السبت، 12 نوفمبر 2011

ورثة عرش مبارك…….. ابراهيم الهضيبي

فى نصف الشاشة الأيمن ظهر عمر سليمان جالسا على عرش مبارك، يجيب عن سؤال المذيعة عن الديمقراطية بقوله: هى فكرة جيدة، وإن كان الشعب لا يزال فى حاجة للتأهيل قبل ممارستها، وفى نصف الشاشة الأيسر كانت الميادين مغطاة بمئات اللافتات وملايين المصريين، خرجوا لينتزعوا سيادتهم التى هى جوهر الديمقراطية، وفى أسفل الشاشة كان شريط الأخبار يتحدث عن اجتماعات بين القيادات السياسية من الحكام والمعارضة لإيجاد مخرج من الأزمة.

 كان المشهد فى فبراير الماضى، وقت كان الصراع على أشده بين العروش والميادين، عروش يجلس البعض عليها ويسعى الآخرون إليها، وكلهم يرى نفسه أفهم لمصالح الشعب منه، وبالتالى صاحب حق فى فرض وصايته عليه، وميادين تثبت مرة بعد أخرى قدرتها على صياغة آليات ديمقراطية للحكم تسعها جميعا، بعيدا عن وصاية أصحاب العروش.

 خلعت الثورة مبارك وبقيت سموم عرشه، فحتى من ظنناهم حينا من أهل الميادين فاجأونا وقد اقتربوا منه ــ وإن بصورة مؤقتة ــ بسلوك مسلك صاحبه المستعلى على إرادة الشعب، من هؤلاء نائب رئيس الوزراء للتنمية السياسية والتحول الديمقراطى، الذى طرح وثيقة للمبادئ الدستورية والقواعد الحاكمة لاختيار الجمعية التأسيسية، ودعا من توسم فيهم الأهلية للحوار حول مضمونها، وأعلن أن نسختها النهائية سيصدر بها إعلان دستورى لتصير ملزمة للبرلمان والجمعية التأسيسية. 

ومجافاة الديمقراطية فى شكل الوثيقة ومضمونها دليل على أن القائمين والموافقين عليها ورثة عرش مبارك، الذين ــ وإن كانوا قد اختلفوا مع بعض سياساته ــ اتفقوا معه فى عدم الاستناد إلى الشرعية الديمقراطية، والاستعاضة عنها بإرادة نخبوية فوقية لا ترى فى خيارات الشعب الديمقراطية ما يلزمها، ولا تؤمن بسيادته.

 فأما من حيث الشكل، فقد خرجت الوثيقة من غير ذى صفة، فحكام مصر المؤقتون لهم شرعية إدارية اكتسبوها بشكل مؤقت بحكم الضرورة وقوة الأمر الواقع، وهى شرعية تسيير أعمال لا شرعية سياسية، يمكن من خلالها مباشرة الأعمال اليومية والقضايا محل الإجماع الوطنى (كإصلاح منظومة الأمن، وتفكيك مؤسسة الفساد والاستبداد، وتأكيد سيادة القانون من خلال تمكين القضاء المستقل)، إلا أنها لا تكفى لتقعيد القواعد المبتغى استقرارها بعد المرحلة الانتقالية، ولا لوضع الأسس التى عليها تقوم الدولة بعد ذلك. 

واحتجاج نائب رئيس الوزراء بوجوب إصدار الوثيقة للوصول للتوافق باطل من جهات، منها أن مفتاح التوافق الحوار لا بالوصاية، وأنه يكون بين أطياف الشعب لا النخب التى لا تعبر بالضرورة عن اتجاهاته، وأن البرلمان ــ وإن كان معبرا عن الأغلبية السياسية أكثر من التوافق الوطنى ــ أقدر على التعبير عن هذا التوافق من جهات غير منتخبة على الإطلاق، خاصة وأنه لن يكون هو نفسه الجمعية التأسيسية. 

ثم إن الاحتجاج ينبنى على فرضية عجز الشعب الكامل عن اختيار برلمانيين يعبرون عنه، وأن النخبة ــ التى يمثلها سيادته ومن اختارهم للحوار ــ أدرى من الشعب بمظان توافقه، وأعلم منه بمصلحته، وأولى منه بتقرير مصيره، وبالتالى فلها الحق دونه فى فرض القواعد اللازم اتباعها عند وضع الدستور الجديد، وكأن درجتين من الرقابة الشعبية المباشرة (باختيار أعضاء مجلس الشعب، ثم الاستفتاء على الدستور الجديد)، ومعهما رقابة شعبية وإعلامية على عمل الجمعية التأسيسية لا تكفى، ولا بد من فيتو تملكه هذه النخبة لفرض ما تراه. 

فإذا ما تنازلنا عن التحفظات على شكل الوثيقة وانتقلنا لمضمونها وجدناها أكثر تعبيرا عن النزعة التسلطية لكتابها، فهى وإن كانت تقر بسيادة الشعب (مادة 3)، فإنها لا تبقى لهذا الإقرار معنى، بإسنادها مهمة حماية الشرعية الدستورية للقوات المسلحة دونه ومؤسساته المدنية، وإخراجها العسكر عن سيادة الشعب، وإعطائهم دونه السيادة على سياسة مصر الخارجية وقرار الحرب والسلم (مادة 9)، وتمكينهم من التدخل لقمع حريته ومصادرة قراره السياسى بمشاركتهم فى مجلس الدفاع الوطنى الذى تبقى صلاحياته وفق الوثيقة مطاطة قابلة للاتساع (مادة 10). 

والوثيقة تنقل السيادة عند كتابة الدستور من الشعب لحكامه غير المنتخبين، فتحدد ــ دون نواب الشعب ــ الأوزان النسبية للفئات الممثلة فى الجمعية التأسيسية، وتجعل ترشيح الأعضاء حقا لجهات أكثرها غير منتخب خاضع لسيطرة الدولة، وبعضهم ترشحهم الوزارة غير المنتخبة مباشرة، فيما يقتصر دور البرلمانيين المنتخبين على الاختيار بين مرشحين اثنين لكل مقعد (مادة 1 من معايير تشكيل الجمعية التأسيسية). 

ثم إن الوثيقة تعطى العسكر الحق فى رفض النصوص الدستورية المقترحة وعرضها على المحكمة الدستورية (المختصة بنظر القوانين من حيث دستوريتها، لا بنظر نفس الدستور)، وتعتبر رأيها غير المتخصص إلزاميا (مادة 2)، وتعطيهم الحق فى تشكيل جمعية تأسيسية بإرادتها المنفردة إذا لم تنته الجمعية المنتخبة من صياغة دستور فى ستة أشهر (مادة 3)، مع إعطائهم أدوات لا تحصر لتعطيل عملها (بعضها تتضمنه المادة 2)، وبالتالى تضمن خروج كل المواد الدستورية موافقة لمراد ورثة عرش مبارك ومؤكدة لسيادتهم لا سيادة الشعب. 

والانحياز للعروش على حساب الميادين باد فى مواطن أخرى، كالنص على مسئولية الدولة فى تشجيع الاستثمار وحماية المنافسة الحرة (مادة 6) فى مقابل بناء المسئولية فى توفير الحياة الآمنة والبيئة النظيفة والغذاء والسكن والرعاية الصحية للمجهول (مادة 19) وهى صياغات تحمل انحيازا لنظام اقتصادى يعبر عن توجهات الحزب الذى قدم منه نائب رئيس الوزراء أكثر من تعبيرها عن التوافق الوطنى، وتركز على مصالح النخب أكثر من حقوق البسطاء.

 الاعتراضات على شكل الوثيقة ومضمونها يضيق عنها المقال، وإنما أوردت ما به يستدل على كون الخلاف حول المبادئ ليس كما يقول ظاهره خلافا بين قوى سياسية قابلة وأخرى رافضة لها، بل هو خلاف بين شعب يريد حقه الكامل فى تقرير المصير ديقراطيا، ونخبة ترى نفسها صاحبة حق فى فرض الوصاية عليه، ولا تزال الثورة تنتظر لنجاحها نخبة جديدة، تكون أكثر إيمانا بسيادة الشعب، وأقل استعلاء عليه، وأكثر تعبيرا عنه.

 ●●●
 علاء عبد الفتاح لا يزال أسيرا، وقد سبق له التضامن مع كل مدنى حوكم عسكريا، وإذا كان موقف العسكر مفهوما (وهم ورثة مبارك الذين ورثوا أدواته فى الحكم)، فإن الذى يحتاج لتفسير هو موقف أولئك الساسة الذين تضامن معهم علاء عندما وقفوا أمام القاضى العسكرى وقت كان التضامن معهم مكلفا، ثم انتظرنا منهم موقفا رافضا لمحاكمته فلم نسمع إلا صمتا، أذكركم فقط بالموقف الأخلاقى الواجب التزامه والذى يسمو على الحسابات السياسية، وبقول القائل: أكلت يوم أكل الثور الأبيض.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق