الأحد، 27 مارس 2011

هل مصر بحاجة للعلمانية؟ …. معتز بالله عبد الفتاح

قال الفيلسوف البريطانى، ديفيد هيوم، وهو من أكثر من أثروا فى تفكيرى المتواضع: «الفيلسوف الحق هو الذى يرى جميع التناقضات ويستوعبها، ثم يقدم رؤية غير متناقضة». وهذا ما سنحاوله معا فى هذا المقال، الثقيل فى موضوعه، المهم فى توقيته طالما أن مصر تحولت إلى فصل دراسى كبير فى العلوم السياسية بفضل ثورتنا المجيدة.
موضوع هذا المقال يقع فى المنطقة المشتركة بين الديمقراطية والليبرالية والعلمانية وهل لا بد أن يكون أحدها مفضيا للأخرى.
الخلط بين هذه المصطلحات له أصل تاريخى حين جاء المحتل إلى بلاد المسلمين ليفرض قوانين وضعية كبديل عن أحكام المحاكم الشرعية، وعن الديمقراطية كبديل عن الشورى، وعن الدولة القطرية كبديل عن الخلافة، وعن العلمانية كبديل عن الشريعة، وعن الرأسمالية (أو الشيوعية) كبديل عما ألفه الناس تحت اسم الاقتصاد الإسلامى. ومال كثيرون إلى ربط كل هذه الأمور ببعضها، فأصبح علينا إما أن «نتغرب» أو نحتفظ بهويتنا؛ فرفض الكثيرون كل ما جاء من الخارج ظانين أنه شر مبرم. ولو صح هذا فلماذا أمرنا الله قائلا: «قل سيروا فى الأرض فانظروا»؟
إذن الخلط بين المصطلحات يحمل الكثير من اللبس الذى يعلم المطلعون على الفكر السياسى الغربى أنه غير صحيح.
  • فالديمقراطية ظهرت قبل 2500 سنة،
  • والليبرالية تنسب إلى الفيلسوف البريطانى جون ستيورت ميل فى القرن التاسع عشر لعلاج مشكلة الأقليات السياسية والدينية (التى بدأت تضار من ديكتاتورية الأغلبية) ولعلاج مشكلة الفقراء (الذين أضيروا من توحش رأسمالية آدم سميث، فكان الحل تدخل الدولة لصالح هذه الطبقات مثلما فصل جون ستيورت ميل فى كتابه «مبادئ الاقتصادى السياسى» الصادر فى نفس السنة التى صدر فيها إعلان ماركس الناقد للرأسمالية تحت عنوان «المانيفستو الشيوعى».
  • أما العلمانية فهى مصطلح تم صكه فى القرن التاسع على يد جورج هوليوك (بريطانى ثالث) كمصطلح منحوت حديثا تجنبا لاستخدام كلمة «دنيوى» الذى كان يجعل الأمر مفاضلة بين المقدس العالى، والدنيوى الدنىء، وكتعبير عن نتيجة صراع طويل امتد لمدة ستة قرون فى الغرب للتخلص من سيطرة الكنيسة الكاثوليكية على المجتمعات الأوروبية لقرابة 1000 سنة بدءا من القرن الثامن الميلادى. 
والعلمانية بهذا المعنى حل عبقرى لمشكلة مزمنة عاشها الغرب، ولم يعشها المسلمون، وإن كانوا عاشوا تجربة فيها بعض ملامح التجربة الغربية، وإن لم يستدع هذا بالضرورة استنساخ الحل الأوروبى.
المشكلة الغربية أن باباوات الكنيسة الكاثوليكية (مثل اربان الثانى، وجريجورى السابع، وانوسنت الثالث) أصدروا أحكاما دينية جعلت حقوق البشر رهنا بقرارات كنسية فى كل أمور الحياة. ومن المؤشرات التى اعتمد عليها الباحثون الغربيون لمعرفة ازدهار أو انحسار حكم الكهنوات (أى حكم الكنيسة) كانت ثلاثة مؤشرات: أولا، هل للكنيسة جيش خاص بها مواز أو بديل عن جيش المملكة (الدولة)؟ ثانيا، هل الكنيسة هى التى تسيطر على نظام التقاضى بدءا من وضع القوانين انتهاء بإصدار الأحكام النهائية بين المتخاصمين؟ ثالثا، هل الكنيسة تقوم بفرض ضرائب مستقلة أو بديلة عن الضرائب التى تفرضها المملكة (الدولة)؟
معظم دول أوروبا شهدت هذه السيطرة المهولة للكنيسة، لكن نجحت انجلترا تحديدا فى أن تتخلص من سيطرة الكنيسة الكاثوليكية فى روما. ولهذا لم يكن مستغربا أن كانت إنجلترا المجتمع الأكثر حيوية فلسفيا وأدبيا وعلميا واقتصاديا وعسكريا مقارنة بكل أوروبا. ولكن مع ظهور البروتستانتية فى القرن السادس عشر، ثم الحروب الدينية فى القرن السابع عشر والتى مات بسببها الملايين، تنبه العقل الأوروبى إلى خطر خلط السياسة بالدين على مستويين: مستوى الحروب التى يضيع ضحيتها الآلاف وربما الملايين بسبب قرار من أحد آباء الكنيسة، ومستوى غياب الحريات السياسية وعلى رأسها الحقوق الديمقراطية (حق الأغلبية فى ألا تسمح للأقلية أن تستبد بها)، والحقوق الليبرالية (حق الآخرين، أغلبية أو أقلية، فى ألا تكون حقوقها رهنا بموافقة الأغلبية أو الطبقة المسيطرة اقتصاديا).
ومن هنا ظهرت العمليات الثلاث وكأنها عملية واحدة: علمنة الكاثوليكية (بمنع الكنيسة من الاستبداد باسم الدين)، والتحول الديمقراطى (بمنع الأقلية الحاكمة من الاستبداد باسم الدولة)، والتحول الليبرالى (بمنع الأغلبية أو الطبقة المسيطرة اقتصاديا من الاستبداد باسم الأغلبية أو المصلحة الرأسمالية).
ماذا عنا نحن المسلمين؟ هل شهد المسلمون تجربة كان فيها شيخ المسجد له جيش مستقل عن جيش دولة الخلافة؟ هل كان شيخ المسجد يفرض ضرائب غير الضرائب التى تفرضها دولة الخلافة؟ هل كان شيخ المسجد يفرض قوانين أو يحكم بأقضية مستقلة عن النظام القضائى فى الدولة الإسلامية؟
أزعم أن مجتمعات المسلمين فى بعض مراحلها شهدت نوعين من الاستبداد السابق، ولم تشهد الثالث (أى استبداد المسجد أو علماء الدين). ذلك أن المسجد أصلا لم يكن تنظيما هيراركيا تراتبيا فى أى مرحلة (مثلما هو الحال بالنسبة للكنيسة)، المسجد فى الإسلام مجرد بناية أو زاوية، بل جُعلت الأرض كلها مسجدا للمسلمين، ومن حق المسلم (لاسيما المسلم السنى أن يتخير الفتوى التى يطمئن لها اجتهاده، إلا إذا كانت الفتوى لها قوة القانون الملزم، وهنا الإلزام لا يأتى من الفتوى وإنما من سلطان الدولة). بل على العكس كانت الأسماء العظيمة من العلماء المسلمين مرتبطة بأنهم كانوا يقفون مع المظلومين ضد استبداد الحاكم، ولنرجع إلى أسماء كل الأئمة العظام لنكتشف أنهم كانوا قادة معارضة سياسية ضد استبداد الحاكم ولهذا انتهى معظمهم فى السجن، بسبب سلطان الدولة الباطش.
أزعم، إذن، أن المسلمين بحاجة للديمقراطية كى تضمن كف بطش الأقلية الحاكمة عن الأغلبية المحكومة من خلال الآليات المتعارف عليها من انتخابات حرة نزيهة دورية تنافسية تحت إشراف قضائى، ورقابة المجتمع المدنى، ومشاهدة المجتمع الدولى (وهذا هو اختراع الديمقراطية).
أزعم كذلك أن المسلمين بحاجة لليبرالية (أو سمها التسامح السياسى) المغلفة بالعدالة الاجتماعية بما يضمن أن هناك مجموعة من الحقوق المقررة لجميع المصريين بغض النظر عن دينهم أو جنسهم أو عمرهم أو لون بشرتهم أو مكان ولادتهم والأهم بغض النظر عن رضا الأغلبية على هذه الحقوق أم لا. 
إذن الليبرالية تأتى كأداة لضبط الديمقراطية (وللرأسمالية). علينا أن نقرر فى دستورنا القادم وبموافقة الأغلبية (أى بقرار ديمقراطى) أن هناك مجموعة من الحقوق المقررة لجميع المصريين (مثل الحق فى التعبير، الحق فى اختيار الديانة، الحق فى التنقل، الحق فى حرمة الحياة الخاصة…إلخ) لن تخضع لاحقا لموافقة الأغلبية أو رفضها (وهذه هى الليبرالية).
إذن بكل ديمقراطية، نقبل، نحن المصريين، أن نضع قيودا على الديمقراطية (هذه القيود هى الليبرالية)؛ فلن ننتظر فى المستقبل قرار أغلبية أعضاء مجلس الشعب كى يقرروا هل من حق إخواننا المسيحيين فى أن يبنوا كنيسة أم لا. هذا حقهم وفقا للدستور، طالما أنهم يلتزمون بالقواعد العامة التى تحكم عملية بناء دور العبادة. 
وبنفس المعنى، بكل ديمقراطية، نقبل، نحن المصريين، أن نضع قيودا على الديمقراطية بألا يصدر البرلمان أو رئيس الجمهورية أى قانون أو قرار يصطدم مع ما هو قطعى الثبوت قطعى الدلالة مع مبادئ الشريعة الإسلامية على اتساع «مذاهبها الفقهية.»
وهاتان الكلمتان الأخيرتان مهمتان للغاية. لماذا؟ لأن مذاهب الفقه الإسلامى من السعة بحيث إنها تستوعب مساحة هائلة من الاجتهادات التى تقبل بالأغلبية الكاسحة من مبتكرات وانجازات المدنية الحديثة. ولنأخذ مثلا: يذهب كل علماء الدين الإسلامى إلى أن إطلاق اللحية واجب؟ هل هذا يعنى أن الدستور الجديدة سيبيح للقانون أن يعاقب غير الملتحى. الإجابة لا، لأن من أبواب الفقه يرى بعض الشافعية أن إطلاق اللحية ليس واجبا، ولهم أسبابهم وأدلتهم. إذن يتسع الاجتهاد الفقهى لاستيعاب حق من يرى عدم إطلاق لحيته أخذا بأن أحدا لا يملك أن ينكر على المجتهد اجتهاده.
ومع ذلك يظل أخيرا، التأكيد على أن المادة الثانية من الدستور لا بد أن تبقى، ولكن لا بد كذلك من تقييدها بقيدين فى مواد أخرى وهما قيدان من أصل الشريعة أيضا: الأول أنها لا تمنع حقا لغير المسلمين فى ممارسة عقيدتهم أو شعائرهم وفقا لقاعدة «لا إكراه فى الدين»، الثانى، أن الشعارات الدينية (إسلامية أو مسيحية) ليس أداة للتجنيد التصويتى أو الانتخابى أو الحزبى عملا بقول الحق سبحانه: «ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم».
إن صح هذا، فنحن لسنا بحاجة للعلمانية، وإن كنا قطعا بحاجة للديمقراطية والليبرالية بالمعنى الوارد فى هذا المقال (ولا مشاحة فى اللفظ).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق