الثلاثاء، 24 يناير 2012

الإسلاميون وتطبيق الشريعة والحدود… عصام تليمة

يلوح عدد من العلمانيين ومن دار في فلكهم الفكري: بفزاعة الشريعة الإسلامية وتطبيقها، وبخاصة الحدود، ليخيف الناس من الإسلام، أو من الإسلاميين، وهذه قضية تحتاج منا إلى وقفات توضح الأمر كي يكون جليا للجميع:


أولافلنتفق على أن مطالبة الإسلاميين بتطبيق الشريعة هو تحقيق لرغبة الشعب المصري بأغلبيته المسلمة بأن يحكمه شرع ربه، لا شرع فرد وضعه البشر، وليس هناك أي معنى لأن تحرمني من أن أحكم بشريعة يأمرني ربي بالاحتكام إليها، والرضا بما فيها، يقول تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) النساء: 65. وهذا الحق لهذه الأغلبية المسلمة لا يصطدم بحق الأقلية غير المسلمة، لأن الأمر واضح في ذهن كل عالم شريعة مسلم: أن الإسلام يترك لكل صاحب دين أن يحكمه دينه فيما يخصه.



ثانياليست الشريعة الإسلامية حدودا فقط، وهي آفة للأسف يختزل الناس الحديث عن الإسلام فيها، فالحدود لا تمثل 2% من الإسلام، فالإسلام عقائد، وأخلاق، وعبادات، ومعاملات، بكل ما في الإسلام من شمول تشريعي، فالإسلام كل لا يتجزأ. 

ثالثاالحدود هي آخر ما استقر عليه التشريع، وليس أول ما بدأ به التشريع، فلم يبدأ التشريع الإسلامي بجلد الزاني، ولا قطع يد السارق، مما يعني أن المجتمعات تحتاج إلى تحقيق الأمن والشبع، قبل أن نطلب منها إقامة الحد على من يتجاوز بالسرقة، ويحقق لها العفة والحصانة، ويعينهم عليها بكل وسيلة مشروعة قبل أن يقيم على الزاني حد الزنى، وهكذا الإسلام يوجد البدائل الحلال قبل أن يمنع عنهم الحرام. كما أنه يتدرج في منع الحرام، وإقامة الحد فيه.

رابعاإن هناك ضوابط وضعها الشرع الحنيف، أراد بها التضييق في قضية الحدود لهدف معروف، وهو الستر على عباد الله، فليست الشريعة الإسلامية متشوفة لفضح الناس، ولا التلصص عليهم، والتنصت، وكل الحدود التي أقيمت في الإسلام كحد الزنى مثلا، لم يقم مرة واحدة بشهادة شهود، فقد شدد الله عز وجل في شهادة الزنى بأربعة شهداء، ولا بد أن يروا رأي العين، بلا أي غبش يجعل الرؤية مستحيلة، أو غير ممكنة، لتواصل رجل وامرأة في حالة زنا لا لبس فيها، ولذا لم يطبق حد الزنا في تاريخ الإسلام كله بشهادة شهود، بل الحالات التي طبقت ـ على قلتها ـ كانت باعتراف مقترف الجريمة، وقد كان الشرع يأمره بالتوبة والعودة، كما في حديث الزاني المعترف، وقد رده أبو بكر الصديق، ثم رده عمر بن الخطاب، ثم تنحى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، وأدار له ظهره، لينصرف، ثلاث مرات، أمام إصرار الزاني المعترف. 

كما أن الإسلام يحب الستر على الناس فيما يمكن الستر فيه، ومعالجة الأمور قبل أن تصل لولي الأمر، أو الحكومة، بل يحزن عند العقوبة، ولا يتشوف لضبطها ولا لإقامتها، بل يحزن على وقوع فرد في المجتمع في براثن الجريمة، فقد جاء رجل إلى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بابن أخيه وهو سكران، فقال ابن مسعود: ترتروه ومزمزوه واستنكهوه، ففعلوا ذلك به، فوجدوا منه ريح الشراب، فأمر به إلى السجن، ثم أخرجه الغد، ثم أمر بسوط فدقت ثمرته حتى آضت له مخفقة، فقال للجلاد: اجلد وارجع يدك، فضربه ضربا غير مبرح أوجعه، ثم قال: لبئس ـ لعمر الله ـ ولي اليتيم؛ ما أدبت فأحسنت الأدب، وما سترت الخربة، فقال: يا أبا عبد الرحمن، إنه لابن أخي، وإني لأجد له من اللوعة ما أجد لولدي، ولكن لم أَلهُ، فقال ابن مسعود: إن الله عفو يحب العفو، وإنه لا ينبغي لوالي أمر أن يؤتى بحد إلا أقامه، ثم أنشأ يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أول رجل من المسلمين سرق، فقيل: يا رسول الله، إن هذا سرق، فكأنما أسَفَّ وجهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم رمادا، فقال رجل من أصحابه: يا رسول الله، هذا كأنه شق عليك قال: "وما يمنعني وأنتم أعوان الشيطان، والله عفو يحب العفو، لا ينبغي لوالي أمر أن يؤتى بحد إلا أقامه"، ثم قرأ: (وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم) النور: 22.
خامسا: علينا أن نعي جيدا أن هناك فئة مهمة لا تخاف من إقامة الحدود، ليس لأنه لص يخاف أن يقام عليه حد السرقة، ولا زان يخاف أن يجلد، وهكذا، أعلم أنه إنسان لا يعارض من قرارة نفسه في أن الحدود المستقرة الثابتة هي شرع الله عز وجل، لكن الخوف هنا: هو من القائم على تطبيقها، من سيطبقها؟ وبخاصة أن تاريخنا العربي القديم والمعاصر، لم يخل من تجاوزات لحكام، أرادوا الاحتماء بالحدود وتلفيقها لخصوم سياسيين لهم، وهنا علينا أن نبين أمرا مهما: أن الحدود تطبقها الدولة، وبشروطها، والتي من أولى قواعدها: أن الخطأ في العفو خير من الخطأ في العقوبة، وليس لآحاد الناس أن يقيمها بل هذا حق الدولة والقضاء وحده، وعلينا أن نوجد مؤسسات تحمي المواطن من تغول السلطة، أيا كان القائم على السلطة إسلاميا كان أو غير إسلامي، سواء طبقت الشريعة أم لم تطبق.

اجتهادات جديدة في الحدود:

سادسا: على أن الحدود كقطع يد السارق، ورجم الزاني والزانية، ليست بالصورة التي يتصورها الناس، فهي قضايا تحتاج في عصرنا هذا إلى اجتهادات توضح للناس ما هو ملتبس عليهم فيها، فلقد نما وتطور الفقه الإسلامي في العصر الحديث في فقه الأسرة والمعاملات المالية لأنه فقه مطبق، ولذا فهو دائم الاجتهاد والتجديد، بينما توقف الفقه الجنائي الإسلامي عند حد معين، لأنه لا يطبق، فلا يحدث فيه تطور ونمو واجتهاد.

ففي مسألة الرجم بالحجارة للزناة، وردت اجتهادات في الفقه الإسلامي، انتهت عند عدد من فقهائنا المعاصرين باعتبار الرجم تعزير وليس حدا، وأنه يقبل الإلغاء، وليس حدا نأثم بعدم تطبيقه، وقد ذهب إلى ذلك من العلماء: عبد الوهاب خلاف، ومحمد أبو زهرة، ومحمود شلتوت، ومصطفى الزرقا، ويوسف القرضاوي، ومحمد سعاد جلال، وعبد المتعال الصعيدي، ومحمد البنا، وعلي الخفيف، وعلي حسب الله، وهؤلاء فقهاء عمالقة يشار إليهم بالبنان في تضلعهم في الفقه الإسلامي. واكتفى هؤلاء العلماء بالحد الثابت في القرآن وهو الجلد مائة جلدة، للزاني البكر، والمحصن.

أما مسألة قطع اليد في السرقة، فقد قال المرحوم عبد القادر عودة: إن القطع هو أقصى درجات العقوبة، أي أن هناك عقوبات تسبقه، وهناك اجتهاد قديم انتهى إليه المرحوم الشيخ عبد المتعال الصعيدي في كتابه (في الحدود الإسلامية) والذي ألفه سنة 1937م، ذهب فيه إلى أن القاضي مخير في جرائم السرقة بين أحد ثلاث: الحبس، أو تغريم السارق برد سرقته، وأخيرا بقطع اليد، وأن من يتوب من السرقة حتى بعد التمكن منه، والقبض عليه، فإن تاب ورد ما سرق لا يقام عليه الحد. وهذه الاجتهادات هي ما دعت المستشار علي علي منصور، حينما طلب منه الإشراف على لجنة وضع القانون في ليبيا، كتبه على عدة مستويات، مستوى من يقول بهذا الرأي، ومستوى آخر بمن يقول بالآراء الأخرى.

نقبل باستفتاء عام على تطبيق الشريعة:

سابعا: ومع ذلك نقبل أن يكون تطبيق الشريعة باستفتاء عام للشعب، وليس إجبارا له، فإن اختار ذلك فهي الديمقراطية التي ينادي ويتغنى بها الجميع، فنحن نقبل باستفتاء عام يقول فيه الناس رأيهم، إما بقبول تطبيق الشريعة أو رفضها، دون وصاية من أحد على الناس، وأنا أعلم أن كلامي هنا لن يروق لكثير من مخالفي هذا الرأي، خاصة من بعض الإسلاميين الذين يرون أن الشريعة واجبة التطبيق، ولا خيار للناس فيها، بل تفرض عليهم فرضا، ولكن موقفي هنا ينطلق من فقه القرآن الكريم، وقد رأينا رسولا من أولي العزم من الرسل وهو أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام، يمارس الاستفتاء على تنفيذ أمر من أوامر الله عز وجل، بالحوار والإقناع، وذلك عندما رأى نبي الله إبراهيم في المنام أنه يذبح ولده الوحيد إسماعيل، يقول تعالى: (فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين) الصافات: 102.

فقد رأى إبراهيم عليه السلام رؤيا أنه يذبح ولده إسماعيل، ورؤى الأنبياء حق، وواجبة التنفيذ لو كانت على هيئة أمر، فلم يكن من نبي الله إبراهيم أن سلم وحده فقط، بل عرض الأمر باستفتاء على ابنه، وذلك واضح وبين في قوله: (فانظر ماذا ترى؟)، ومما لا شك فيه أن الاستفتاء وارد فيه إجابتان، إما نعم، وإما لا، ومتوقع ممن يستفتى أن يجيب بإحداهما، وإن جاءت إجابة نبي الله إسماعيل، بقوله: (يا أبت افعل ما تؤمر)، وبدلالة الموافقة من جميع الأطراف التي تم معها الاستفتاء، (فلما أسلما وتله للجبين) فأسلما هنا بضمير المثنى، لإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وهو دليل واضح وبين على جواز الاستفتاء على القضايا المعروضة على الناس، لا أن تنزل عليهم الأوامر بلا تمهيد، وإقناع. 

وعندما أعلن الرئيس اللواء محمد نجيب إلغاء الدستور المصري سنة 1952م بعد قيام الثورة ببضع شهور، وقد كانت النيات المعلنة تتجه إلى إعلان تطبيق الشريعة، وأن الدستور الجديد سيستند في كل ما فيه للشريعة الإسلامية، فصرح الأستاذ حسن الهضيبي المرشد العام الثاني للإخوان المسلمين: أنه يرى أن تستفتى الأمة أولا في دستورها الجديد؛ وهل هي تختار شرائع الإسلام أم شرائع الغرب، فإذا رأت الأمة أن تُحكم بالإسلام، كان على اللجنة التي تشكل لصياغة الدستور أن تنفذ ذلك، وأن تلتزم به، ولم تعد مطالبتها بالتزام الشريعة استجداء لا يليق بالإسلام، ولا بالأمة المسلمة، وإذا رأت الأمة أن تُحكم بشرائع الغرب، وهو رأي لا يمكن أن يقول به مسلم، عرفنا أنفسنا، وعلمنا الأمة أمر ربها، وما يجب عليها).

وما قال به الهضيبي هو نفس ما نادى به العلامة السلفي المحدث الشيخ أحمد شاكر، الذي يشرح خطته في تغيير القوانين في مصر لتتوافق مع الشريعة الإسلامية، فيقول: (وإذ ذاك سيكون السبيل إلى ما ينبغي من نصر الشريعة السبيل الدستوري السليم: أن نبث في الأمة دعوتنا، ونجاهد فيها، ونجاهد بها، ثم نصاولكم عليها في الانتخابات، ونحتكم فيها إلى الأمة، ولئن فشلنا مرة فسنفوز مرارا، بل سنجعل من إخفاقنا ـ إن أخفقنا في أول أمرنا ـ مقدمة لنجاحنا بما سيحفز من الهمم، ويوقظ من العزم، وبأنه سيكون مبصر لنا مواقع خطونا، ومواضع خطئنا، وبأن عملنا سيكون خالصا لله، وفي سبيل الله. 


فإذا وثقت الأمة بنا، ورضيت عن دعوتنا، واختارت أن تحكم بشريعتها طاعة لربها، وأرسلت منا نوابها إلى البرلمان فسيكون سبيلنا وإياكم أن نرضى بما يقضي به الدستور، فتلقوا إلينا مقاليد الحكم كما تفعل كل الأحزاب إذا فاز أحدها في الانتخاب، ثم نفي لقومنا إن شاء الله بما وعدنا من جعل القوانين كلها مستمدة من الكتاب والسنة!).
هذه وقفات قصيرة، مع قضية من أكثر القضايا المثارة حساسية، تحتاج إلى إسهاب بلا شك، لكن ليس مجال المقالات القصيرة بمجالها، ومن استزاد فهناك المراجع الكبرى والمهمة لها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق