الأحد، 27 نوفمبر 2011

خانة اليـك…… ابراهيم الهضيبي

لا يوجد ما يسبق إدانة الجانى والتضامن مع الضحية عند الحديث عن جريمة الدولة تجاه مواطنيها فى التحرير، والمجمع عليه الآن هو أن الشرعية المؤقتة التى حازها المجلس العسكرى عقب خلع مبارك لإدارة شئون البلاد قد سقطت نهائيا بفشله فى حقن الدماء التى أراقتها أجهزة الدولة طوال الأيام الماضية، وأما المختلف فيه فكيفية صناعة الشرعية البديلة فى أسرع وقت ممكن.

 شرعية المجلس العسكرى ظلت تتآكل خلال الأشهر الماضية، فبعد أن تقبل الشعب بيان الاعتذار الشهير (رصيدنا لديكم يسمح) فى فبراير الماضى ظل هذا الرصيد إلى تناقص، بسبب سوء إدارة الملفين الاقتصادى والأمنى، وبسبب سياسات أدت لانخفاض حاد فى الثقة، منها محاكمة المدنيين عسكريا، والاعتداء على حرية الرأى والتعبير، والتباطؤ والتواطؤ فى عمليات التطهير، وانعدام الوضوح فيما يتعلق بالخريطة الانتقالية، والخروج فيها على ما تم التوافق عليه فى الاستفتاء، سواء فيما يتعلق بحالة الطوارئ، أو بترتيب خطوات الانتقال وبجعل وضع الدستور سابقا على الانتخابات الرئاسية.

ثم جاء اعتداء الشرطة على المعتصمين عقب مليونية 18 نوفمبر ــ من غير أن يعطلوا مصلحة ولا يقطعوا طريقا ــ ليشعل فتيل أزمة جديدة، تسارعت وتيرتها بتداعى الآلاف للدفاع عن المعتصمين ضد بطش الأجهزة الأمنية، وبالعنف المفرط لتلك الأجهزة التى قتلت ــ ومعها بعض قوات الجيش ــ عشرات المصريين، فكتبت دماؤهم صك سحب الشرعية من هذا المجلس.

والظرف الآن بالغ الدقة، ومسئولية المجلس الأولى فيه هى الحفاظ على تماسك المؤسسة العسكرية، وهو ما لا يكون بغير التراجع الفورى الطوعى عن الدور السياسى الذى يقوم به، لئلا يقحمها معه فى صدام مع الشعب هو قادم لا محالة لو أصر على البقاء، وينبغى على المجلس أن يعلن فورا عن جدول انتقال سلطة يؤدى لخروجه الكامل منها عقب الانتخابات البرلمانية التى ينبغى أن تقام فورا.

ومسئولية الساسة لا تقل دقة عن مسئولية المجلس العسكرى، إذ عليهم أن يضطلعوا بمسئوليتهم الوطنية ويتجاوزوا خلافاتهم الورقية واللفظية التى استمرت شهورا، وأن يعلنوا قبولهم تسليم السلطة كاملة للبرلمان المنتخب، على أن تشكل حكومة إنقاذ تقوم على توافق وطنى واسع فتحظى بتأييد ثلثى أعضائه، تكون صلاحياتها كاملة لا رقيب عليها سوى البرلمان، وتنشغل بثلاثة ملفات رئيسة، هى الأمن والاقتصاد والإعلام، وتلتزم بإجراء الانتخابات الرئاسية فى موعد أقصاه أبريل المقبل، ويتوازى ذلك مع اختيار الجمعية التأسيسية للدستور، وتشكيل الحكومة بأغلبية الثلثين من شأنه تقليل فجوة الثقة بين التيارات المختلفة ومن ثم المساعدة فى صنع توافق هو المسئولية الوطنية الأولى للقوى السياسية الآن، بدونه يصير وجودها كعدمه، أو يكون عبئا على الثورة.

وهذا المخرج من الأزمة هو فى تقديرى الأسرع والأكثر أمانا، إذ البدائل الأخرى المطروحة (مجلس رئاسى مدنى، حكومة إنقاذ وطنى) ستفتح أبوابا واسعة للشقاق بين القوى السياسية فى تفاصيلها وصلاحياتها وعلاقتها بالجهات المنتخبة (إذ الواجب فى كل الأحوال هو الإسراع بالانتقال لشرعية ديمقراطية تعبر وإن جزئيا عن إرادة الشعب)، وستنقل الخلاف من كونه خلافا بين الشعب والحكام إلى خلاف بين الساسة وبعضهم، وبدائل كانتقال السلطة لرئيس المحكمة الدستورية أو محكمة النقض تتجاهل أن توازن القوى وقتها ــ مع انعدام المؤسسية فى هذه الجهات ــ سيعطل العمل فى مؤسسات الدولة، وسيبقيها أسيرة لحكم العسكر، ولا ينقص هذا المخرج من الأزمة سوى تحديد الجهة المشرفة على الانتخابات، أتكون المجلس العسكرى الذى فقد الشرعية، أم جهة أخرى ربما تحتاج بعض الوقت لترتيب أوراقها قبل الانتخابات، ووجهتا النظر لهما ما يؤيدهما، غير أنى أنحاز لما لا يعطل الانتخابات، لأن التأجيل يفتح أبوابا أمام المزيد من المشكلات.

وجزء من مسئولية الخروج من هذه الظرف الدقيق تقع على عاتق الثوار، والتسليم بسقوط شرعية العسكر يعنى أن الواجب الأول صار الإسراع بانتقال السلطة، وهو ما يعنى التعجيل بالانتخابات الرئاسية لا تأجيل البرلمانية، وينبغى أن يثق الثوار فى الشارع وخياراته الديمقراطية، وفى أنه ــ فى ظل الظرف الثورى ــ سيعاقب الفلول والمتأخرين عن الثورة.

وتقديرى أن الإسراع بانتقال السلطة لحكومة برلمانية منتخبة لا يكفى لتهدئة الغضب الشعبى الذى يتحرك فى ميادين مصر، إذ ينبغى بالتوازى مع ذلك اتخاذ حزمة من الإجراءات تنزع فتيل الغضب، بعضها يتعلق بالمحاسبة المباشرة على الأحداث، وبعضها بالأسباب المؤدية إليها، فأما ما يتعلق بالأحداث مباشرة فأوله اعتذار رئيس المجلس العسكرى للشعب عن الجرائم التى وقعت على أيدى الأجهزة الأمنية للدولة فى الأيام الماضية، وهذا الاعتذار واجب، كونه يتعلق بالمسئولية السياسية بقطع النظر عن المسئولية الجنائية، وبالتوازى مع الاعتذار فينبغى الشروع فورا فى إجراءات تأخرت كثيرا، أولها الإقالة الفورية لوزير الداخلية وقيادات الوزارة كلها، وكذلك كل الضباط الذين سبق لهم العمل فى جهاز أمن الدولة المنحل، وثانيها بدء التحقيق الفورى فى البلاغات المقدمة ضد ضباط الداخلية والجيش المتورطين فى قتل المتظاهرين فى يناير وفبراير وإبريل ومايو ويونيو وسبتمبر وأكتوبر ونوفمبر، وأن يوقف هؤلاء الضباط عن العمل ويتم احتجازهم خلال فترة التحقيقات لئلا يؤثروا بنفوذهم على مسارها.

وبالتوازى مع الاعتذار وتطهير الداخلية ينبغى تشكيل لجنة تقصى حقائق مستقلة، تتشكل من أناس يحظون بثقة الثوار، تنظر فى الأحداث الأخيرة وفى أحداث ماسبيرو، وتحدد الجهات المسئولة عنها، وأشكال التقصير المؤدية إليها، مع وضع سقف زمنى محدد لعملها.

وأما ما يتعلق بعلاج الأسباب المؤدية للغضب فأوله إطلاق سراح جميع المعتقلين فورا، والوقف الفورى للمحاكمات العسكرية للمدنيين، وإعادة محاكمة كل من حكم عليهم من قبل القضاء العسكرى أمام قاضيهم الطبيعى، وكذلك تطهير المؤسسة الإعلامية التى عملت طوال الأشهر الماضية على شق الصف الوطنى، وإحباط المصريين وإبعادهم عن الثورة، وكذلك الإقالة الفورية لأسماء بعينها فى المجلس العسكرى، لم تتوان فى الأشهر الأخيرة عن التحريض على الشعب المصرى، وتحدى إرادته بوضوح فى كل خطاباتهم وكلامهم.

تقديرى أن تطور الأمور على هذا النحو السريع فى ميادين مصر إنما يعكس حالة الاحتقان المتزايد من جهة، وانعدام حكمة الحكام المؤقتين وقدرتهم على إدارة الأمور من جهة أخرى، وأن هذا التطور قد وضع كل الأطراف فى (خانة اليك)، وأن كل الأطراف صارت تدرك المشكلة وتعجز عن حلها، وأتصور أن سرعة الاستجابة للمطالب، جملة واحدة من غير تدرج ولا مساومة قد يمثل مخرجا آمنا لمصر، بغيره سندخل فى دوامة تؤدى لإراقة المزيد من الدماء، واستمرار فورة الغضب، وتحقيق ذات المقاصد ولكن بوسائل أقل سلمية، وأكثر تهديدا لسلامة الوطن.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق