبح عونا لهم. كما يقول الشيخ محمد الغزالي.
 
إن الخفة التي يتعامل بها بعض المتدينين الهواة مع التكاليف والأحكام الشرعية باتت تصد الناس عن سبيل الله، وتوفر للصائدين والكائدين زادا مستمرا للتخويف والترويع من الإسلام وأهله.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق