الثلاثاء، 22 نوفمبر 2011

تقرير من تونس….. فهمي هويدي

حين تعقد الجمعية التأسيسية التونسية أول اجتماع لها اليوم لبدء خطوات تسليم السلطة إلى قوى الثورة، فإن التونسيين يعلنون نجاحهم فيما فشلت فيه الثورة المصرية حتى الآن.

(1)
أتحدث عن الاجتماع الذي يفترض أن يتم فيه انتخاب رئيس المجلس التأسيسي، والاتفاق على ترتيب انتخاب رئيس الدولة وتعيين رئيس الحكومة، وتنظيم الإجراءات التي تنتهي بوضع دستور جديد للبلاد، خلال فترة يرجى لها ألا تتجاوز 18 شهرا.

حين قلت إنهم نجحوا فيما فشلنا فيه فلم أكن أعني فقط أنهم بدؤوا خطوات إقامة نظامهم الجديد، المتعثر عندنا، وإنما عنيت أنهم دخلوا إلى تلك المرحلة من باب الوفاق والتفاهم الذي يفترض أن يفضي إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية. بعدما تفاهموا على أن يتولى رئاسة الدولة والجمعية التأسيسية اثنان من العلمانيين، وأن يرأس الحكومة الأمين العام لحزب النهضة الإسلامي، الذي حاز أكبر نسبة من المقاعد.

التوافق الحاصل في الساحة التونسية ليس من ثمار ثورة 14 يناير، لكنه سابق عليها بعدة سنوات، ذلك أن القوى الوطنية التونسية قررت أن تتحدى ذلك النظام في 2005، حيث شكلت فيما بينها تجمعا باسم «18 أكتوبر للحقوق والحريات». وذلك هو التاريخ الذي أعلنت فيه ثماني شخصيات وطنية الإضراب عن الطعام احتجاجا على تدهور حالة الحريات العامة، وقصد أولئك النشطاء أن يعلنوا إضرابهم الذي استمر أكثر من شهر قبل انعقاد القمة العالمية لمجتمع المعلومات التي تقرر عقدها في 17 نوفمبر/تشرين الثاني من العام ذاته.
 وأرادوا بذلك فضح النظام وإحراجه أمام الوفود القادمة من مختلف أنحاء العالم، آنذاك تشكلت لجنة وطنية للإضراب ضمت بعض الأحزاب التي كانت حركة النهضة من بينها. وحين لقيت اللجنة تأييدا واسعا من قطاعات مختلفة من المجتمع، فإنهم قرروا أن يقيموا منتدى 18 أكتوبر. الذي دعيت فيه مختلف التيارات إلى مناقشة خلافاتها الفكرية، وأعلن رسميا تأسيس ذلك المنتدى في 25 يناير/كانون الثاني من 2006.
 
طوال أربع سنوات ظلت هيئة منتدى 18 أكتوبر تدرس خلافاتها وتسعى إلى تحديد القواسم المشتركة التي يمكن الاتفاق عليها، وانتهت إلى إصدار ثلاث أوراق شكلت أرضية للاتفاق، واحدة حول المساواة بين الجنسين، والثانية خاصة بحرية المعتقد والضمير، والثالثة تناولت علاقة الدين بالدولة في مجتمع مسلم ديمقراطي.
 
وصدرت تلك الوثائق في عام 2010 (العام السابق على الثورة) في كراسة بعنوان: "طريقنا إلى الديمقراطية"، وكان من نتيجة ذلك التوافق أنه حين قامت الثورة، فإن طريق العمل المشترك بين قوى الاعتدال الإسلامي والعلماني كان ممهدا.
 
(2)
لم يكن مستغربا أن تصاب شرائح الغلاة من الليبراليين والعلمانيين المتحكمة في المجال العام منذ الاستقلال في عام 1956 بصدمة شديدة حين حققت حركة النهضة تقدمها في الانتخابات. وكانت عملية التخويف ومحاولات الاصطياد والإيقاع من أهم الوسائل التي استخدمت في تلك المواجهة.
 
وكان رئيس اللجنة التي شكلت للحفاظ على الثورة -عياض بن عاشور -أحد الذين دعوا إلى حذف الإسلام من هوية الدولة (النص موجود في الدستور منذ الاستقلال) -وخرجت مجموعة باسم «النساء الديمقراطيات» طالبت بمساواة الرجل بالمرأة في الميراث، وطالبت إحدى السيدات في ندوة عقدها التلفزيون الفرنسي بتدخل فرنسا لإنقاذ السيدات من «براثن» النهضة. وأثارت أخرى ضجة لأن واحدة من نائبات النهضة رفضت مشروعها لتقنين وضع الأمهات العازبات (اللاتى أنجبن بغير زواج)، وعرضت إحدى القنوات شريطا صور الذات الإلهية، وعرضت قناة أخرى شريطا قبل الانتخابات أعلنت فيه البطلة أنها «كافرة».
 
وكانت الضجة الكبرى حين دعا السيد حمادي الجبالي الأمين العام لحزب النهضة إلى تمثل الخلافة الراشدة السادسة (كان يقصد إشاعة العدل في البلاد كما فعل الخليفة عمر بن عبد العزيز). وقد أثار ذلك غضب غلاة العلمانيين الذين استفزهم استخدام مصطلح الخلافة الراشدة.
 
ومنذ عاد قادة النهضة من المنفى إلى بلادهم -خصوصا الشيخ راشد الغنوشي- وهم يواجهون بأسئلة حول مصير الحانات وغير المحجبات والمايوهات البكيني والسينما والبنوك… إلخ، وفي الأسبوع الماضي اجتمع بعض الفنانين مع أحد المسؤولين عن الثقافة في النهضة (العجمي الوريمي)، وكان الاجتماع مكرسا لبحث مصير الرقص الشرقي في ظل الحكومة الجديدة.

 للدقة فإن هذا اللغط يثيره المثقفون والفرقاء السياسيون. في حين أنه لا يحتل حيزا يذكر في الشارع التونسي. ذلك أن المجتمع يعاني من مشكلة البطالة والكساد، نتيجة لتوقف السياحة بصورة نسبية بعد الثورة. الأمر الذي زاد من العاطلين الذين كان عددهم 500 ألف فوصل العدد بعد الثورة إلى 700 ألف، والعدد مرشح لأن يصل إلى مليون عاطل إذا استمر الحال كما هو عليه الآن (لاحظ أن سكان تونس عشرة ملايين).
 
في الوقت ذاته فإن الجميع لا يكفون عن الحديث عن فضائح النظام السابق التي باتت على كل لسان. وأكثر تلك الفضائح تدور حول علاقات الرئيس السابق وذمته المالية وأطماعه هو وزوجته وأهلها «الطرابلسية»، وما سمعته عن الرئيس السابق يفوق القدرة على التصديق، فعلاقاته مع الموساد الإسرائيلي ودوره في قتل بعض القادة الفلسطينيين محل تحقيق.
 
ثم إن فساد ذمته المالية تجاوز حدود اكتنازه للأموال النقدية والمجوهرات في سراديب قصوره، ووصل إلى درجة اتجاره في المخدرات الذي كان يتم بواسطة شقيقه (اتهم بقتله). وقد فوجئ الجميع بأن بعض قصوره احتوت على مخازن كدست فيها الثلاجات والبوتاغازات وأجهزة التلفزيون والغسالات. ويظل ذلك كله أمرا محدودا إلى جانب عمليات النهب العظيم التي طالت الأراضي والغابات والمشروعات الاقتصادية الكبرى التي كان ينتزع بعضها من أصحابها، وقد لجأ عدد منهم إلى الهجرة من البلاد فرارا من ذلك المصير، في حين أقدم آخرون على الانتحار حين اكتشفوا أن ثمرة شقاء عمرهم اختطفت منهم.
 
استوقفني فيما سمعت عن فساد العهد السابق المعلومات التي اكتشفت في ملفات وكالة الإعلام الخارجي، حيث تبين مثلا أن الوكالة كانت تدفع شهريا مليونيْ دولار لشراء بعض وسائل الإعلام في لبنان، بينها قناتان تليفزيونتان شهيرتان. كذلك كانت تدفع مبالغ أخرى لصحفيين عرب، منهم مصريون أشير إلى أحدهم بحرفيْ (م.ج). كما أشير إلى أن تقارير تلك الوكالة -التي كانت تمجد بن علي وعهده- كانت تنشر باعتبارها مقالات تحليلية في بعض الصحف المستقلة في مصر وبعض الأقطار العربية الأخرى.
 
(3)
لكي أستكمل الصورة، ذهبت إلى الشيخ راشد الغنوشي في البيت الذي استأجره أخيرا في حي المنزه بعد غيبة استمرت 22 عاما. وكانت السلطة قد استولت على بيته الأصلي بعد اغترابه، وقد عثروا أخيرا على أوراق ملكية بيته المغتصب وردوه إليه. حين سألته عن الحملات التي تشن بصفة يومية على حركة النهضة. فإنه ضحك وقال: نحن معتادون على ذلك وأكثر منه. وما يهمنا الآن هو إنقاذ الوطن وليس الدفاع عن الحركة.
 
سألته عن تصريحاته التي تحدث فيها عن عدم التدخل في حريات الناس والسائحين، فقال إن لدينا أولوياتنا، وهمنا الأول هو طمأنة الجميع وإنقاذ اقتصاد البلد من الكساد. ثم إن موضوع الحريات محسوم عندنا منذ وقت مبكر، سابق على وثائق منتدى 18 أكتوبر. قلت إن مجلة جون أفريك في عددها الأخير، وكذلك كتابات محللين غربيين وعرب كثيرين، ذكرت أن حركة النهضة طوت أفكارها بسبب هجرة قادتها إلى فرنسا وإنجلترا.
  
سألته عن علاقة حركة النهضة بالأجهزة الأمنية التي ظلت تنكل بعناصرها طول الوقت. قال إنهم نكلوا بالشعب التونسي كله وكانت حصتنا أكبر. سجنوا وعذبوا 45 ألفا. وقتلوا أكثر من مائة تحت التعذيب أطلقت أسماؤهم على قاعات مقرات الحركة التي افتتحت هذا العام. ونحن نعرف أسماء الذين عذبوا أخواتنا وعناوينهم. لكننا قلنا إن الحركة لن تدعي على أحد، وستترك كل واحد وشأنه. أما إذا أراد الأفراد أن يقاضوا معذبيهم من جهتهم فهذا شأنهم.
 
سألته عما إذا كانت الشرطة والأجهزة الأمنية ستبقى على حالها. فنفى ذلك، وقال إن 45 من قيادات تلك الأجهزة أنهيت خدماتهم وبعضهم تم اعتقالهم. وإنه تم تعيين آلاف جديدة من الشرطة، أخضعوا لدورات تثقيفية في احترام القانون وحقوق الإنسان. وتم استجلاب محاضرين لهذا الغرض من إنجلترا وبلجيكا والولايات المتحدة.
 
سألته عن الشائعات التي ترددت عن احتمال تدخل الجيش إذا ما فازت حركة النهضة في الانتخابات، فقال إن مصدر الشائعة كان أحد النافذين في عهد بن علي، وما إن وصلت إلى أسماع رئيس الأركان الجنرال رشيد بن عمار، حتى سارع إلى دعوتنا للقائه ونفى الشائعة، مؤكدا أن الجيش ملتزم باحترام الإرادة الشعبية، علما بأن الرجل رفض طلبا لـ"بن على" بإطلاق النار على المتظاهرين في الثورة.
 
سألته عن زيارته للولايات المتحدة الأميركية في شهر يناير/كانون الثاني القادم تلبية لدعوة من مجلة الشؤون الخارجية (فورين أفيرز)، فقال إنه كان ممنوعا من دخول أميركا منذ عام 94، ولكنه قبل الدعوة التي وجهت إليه بعد الثورة. وأضاف أن هناك دعوة مماثلة وجهت إلى السيد حمادي الجبالي سيقوم بها بعد تنصيبه رسميا رئيسا للوزراء.
 
(4)
الملاحظ أنه منذ بداية الثورة اتخذت واشنطن سياسة أكثر رشدا وواقعية، في حين أن فرنسا أعلنت وقوفها إلى جانب بن علي. وذكرت وزيرة الخارجية أمام الجمعية الوطنية في البداية أن فرنسا تضع إمكانياتها تحت تصرف الرئيس السابق. ويدور الكلام بقوة عن قنابل مدمعة أرسلت من باريس إلى تونس لقمع المظاهرات ضد بن علي، الذي فتح البلاد على مصارعها أمام السياسيين الفرنسيين، فتملكوا شواطئها وقضوا عطلاتهم على نفقته. لكنهم جميعا أداروا ظهورهم له، وأصبحوا يتطلعون إلى علاقة إيجابية مع النظام الجديد. وأجرى آلان جوبيه وزير الخارجية اتصالا هاتفيا مع الشيخ راشد الغنوشي ليبدد السحابات التي لاحت في أفق علاقات البلدين.
  
حينئذ علق أحد التونسيين المطلعين قائلا إن وفدا أميركيا من خمسة أشخاص جاء إلى تونس قبل عشرة أيام وأراد أن يجس نبض علاقة النظام الجديد بإسرائيل، عبر إشارته إلى أن بعض الأثرياء الإسرائيليين يريدون الاستثمار في تونس، وكان ردنا أن النظام الجديد متضامن مع الفلسطينيين، وأن اهتمامنا منصب على إنجاح التجربة الديمقراطية وتجاوز الأزمة الاقتصادية، وكل ما عدا ذلك مؤجل.
 
قلت لسامعي إن التونسيين محظوظون أيضا لأن بن علي غادر البلاد وهرب تاركا فلوله، أما في مصر فمبارك موجود وكذلك فلوله. عندئذ قال مواسيا: الله معكم!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق