الاثنين، 14 نوفمبر 2011

نظرة هادئة لمشهد ملتهب……… بلال فضل

تراجع قليلا إلى الخلف وحاول أن تتأمل المشهد الملتهب بهدوء. إياك أن تظن أن ما يدور على ساحته من معارك وصراعات وخلافات هو أهم ما فيه. فالحقيقة أن الأهم والأخطر والألعن هو ما يدور خلف الكواليس، واللاعبون خلف الكواليس ليسوا محليين فقط كما يبدو على السطح، بل هم لاعبون إقليميون ودوليون يمثلون أجهزة استخبارات ونخبا اقتصادية مهيمنة، وشبكات مصالح كان حسنى مبارك يحميها طوال الثلاثين عاما الماضية. وجميعهم الآن يطلبون أن تستمر حماية تلك المصالح بشكل أو بآخر، ومستعدون لإحراق مصر بمن عليها إذا لم يتم ضمان ذلك.

يظن البعض أن أى حديث عن المؤامرة والمصالح الخفية ليس سوى تحشيش فكرى للهروب من تحمل المسؤولية، وينسون أن كل المؤامرات تستند بالضرورة إلى منهج علمى وتستفيد من الأخطاء الموجودة فى الواقع وتقوم بتوظيفها، وهو ما يجعل إحباطها أمرا ممكنا، شريطة أن تعترف بوجودها ولا تتعامل مع كل ما يحدث حولك على أنه يحدث خبط عشواء أو محض مصادفة ولا يقف وراءه منتفعون أو مستفيدون.

لست ناصريا ولا ساداتيا، ولست مستعدا للدخول فى مهاترات بشأن عبد الناصر والسادات، لكننى أعلم أن هناك قوى إقليمية ودولية استفادت بشكل رهيب من غياب مصر عن دورها وموقعها وانكفائها على ذاتها بدءا من سبعينيات القرن الماضى، وليس مصادفة أن هذه القوى -خصوصا الخليجية منها- هى التى تدعم مبارك الآن وتقاتل من أجل العفو عنه، ليس لأن مبارك يمسك عليها ذلة مثلا أو يمتلك تسجيلات فاضحة لقادتها، فلو كان الأمر كذلك لسهل عليها استرداد ما لديه والتخلص منه. جهود هذه الدول تتخفى تحت ستار القيم العربية الأصيلة، لكنها فى حقيقة الأمر رد جميل لشخص قام بأكبر خدمة لهذه القوى، هى خدمة تقزيم مصر، وهى خدمة تحققت بثمن زهيد، كان يمكن أن تُدفع فيها تريليونات الدولارات، لكن مبارك فعل ذلك فقط بمليارات لا تساوى قيمة إخراج مصر من المعادلة وتحويلها إلى عالة على من حولها.

للعلم، كل هذه القوى الإقليمية والدولية التى تسعى لكى يخرج مبارك من مقر نقاهته الفاخر فى المركز الطبى العالمى إلى الحرية المطلقة والرفاهية الكاملة، لا تفعل ذلك مجاملة له، بل تفعله لكى تكسر إرادة المصريين وتحرمهم من بهجة الانتصار الأبرز الذى حققوه حتى الآن. كسر مناخير الفرعون الذى أذل بلادهم وأفقرها، وقادة هذه الدول عندما يمارسون على مصر حصارا رهيبا لكسر إرادتها، يعلمون أن ما يطلبونه يوافق هوى لدى قادة المجلس العسكرى، الذين يشعرون أن مبارك لا يستحق العقاب لأنه تخلى عن السلطة لهم، ومع ذلك يخطئ من يظن أنهم يعملون الآن لمصلحة مبارك كلية، فمبارك بالنسبة لهم ورقة محروقة، ولو كان يهددهم حقا لتخلصوا منه بشكل أو بآخر، وكل ما يهمهم الآن هو ترتيب الأوضاع المستقبلية التى تحفظ للجيش سطوته ونفوذه، لذلك يخطئ من يظن أن ما يجرى الآن على الساحة صراع على الهوية الإسلامية أو على مدنية الدولة، فهو صراع على السلطة والمصالح، صراع حول من ستكون له الكلمة الأولى فى حكم مصر، وكثير من القوى تم جرها إلى هذه المعركة لكى يحقق لها المجلس العسكرى بعض ما تريده فى الوقت المناسب، مقابل أن يفوز بكل ما تريده.

لقد تم استخدام القوى الإسلامية بذكاء شديد فى مناسبات عديدة كان أبرزها جمعة قندهار لإرسال كروت إرهاب إلى القوى الدولية التى لن تسمح أبدا بأن تكون مصر باكستان جديدة أيا كان الثمن، وقد وصلت الرسالة ووصلت ردودها، ومنذ تلك اللحظة تغيرت خطة اللعب، ونجح المجلس العسكرى فى أن يرهب القوى «الخرعة» التى تطلق على نفسها اسم القوى المدنية، التى تظن أن بضعة أسطر فى حتة ورقة يمكن أن تحميها من التطرف، كأن الشعب المصرى لو اختار التطرف يمكن أن تردعه وثيقة وقع عليها مجموعة من الأفندية، هؤلاء للأسف ينسون أن كل ما يخشونه من تطرف وعنف ووصاية على البشر يمكن أن يتم فى ظل تفسيرات متطرفة لبعض نصوص الوثيقة التى يقاتلون من أجلها، ينسون أن معارك التطرف لا تجدى فى حسمها الدبابات ولا البيادات، لأن التطرف مشروع يذكيه العنف ويعطيه القهر شرعية وحصانة، هم كسالى يريدون من يحارب عنهم ولهم، يتحدثون باسم شعب لا يعرفونه.

بعضهم يتصور أن هذا الشعب يمكن أن يخاصم هويته وينسى تدينه، وفى نفس الوقت يتوهمون أنه يمكن أن ينحاز إلى التطرف والقتامة وينسى عشقه الأبدى للحياة والبهجة، وبدلا من أن يكون انحياز هؤلاء واضحا ضد خلق أى سلطة جديدة تستعبد المصريين بدعوى الحفاظ على مدنية الدولة، قرروا أن يحاربوا الأفكار بالبيادات، فجعلوا بعضا من أنبل شباب مصر يستجير من الرمضاء بالنار، ويضع يده فى يد كل من يعلو صوته ضد المجلس العسكرى حتى لو كان سيفتك بحريته فور أن يصل إلى السلطة، وحتى لو كان مستعدا لأن يبيعه على أول ناصية، إذا نال هدفه ومراده فى لعبة التفاوضات والمساومات، وستكون عندها النصوص والتخريجات حاضرة وتحت الطلب، ولن يبقى للذين تم استخدامهم إلا الحسرة والندم.

للأسف، كل ما يحدث فى مصر الآن يفسره قول الشاعر «وما سُمِّى الإنسان إلا لنسيه». المجلس العسكرى نسى ما حدث لمبارك بسبب التذاكى المفرط والثقة الزائدة بالقوة والانحياز لحسابات الخارج والرهان على خوف الناس بدلا من الارتكان لإرادة أحرار المصريين وإن قل عددهم، وكثير من الثوار نسوا أن ما أنجح ثورتهم كان قدرتهم على كسب أكبر عدد ممكن من الناس إلى صفوفهم ليصبح ضربهم مستحيلا، ولذلك ظلوا ينجرون طوال الأشهر الماضية إلى معارك غير محسوبة أبعدتهم عن سلاحهم الرئيسى: الناس. والإخوان المسلمون نسوا درس 1954، فأعجبتهم كثرتهم وشقوا بينهم وبين القوى التى اشتركوا معها فى الثورة أخاديد من الشك وسوء الفهم يصعب أن تُردم بسهولة لمجرد أن جفوة حدثت بين المجلس وبينهم.

والحل يا عم الفيلسوف؟ الحل أن يتذكر الجميع أن هناك ثورة حدثت فى مصر، ويستحيل على أجعص جعيص أن يتحداها، فيظن أنه يمكن أن ينفرد بتغيير موازين الأمور إما بقوته أو حماسه أو تنظيمه، فقد تغيرت قواعد الصراع فى مصر إلى الأبد، ولذلك لا بد أن يدرك المجلس العسكرى عبث تحديه لجيل ثائر يمتلك الأمل والمستقبل، وأن يدرك هذا الجيل الثائر أن هدم الدولة بكسر إرادة أى سلطة تديرها الآن قد يبدو تحديا جميلا ونحن جالسون على القهوة، لكنه فى الواقع أمر مخيف لن ينجو من عواقبه أحد، أيا كان نبله، لذلك الحل ببساطة أن يتراجع الجميع إلى نفس المواقع التى كانوا عليها يوم 11 فبراير لنبدأ من أول وجديد، فما زالت لدينا فرصة ربما لن تتكرر.

تحيا مصر، بس نديها فرصة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق