الجمعة، 25 مارس 2011

بين يزيـد….. والحسين!! ….. إبراهيم الخليفة / باحث سياسي

ما كان الحسين خارجياً، وما كان إماماً معصوماً، بل كان صاحب أصلب موقف ضد اغتصاب أمر الأمة وتوريثه إلى الأبناء بحد السيف. 

صار الحسين غريباً عند أهل السنة بعد أن خضعوا لحكم السيف وتشربوا ثقافته وسمحوا باختطاف سيرته السياسية وتقديمها من قبل الشيعة في ثوب عقائدي منحرف، فأصبحت سيرته السياسية مناسبة لتقسيم الأمة وضرب الصدور وشق الجيوب ورفع السواطير وإسالة الدماء والوعيد بالثأر، بدلاً من أن تكون سيرته مناسبة لتوحيد الأمة ضد مغتصبي أمرها. وإذا لم تكن الأمة قادرة على الوصول في رفضها وإنكارها لحكم السيف، فلا أقل من أن تنكره ثقافياً وفقهياً، ففي ذلك ما يسمح بإيجاد الأرضية اللازمة للخروج من حكم السيف واستعادة حكم الشورى ولو على المدى البعيد. 

في عاشوراء لم يستشهد الحسين وأهل بيته فقط، بل استشهدت الأمة سياسياً وأُدخلت بيت الطاعة السياسي بحد السيف واصطفت إلى جوار المقتنيات التي يورثها الأب للابن!! 

ومعضلة المسلمين الكبرى تكمن في أنه بدلاً من النظر إلى هذه السنن والانقلاب السياسي الذي حدث منذ تنصيب يزيد والتوصيفات النبوية لهذه المسارات السياسية، تم نقل القضية من عالم السياسة إلى عالم العقيدة، سواء عند الشيعة أو عند أهل السنة. 

بسبب الوعي السياسي الغائب وسطوة أهل المُلك العضوض والصورة العقائدية التي أضفاها الشيعة على الأحداث، يتوهم أهل السنة بأن القضية المطروحة عليهم هي قضية إسلام وإيمان وتعبد وصلاح يزيد، بدلاً من أن تكون القضية هي قضية منهجه السياسي. 

إن معظم أهـل السنة يعترضون على أعمـال يزيد ويدينونها، ولكنهم لا يعترضون على المنهج السياسي الذي أدى إلى هـذه الأعمال، وهو منهج التغلب والتوريث العائلي للحكم. بل إنهم يضفون المشروعية الدينية على هذا المنهج، رغم أنه على النقيض تماماً من منهج الخلفاء الراشدين. 

ربما كان الأمر سيختلف في درجته أو مستواه أو تفاصيله لو كان الحاكم شخصاً آخر غير يزيد، ولكن الطابع العام والسنن العامة لحكم التغلب تظل واحـدة مهما اختلفت التفاصيل ومهما اختلفت طباع الحكام. ورغم أن حكم التغلب شهد ظهـور شخصية قلما يجود بمثلهما وهي شخصية عمر بن عبدالعزيز، إلا أن ذلك يظل أشبه بالاستثناء الذي يؤكد القاعدة ولا ينفيها، ولذلك فإن حكمه لم يدم سوى أقل من ثلاثة أعوام وسط رفض ومؤامرات الأقارب. 

إن الفتنة تثور عند وقوع الأحداث المتداخلة واشتباه الأمور واختلاطها وصعوبة التمييز بينها وانحسار الاختلاف عند الأدوار والأشخاص دون التعدي الصريح على القيم، فهل كانت الأوضاع في عهد الحسين ويزيد تدور في هذا الإطار، أم أنها كانت تدور في إطار التعدي الصريح والسافر على القيم؟!.

ثم إن الدعوة إلى اجتناب الفتنة تنبع من وجود احتمالات التقاتل وإراقة الدماء. وهذا أمر كان مرتبطاً بزمن الحسين ويزيد، فماذا بعد زمنهما؟!. ماذا بعد أن أصبح المسلمون يعيشون خارج الحدث التاريخي وخارج احتمالات دخولهم في القتال، وأصبحوا ينظرون إلى الموضوع من زاوية التاريخ وتوفرت لهم فرص الفهم الهادئ لمواقف الحسين ويزيد؟!. 

هنا، ألا يستطيع أهل السنة، ودون الدخول في القتال ودون السب أو الشتم أو اللعن، أن يكتشفوا أن حكم يزيد هو بداية التثبيت الحقيقي للحكم الذي وصفه الرسول صلى الله عليه وسلم، بأنه "مُلك عضوض"؟!. 

ألا يستطيعون أن يكتشفوا أن أهل المُلك العضوض ومؤيديهم والمعتذرين لهم احتجوا بالمصلحة ودرء الفتنة، إلا أن ذلك لم يحُـل دون وصف الرسول لحكمهم بأنـه "مُلك عضوض" و"أول نقض لعروة من عرى الإسلام وهي عروة الحكم"؟!. 

إذا كان أهل السنة لا يستطيعون ذلك فهم من أتبـاع منهج يزيد حتى وإن لم يدركوا أو يريدوا، وذلك لسبب بسيط، وهو أننا إذا استبعدنا الأحداث التاريخية فإن سنن حكم يزيد هي السنن السائدة إلى لحظتنا الراهنة. أي أن أهل السنة لا يتجنبون صراع الحسين ويزيد إلا من حيث الحديث المباشر عن الأشخاص أو الوقائع التاريخية، أما من حيث النتائج والمنهج السياسي وسنن الحكم، فأهل السنة يتبنّون سنن حكم يزيد ويضفون عليها المشروعية الدينية ويرثونها منذ عهد يزيد إلى لحظتنا الراهنة. 

وبالمقابل، ودون الغلو في الحسين، ألا يستطيع أهل السنة القول بأنه احترم الشورى خلال حكم الخلفاء الراشدين ثم احترم الصلح مع معاوية — تحقيقاً للمصلحة ودرءاً للفتنة - ولكنه رفض التسليم لحكم السيف الذي وصفه الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه مُلك عضوض ونقض عروة من عرى الدين ووصف الدعوة إليه بأنها دعوة إلى النار أو إلى سبب من أسبابها؟!. 

إذا كانوا لا يستطيعون ذلك فهم يقفـون فعلياً وواقعياً ضد الشورى وضد منهج الخلفـاء الراشدين ويقفون فعلياً وواقعياً مع المنهج المناقض له وهو منهج التغلب والتوريث العائلي، ويتيحون فرصة اختطاف اسم الحسين وسيرته وتقديمهما بغير حقيقتهما الخادمة لمبادئ وقيم الشريعة في الميدان السياسي. 

لم يصل أي خليفة راشد إلى الحكم عن طريق السيف، ولم يورث أي خليفة راشد الحكم إلى أبنائه أو أفراد عائلته. وبالتالي، كان واضحاً منذ تنصيب يزيد أن سنن الخلافة الراشدة تعرضت للنقض التام. وحتى لو لم يكن الواقع واضحاً بما فيه الكفاية، فإن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم تخبر عن ذلك الواقع وتكشفه وتعريه وتفضحه وتسمح بإعادة فهمه وإعادة تحديد الموقف منه. 

خلال أول أربعة أعوام من وضع السيف على رقاب الأمة، فتحت قوانين السيف بوابة الجبابرة ودفعت بهم إلى واجهة صناعة الأحداث وإعادة تشكيل الوعي والقيم. وخلال هذه المدة الوجيزة، نفذ الجبابرة بدم بارد وبنوع من التلذذ والفخر ثلاث جرائم كبرى كانت كافية لإرهاب الأمة وإخضاعها وإشعارها بأنها تواجه حكاماً لا يتورعون عن أي شيء في سبيل المُلك. 

  • الجريمة الأولى كانت بلوغ قمة الوحشية في هدم وإلغاء مكانة الأشخاص وقيمتهم الاعتبارية، وذلك من خلال قتل الحسين رضي الله عنه وبعض أهله بطريقة وحشية، وحمل رأسه من كربلاء إلى دمشق.

  • أما الجريمة الثانية فكانت بلوغ قمة الوحشية في هـدم وإلغاء مكانة وقدسية الأماكن، وذلك من خلال استباحة مدينة الرسول الكريم بمن فيها من بقية الصحابة والتابعين وإعمـال السيف والجرائم الجماعية في أهلها !! 

  • الجريمة الثالثة كانت مزيداً من هدم وإلغاء قدسية الأماكن، وذلك من خلال قصف الكعبة بالمنجنيق وإحراقها. 

هذا بعض ما يأتي به حكم السيف، وهؤلاء هم بعض نوعية رجاله وكفاءاته، وهذه هي بعض المهارات والقيم التي يتطلبها. هؤلاء الذين فعلوا ببعض أحفاد الرسول وآل بيته وبأهل مدينة الرسول وبالكعبة كل هذه الجرائم الوحشية المروعة خلال سنوات معدودة، ما الذي يمكن أن يفعلوه ببقية المسلمين وبقية المدن؟!. 

في ظل قانون السيف سيبرز تيار الجبابرة والدهاة والماكرين والوصوليين ويصعد إلى واجهة صناعة الأحداث وإعادة تشكيل الوعي وصياغة القيم، وفي ظل هذا القانون أيضاً سيدخل الرافضون لحكم السيف إلى دائرة الظل والتجاهل أو التشويه والتنكيل مهما بلغت قيمتهم ومكانتهم. 

إن القيمة الرمزية والرسالية التي جسدها الحسين رضي الله عنه، لا تنبع من قرابته للرسول الكريم ولا من مجرد حسن إيمانه وصلاحه، ولا بسبب حادثة استشهاده، بل بسبب القيمة الرسالية التي جسدها بمواقفه كرافض لأول نقض لعروة من عرى الدين وكرمز لآمال إعادة الخلافة الراشدة ورفض إضفاء المشروعية على المُلك العضوض. 

قد يقال: ولكن الحسين كان يسعى لمصلحته الشخصية في استلام الحكم.
والواقع أن الطموح السياسي مشروع وطبيعي وفطري إلى أبعد مدى، بل إن مستواه يزيد ويرتفع لدى المؤهلين للقيادة. ومن ثم فإنه لا مشكلة ولا عيب في الطموح السياسي، والمهم هو ألا يأتي الطامح بسيفه ليغتصب أمر الأمة. 

والحسين لم يخرج إلا ضد حكم السيف، ولم يخرج إلا بعد أن استدعاه الرافضون لصاحب السيف، ولم يصطحب معه سوى أهل بيته وبعض أقاربه. وحين حاصره الجبابرة عرض عليهم خيارات الانسحاب من الحياة السياسية عبر الذهاب إلى أحد الثغور للجهاد أو العودة إلى بيته أو مقابلة يزيد إلا أنهم أصروا على أن يعلن تأييده لحكم السيف، وحين أبى قتلوه وقتلوا الكثير من أهل بيته وأقاربه وأخذوا جثته وبقية أهله إلى صاحب السيف. 

لقد كانت تضحية الحسين تضحية حـق خذلتها الأمة ثم شوهتها عبر القـرون، سواء من خلال سوء فهمها والغلو في صاحبها كما يفعل الشيعة أو عبر تجاهلها وخدمة نقيضها كما يفعل أهل السنة. 

إن الشيعة ينقلون اسم الحسين وذكرى استشهاده من عالم السياسة إلى عالم العقيدة، وذلك عبر تناول الأمر في إطار عقيدة الأئمة المعصومين، فما الذي ينتج عن ذلك؟!. 

على مستوى الشيعة أنفسهم لا يستطيعون تحديد القضية المحورية التي دعت إلى استشهاد الحسين رضي الله عنه والتضحية بنفسه وأبنائه وأقاربه في سبيلها. 

إنهم بمجرد تناول الأمر في إطار عقيدة الأئمة المعصومين يجعلـون تضحية الحسين فاقدة للمعنى الديني والسياسي،

  • إذ كيف يمكن أن يكون رمزاً وحكيماً وإماماً هذا الذي يسكت عن انتهاك عقيدة الأئمة المعصومين في عهد أبي بكر وعمر وعثمان ثم يتجاوز عنها بعد إبرام الصلح مع معاوية ولا يتذكر التضحية من أجل عقيدته الدينية إلا عند اغتصاب أمر الأمة وتوريث الحكم ليزيد؟!. 

  • ما هو المعنى الديني هنا؟! ولماذا نجعل سلوكه ومنهجه الطويل في عهد أبي بكر وعمر وعثمان وبعد الصلح مع معاوية غير معبر عن عقيدته الدينية، ثم نحصر عقيدته الدينية في رفضه تقديم البيعة ليزيد؟!. 

  • لماذا تكون التضحية بالنفس والأبناء والأقارب واجبة في مواجهة حكم يزيد، بينما كانت غير مطروحة مطلقاً في عهد أبي بكر وعمر وعثمان وبعد الصلح مع معاوية؟!. 

إذا كان الحسين رضي الله عنه قد ضحى بنفسه وأبنائه وإخوته وأقربائه من أجل عقيدة الأئمة المعصومين فهو مجرد مغامر غير مستقر الأفكار وغير ثابت المنهج ومخالف لنهج الإمام علي ونهج الحسن، بل ونهجه هو منذ وفاة الرسول إلى حين تنصيب يزيد؟!. 

ومرة أخرى، ما هو مغزى تضحية الحسين رضي الله عنه ضد يزيد من وجهة النظر الشيعية ؟. 

لا شك أن المتتبع للكتابات الشيعية سيجد كلاماً إنشائياً ووجدانياً لا حدود له عن الثورة ضد الظلم. فهل كانت تضحية الحسين رضي الله عنه بنفسه وأبنائه وإخوته وأقاربه مجرد ثورة ضد الظلم؟!. ثم — وهذا هو الأهم — ما هو الظلم هنا؟!. 

لقد حدثت تضحية الحسين في بدايات عهد يزيد، أي أن الوقت لم يكن قد أسعف يزيد لإحداث الظلم الواسع المؤكد الذي يفوق — بحسب المنطق الشيعي — ظلم من سبقوه ويستدعي التضحية بالنفس والأبناء والإخوة والأقارب لمواجهة هذا الظلم؟!. 

الواقع أنه مهما تم البحث في دوافع تضحية الحسين والقيمة الرسالية التي تحملها تضحيته فإن هذه الدوافع والقيمة تتقزّم وتضمحل إلى أن يصبح المرء أمام شخصية بلا منهج وبلا منطق وبلا حكمة، وذلك حين يتم تناول الأمر في إطار عقيدة الأئمة المعصومين.
أما حين يتم تناول موقف الحسين والقيمة الرسالية لعدم خضوعه في إطار مضمونها السياسي المتعلق برفض إضفاء المشروعية على اغتصاب أمر الأمة وفرض التوريث للأبناء بحد السيف، فإن دوافع موقف الحسين وقيمة تضحيته تصعد إلى الأعالي، ويصبح المرء أمام شخصية فذة بمنهج ثابت ممتد وحكمة ومنطق ورسالة تستحق استلهامها من قبل كل مسلم وكل مصلح. 

وهكذا، فإننا إذا نظرنا إلى تضحية الحسين من حيث توقيتها ومستواها، فإننا لن نجد سبباً دينياً ولا مبرراً رسالياً صالحاً لها ومتناسباً معها إلا في مواجهة خرق ديني ورسالي عظيم حدث في بداية عهد يزيد. إنه اغتصاب إرادة الأمة والإزهاق الصريح والنهائي للشورى وتثبيت المُلك من خلال تأسيس الحكم العائلي وتوريث شـؤون الأمة للأبناء مثلما يتم توريث الأموال والمقتنيات. 

هـذا هو أعظم خـرق ديني ورسالي تعرض له المسلمون منذ وفاة الرسول إلى عهد يزيد، بل إنه أعظم خرق ديني ورسالي تعرض له المسلمون منذ وفـاة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى وقتنا الراهـن. وإن عدنـا إلى أحداث التاريخ وسنن السياسة منذ عهد يزيد إلى وقتنا الراهـن فسنجد أنها تؤكد هذا الخرق، وإن عدنا إلى لحظات التأسيس فقط فسنجد أن أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم تصفها بأنها أول نقض لعـروة من عرى الدين وهي عروة الحكم، وتصف الدعوة السياسية التي تمثلها بأنها دعـوة إلى النار أو إلى سبب من أسبابها، وتصف الحكم الذي قام في ظل هذه الدعوة بأنه مُلك عضوض. 

من هنا تنبع قيمة الحسين الكبرى، وهنا تتجسد أبرز صور مشروعية التغيير السياسي. وهذا هو ما يجعل لتضحية الحسين سببا مشروعاً ومبرراً رسالياً جديراً بالحفاوة والإتباع والتأسي في مواجهة أعظم خرق ديني ورسالي حدث في حياة المسلمين. 

أما من دون هذا المبرر وهذا السبب، فالحسين من زاوية الفقه السياسي السنّي لا يعدو أن يكون خارجياً ينطبق عليه ما ينطبق على الخوارج، وذلك مهما قيل عن مقامه ومكانته. وبدون هذا المبرر وهذا السبب فإن الحسين من زاوية الفقه السياسي الشيعي لا يعدو أن يكون متقلباً ومتهوراً وغير جدير بالإتباع أو التأسي، فقد خان عقيدته أو تغاضى عنها أو أهملها منذ وفاة الرسول إلى حين تنصيب يزيد ثم قدم تضحيته في الوقت الخطأ باتجاه الإنسان الخطأ وبالمخالفة لنهج أبيه وأخيه ونهجه هو منذ وفاة الرسول إلى حين تنصيب يزيد!!. 

إن تضحية الحسين تجد تفسيراً رسالياً تاريخياً وإنسانياً لا نظير له في إطـار قضية الشورى والمُلك، بينما الرؤية الشيعية تجعل الحسين رمزاً طائفياً لعقيدة سياسية لا تصلح لمعالجة أحـوال البشر، بل ولا تصلح حتى لمعالجة أحوال الطائفة الشيعية ذاتها. 

وحين نفسر تضحية الحسين في إطار قضية الشورى والمُلك، فإن هذا التفسير يمكن أن يحشد خلفه أكثر من مليار مسلم سنّي في وقتنا الراهن ويسهم بقوة في استعادة ولاية الأمة، بدلاً من جعل ذكراه مناسبة لطعن واستفزاز واستعداء كل هؤلاء والإسهام بقوة في بقاء ورسوخ ثقافة المُلك.
—————————————————

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق