الثلاثاء، 24 يناير 2012

حول الحضور السلفي المفاجئ في مصر……..ياسر الزعاترة


 فيما كانت النتائج التي حققها الإخوان المسلمون في الانتخابات المصرية متوقعة إلى حد كبير، فقد تمثلت المفاجأة في النتيجة الكبيرة التي حققها التحالف السلفي بقيادة حزب النور، والذي لم تكن له أية تجربة سياسية قبل الثورة المصرية، كما لم يشارك في الثورة كما فعل الإخوان الذين دفعوا أبهظ الأثمان في مواجهة النظام، الأمر الذي يستحق التوقف من قبل المراقبين المعنيين بتحولات الظاهرة الإسلامية عموما، وبالوضع العربي بشكل عام.
 
من المؤكد أن صعودا كبيرا قد شهدته الظاهرة السلفية خلال الألفية الجديدة، الأمر الذي يمكن رده أولا وقبل كل شيء إلى انتشار التدين بشكل واسع، وبالطبع كنتاج لمسيرة صعود بدأت منذ مطلع الثمانينيات، وازدادت وضوحا منذ مطلع التسعينيات.

في سياق اتساع نطاق التدين كان التيار السلفي يحتل بالتدريج مساحات كبيرة في الشارع، الأمر الذي يعود بالدرجة الأولى إلى اتساع التأثير السعودي بشكل خاص والخليجي بشكل عام مقابل انحسار التأثير المصري (الأزهري بشكل خاص)، وكذلك الشامي، وحتى المالكي (المغاربي)، وإن على نحو أقل وضوحا، بل إن الخطاب السلفي قد اخترق جماعة الإخوان بهذا القدر أو ذاك تبعا لذات التأثير المشار إليه، ورأيناهم في مناهجهم يتبنون المنهج السلفي في الجانب الأكثر أهمية بالنسبة إليه ممثلا في قضايا العقيدة.
 
عبر جحافل العاملين في السعودية، ومن خلال الرحلات الواسعة النطاق إلى الأراضي المقدسة (عمرة وحجا) وتأثير وسائل الإعلام أيضا، كان التأثير السلفي السعودي يتسع بشكل لافت، وكان للتأثير المالي دوره الكبير، في ظل طفرة مالية عاشتها المملكة ودول الخليج عموما.
 
جاءت ثورة الإنترنت والفضائيات لتزيد من تأثير التيار السلفي الذي لا خلاف على أنه كان الأكثر استفادة من الثورة المذكورة، ومن يتابع النص الديني (الإسلامي) على الشبكة العنكبوتية سيجد أن أكثره سلفي النزعة، إضافة إلى كم كبير من الفضائيات الدينية ذات الطبعة السلفية، والمدعومة بالطبع من السعودية والخليج، أكان دعما رسميا أم شعبيا.
 
لم يتوقف الأمر عند ذلك، إذ حظي التيار (التقليدي بشكل خاص) برعاية رسمية واسعة النطاق من قبل عدد كبير من الأنظمة العربية التي رأت فيه تدينا مريحا من حيث دعوته إلى طاعة ولاة الأمة، وتحريم انتقادهم في العلن، فيما وجدته قابلا للتوظيف في مواجهة "الإسلام السياسي" أكان إخوانيا أم غير إخواني، مستقلا أم منظما، ولذلك بادرت إلى منحه حق النطق باسم الدين في معظم الحالات، وبات تبعا لذلك الأكثر حضورا في المساجد مقابل مطاردة اللون الإسلامي المسيس مثل جماعة الإخوان إلى جانب التيارات السلفية الأخرى المسيسة، أكانت سلفية جهادية (تتبنى منهج العنف) أم سلفية إصلاحية تقترب في طرحها من طرح الإخوان المسلمين في معظم القضايا ذات الصلة بالسياسة والعمل العام (للتذكير استخدمت التيارات الصوفية أيضا في مواجهة الإسلام السياسي لكن تأثيرها لم يكن كبيرا، كما هو الحال في مصر، وعلى نحو أوضح في المغرب).
 
من هنا يمكن القول إن سطوة الإعلام التابع بدوره لقوة السياسة والمال هي التي منحت التيار ذلك الحضور الكبير في الشارع، وأصبح الكثير من دعاته نجوما على الفضائيات يُستفتون ويَعظون ويؤثرون أكثر بكثير من التيارات الدينية الأخرى. وقد عمد هؤلاء إلى التقليل من شأن التيارات الأخرى، أحيانا بدعوى فساد العقيدة، وأحيانا بدعوى شق عصا الطاعة على الحكام.
 
لا يقلل ذلك كله من شأن أبعاد أخرى كما هو حال البساطة التي يتسم بها خطاب هذا التيار، والذي يمنح المنتمين إليه ومن يؤمنون به طريقا سهلا إلى الجنة عبر تدين فردي بسيط لا يسبب الكثير من العنت الذي قد يواجهه الآخرون المستهدفون سياسيا بهذا القدر أو ذاك. ونعلم أن خطاب التيار المذكور (السلفي التقليدي مرة أخرى) كان يتجاهل قضايا السياسة التي توجع الرأس وتسبب المشاكل، ويقدم خطابا أقرب إلى روح العلمانية (ما لقيصر لقيصر وما لله لله).
 
ثمة جانب آخر بالغ الأهمية لانتشار التيار السلفي يتعلق بالفضاء الاجتماعي الذي يتحرك فيه، ففي حين كان الإخوان ينشطون تقليديا في أوساط الطبقة المتوسطة، وينهمكون في شؤون السياسة أكثر من الوعظ الديني، كان التيار السلفي يصل إلى قطاعات أكبر من الطبقات الفقيرة التي تجد في التدين طريقا إلى النجاة في الآخرة ومقاومة ضغوط الحياة، من دون أن يعدم تأييدا لا بأس به في الطبقات الغنية وبعض المتوسطة التي تجد في خطابه تدينا سهلا يجعل النجاة في الآخرة سهلة المنال، من دون أن يؤثر ذلك على طلب الدنيا ونيل الكثير من ملذاتها، ومن دون الدخول في إشكالات مع الأنظمة وسطوتها الأمنية.
 
مرة أخرى نشير إلى أن ذلك كله ينطبق بشكل مباشر على السلفية التقليدية التي تعد الأكثر انتشارا في الساحة العربية (السلفية الإصلاحية وجدت لها فضاءً جيدا في السعودية وفي عدد من دول الخليج، بينما كانت محدودة الحضور في الدول الأخرى). تيار السلفية التقليدية هو الذي نهل حزب النور السلفي من معينه خلال الانتخابات، ولا قيمة كبيرة للقول إن الجزء الأكبر من خطاب رموزه كان يرفض الثورة ويتبنى مقولات الطاعة للحكام، لأن جمهور هذا التيار، أو جزءا لافتا منه، لم يتوقف كثيرا عند التبدل في المواقف، أكانت السياسية، أم حتى المتعلقة ببعض القضايا الفقهية التي لم يجد مشايخ التيار حرجا في تغييرها (مثال ذلك الموقف من التصوير).

ربما كان لسلفية الإسكندرية التي خرج من صفوفها حزب النور السلفي بعض التميز فيما خص قضايا السياسة والعمل العام، لكن عموم النتيجة التي حصدها الحزب كانت جزءا لا يتجزأ من اتساع نطاق تأثير مشايخ التيار التقليدي الذين لم يقفوا ضد الانتخابات ولم يعارضوها رغم قولهم السابق برفض الديمقراطية والأحزاب والانتخابات (بقيت قلة تصر على موقفها القديم وتغرد خارج السرب يسميها البعض التيار المدخلي أو الجامي بحسب التعبير السعودي).
 
لا ننسى هنا تحالف حزب النور مع بقايا الجماعة الإسلامية في الانتخابات (حزب البناء والتنمية)، والذي منحه دفعة إضافية معتبرة، بخاصة في محافظات الصعيد، لا سيما أن تراث الجماعة، وإن ذهب في اتجاه العنف ردا على عنف النظام، إلا أنه تراث كبير من التضحيات والسجون والتعذيب كان له تأثيره على الناس الذين يقدرون التضحية.
 
إلى جانب ذلك كله ينهض البعد الطائفي الذي اتسعت تداعياته في الساحة المصرية خلال السنوات الأخيرة، وبدا أكثر وضوحا خلال مرحلة ما قبل الانتخابات، ثم خلال الانتخابات إثر قيام الملياردير القبطي نجيب سويرس برعاية كتلة تبدو أكثر تعبيرا عن الأقباط، فضلا عن تدخل الكنيسة المباشر في الانتخابات لصالح الكتلة المشار إليها وتبنيها لمرشحين بعينهم، كل ذلك أدى إلى ردة فعل عند المتدينين الذين وجدوا في الخطاب السلفي شكلا من الرد على ذلك الحشد.
 
ولا ننسى بالطبع أن الشيطنة التي تعرض لها التيار من قبل غلاة العلمانيين (شملت الإخوان أيضا) قد أدت إلى ردة فعل في أوساط المتدينين المسلمين، ولعل ذلك هو ما يفسر إلى جانب أسباب أخرى اتساع نطاق الإقبال على الاقتراع، حيث بلغ مستويات غير مسبوقة (نجاح الثورة وتعبير الانتخابات الجديدة عن حالة مختلفة كان السبب الأوضح من دون شك).
 
في سياق الحديث عن المستقبل من الصعب الجزم بمصير التيار السلفي بعد دخوله اللعبة السياسية (جزء من ذلك تماسكه الداخلي كتيار وأحزاب داخل التيار)، وإن تأكد تغييره للكثير من مقولاته التقليدية وتراجع منسوب الإقصاء في خطابه. وعموما يمكن القول إن الموقف من هذا التيار في الساحة المصرية تحديدا (ينسحب ذلك على حضوره في الدول الأخرى) سيعتمد على أدائه السياسي، وما إذا كان سيقدم خطابا مقنعا بعيدا عن الاهتمام بالقضايا الهامشية. وعموما يمكن القول إن المرحلة المقبلة تشكل اختبارا للتيار الإسلامي برمته، وليس السلفي وحده.
 
لعل المرحلة المقبلة بانفتاحها، ومن ثم خروج مؤسسة الأزهر من دائرة الوصاية الرسمية، لعلها تمنح الأزهر، وتبعا له نمط التدين المنفتح الذي يمثله دفعة جديدة، مع أن ذلك لن يتم بسهولة بعد خسارة تلك المؤسسة لجزء كبير من رصيدها إثر تحولها خلال عقود طويلة إلى مؤسسة تابعة للأنظمة المتوالية.
 
أيا يكن الأمر، فإن الظاهرة الدينية ما زالت تتسع، لكن مصيرها سيعتمد كما أشير من قبل على تحولها إلى عنصر نهوض في مصر وفي سائر أنحاء المنطقة، لأن الدين إذا لم يكن عنصر نهوض وتصدٍ للقضايا الكبرى، فإنه يأخذ غالبا بالانحسار.

وعموما يعول المخلصون على تقارب التيارات الإسلامية من بعضها البعض وتوافقها على كلمة سواء تقلل حجم الاشتباك وتجعل من الدين ظاهرة تدفع المجتمع قدما إلى الأمام وتلبي تطلعاته في الحرية والعيش الكريم. كما أن توافق الأمة بالتدريج على المرجعية الإسلامية للدولة والمجتمع قد يجعل التنافس في المستقبل بين القوى الإسلامية؛ أيها أقدر على خدمة الناس وتحقيق مقاصد الشريعة.
 

في هذا السياق لا بد من كلمة على خلفية ما جرى في مصر، وعموم الجدل الديني الذي رافق الثورات العربية وسبقها، وخلاصتها أنه قد ثبت أن التباينات بين جماعات التيار السلفي في فقه العمل السياسي والعمل العام، بل حتى بعض قضايا الفقه التقليدي، وكذلك التباين مع الجماعات الأخرى، فضلا عن التغير في المواقف والاجتهادات بين مرحلة وأخرى، إنما يؤكد أن أحدا لا يملك الحقيقة المطلقة، وأن التباين في الاجتهادات هو سنة عرفها السلف والخلف ولن ينتهي بحال، ولا بد تبعا لذلك أن يتواضع الجميع ويكفَّ كل طرف عن اعتبار نفسه فرقة ناجية من دون المسلمين، ليس فقط لما يؤدي إليه ذلك من مزيد من الفرقة والتشرذم، بل أيضا لما يعنيه من تضييق لرحمة الله التي وسعت كل شيء.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق