تناولنا في الحلقة السابقة بشكل موجز تأريخا لمشكلة الجمع بين الدعوي والحزبي ، وكيف أن الممارسة التاريخية في السياسة الشرعية لم تكن تظهر بها تداعيات هذه المشكلة ، لأن الأداء السياسي لم يكن تنافسيا على السلطة إلا بمواجهة السلطة السياسية ذاتها عبر الخروج عليها ؛ فالظاهرة الحزبية بمفهومها الحديث هي جديدة على العرف الإسلامي ، وهذا ماجعل الفكر الإسلامي المعاصر يأخذ وقتا لتقبلها مع أنه كان يقبل بالنظام النيابي منذ القرن التاسع عشر.
وتناولنا كذلك .. تطور هذه المسألة داخل صفوف الحركة الإسلامية – الإخوانية خصوصا – وكيف أن هناك طروحات ظهرت في التسعينات إما بخصوص الفصل بين العمل الحزبي والدعوي ، أو في تحويل الجماعة لحزب ، وكيف أن هذه الأطروحات على اختلاف تقييماتها وموقفها من المشكلة كانت تعاني من غياب لرؤية استراتيجية كلية تضبط طبيعة الاحتياجات السياسية وأهدافها ضمن مشروع تغييري واضح ، وكيف أن هذه المشكلة ظهرت للسطح بعد الثورة.
أنشأ الإخوان حزبهم وتبنت الدعوة السلفية حزبا سياسيا ، وأعلن كلاهما الفصل الوظيفي والعضوي بين الدعوة والحزب ، ولكن مع تباين بين التزام بدرجة معقولة للسلفيين بهذا الأمر ، وعدم التزام إخواني واضح بالمسألة ؛ بل إن الوضع الحالي ازداد تفاقما في هذا الشأن حتى أن الكثير من الملفات السياسية التفصيلية والخاصة بتوجهات الحزب الإخواني من قضايا البرلمان وانتخابات الرئاسة يكون مصدرها الخطابي من قيادات في الجماعة ، مع ماهو معروف من تأثير شبه كامل على القرار السياسي المفصلي نفسه للحزب.
وهذا مايشير إلى أن الاعلان الأول كان انحناء لضغط سياسي أكثر منه قناعة ذاتية؛ لأن بناء هذه القناعة كان مقتضيا لمراجعة كاملة للبنى الفكرية والرؤية الحركية والبنى والمناخات التربوية والتنظيمية لجماعة الإخوان بعد الثورة وماأحدثته من موجات تغيير شاملة في السياق العام ، ولكن للأسف هذه المراجعات لم تحدث وإنما تمت الاستعاضة عنها بمبادرات للتطوير والتعبئة الداخلية، مع أنه لامعنى لتطوير حقيقي قبل إعادة النظر في المسارات الكلية والأطر البنائية لأي حركة أو دولة.
ونحن في هذه الحلقة الثانية ، نتناول المنطق خلف الفصل بين العمل الدعوي والعمل الحزبي وأبعاد هذا المنطق الديمقراطية والشرعية والدعوية.
طبيعي أنه لأي ممارسة ديمقراطية منظومة قيمية معلنة أو مستترة تتوافق عليها الأغلبية الساحقة في عقد اجتماعي جديد ، وهي في حالتنا مباديء الشريعة الإسلامية. والإسلاميون كذلك قد قبلوا بالمنطق الديمقراطي فيما لايخالف القطعي من الشريعي ،ولكن مسألة الفصل الدعوي والحزبي ليست بأي حال من القطعي الشرعي .. بل كما سنرى أن النسق الشرعي نفسه يشي بها أصوليا وأخلاقيا وسياسيا. ولهذا فالالتزام بها ملزم ديمقراطيا وقانونا.
إذا وُجِدت جماعة مركزية تشتغل بالعمل الدعوي والوعظي ، والعمل النقابي، والعمل الخيري والتعليمي ، وفي نفس الوقت بالعمل الحزبي التي يتنافس على مصادر السلطة فمصر أمام مشكلة كبيرة وأمر يتصادم مع كل البديهيات الديمقراطية المنظمة للعمل الحزبي ، ونكون أمام بذور نظام شمولي. الموضوع ليس فقط من أن مآل اشتراك العمل الدعوي أو العمل الخيري مع الحزبي هو (رشي سياسية) تفيد التقدم لأي جهة تخلط بين هذه الدوائر في التنافس الحزبي؛ بل أن فكرة الدوائر المتوازية في الديمقراطية مهمة لأجل الحفاظ على مصالح الشرائح المجتمعية والتي لابد أن تتصادم ويكون لها أطراف متمايزة في تمثيلها وتصل (لتسويات) اجتماعية وسياسية.
العمل النقابي مثلا يعبر عن مصالح لطوائف مهنية ، والتعليم العالي يقوم بمهام التأهيل المعرفي والمهني لهذه الطوائف، وهناك مصالح لطبقات شعبية تتلقى الخدمة التي توفرها المهنة (طبية – هندسية – محاماة..)، وكل هذه المصالح وأطرافها تكون في مقابل سلطة سياسية منتخبة لها الحق في الإدارة السياسية (وليست الكاملة) لدوائر الدولة الوظيفية .. فإن تسيطر حركة أو حزب على كل هذه الدوائر مجتمعة .. فهي تستطيع أن تفرض رؤيتها المصلحية السياسية على هذه السياقات بشكل كلي وفوقي وغير متوازن (لأنه لايكون نتيجة تسوية مصلحية ولكن فرض أيديولوجي وبرامجي).. وهذا هو النظام الشمولي.
كذلك هناك دوائر خدمية في الدولة محرم على من يتواجد بها الانتماء الحزبي مثل الجيش والشرطة والقضاء ، فهي إما أنها تحتكر أدوات عنف ومهم الحيلولة بينها وبين أي ممارس للسلطة السياسية ، أو أنها لابد من تنزيهها عن أي شبهة محاباة لأدائها وظيفتها.
ونحن أمام مشكلة أخرى تتمثل في عزوف الجماعات الدعوية عن تسوية أوضاعها قانونا ووضع مكوناتها التنظيمية والمالية وعلاقاتها المختلفة تحت إطار الرقابة الرسمية ، مع أنها امتلكت أغلبية الثلثين بالبرلمان وهو أول سلطة سياسية منتخبة في النظام الجديد وتتحرك في علاقات دولية وشبكات اقتصادية متمددة.
وهو فصل على مستوى القيادة والتنظيم ، والمواقف والسياسات ، و الخطاب…
و حين نأتي للبرمجة فهناك خيارات واسعة سواء في النظرة الشرعية للعديد من المسائل الاقتصادية والسياسية ، أو النظرة التجريبية وهي الأغلب، وتجبيس المشروع الدعوي الشامل في خيارت ضيقة على المستوى الشرعي أو التجريبي يعزلها عن القطاعات التي لاترضى بهذه الخيارات أولا ؛ ولذلك فلم تفرض جماعة الإخوان مذهبية فقهية بعينها . فكيف تفرض مذهب اقتصادي إسلامي بعينه يتجه لليمين أو لليسار؟ أو تصورا لشكل الدولة وطبائع العلاقات داخلها مثلا؟ أو خيارات استراتيجية تتباين إزاء ملفات السياسية الخارجية والأمن القومي؟
والأخطر أن في ذلك تهديدا على مدى تقبل المشروع الإسلامي بأبعاده القيمية والعقائدية وحتى السياسية العامة ، لأنك تدخل المشروع الدعوي وترهنه بمسائل قد تفشل أو تفلح في التطبيق.
وقديما أنكر الإمام أبو حامد الغزالي على من احتجوا بفهمهم لحديث الكسوف على قوانين الطبيعيين بقوله: من يظن أن الناظرة في هذا من الدين ، فقد جنى على الدين وضعّف أمره ؛ لأن هذه الأمور تقوم عليها أدلة حسابية لايبقى معها ريبة ، ثم يقول (وأعظم مايفرح به الملاحدة أن يصرّح ناصر الشرع بأن هذا – يعني التفسير العلمي للكسوف – وأمثاله على خلاف الشرع ؛ فيسهل عليهم إبطال الشرع ، إن كان أمثاله شرط ذلك).
وفي صحيح مسلم عن طلحة رضي الله عنه قال: مررت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم على رءوس النخل فقال: "ما يصنع هؤلاء؟" فقالوا: يلقحونه، يجعلون الذكر في الأنثى فيلقح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أظن يغني ذلك شيئاً" قال: فأُخبروا بذلك فتركوه، فأُخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: "إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإني إنما ظننت ظناً، فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئاً فخذوا به، فإني لن أكذب على الله عز وجل. "
والنبي صلى الله عليه وسلم لايقاس عليه في حالة الجمع بين البلاغ والإمامة لأنه نبي مكلف ، فضلا أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان في غاية الحرص على التمييز بين هذه الدوائر المختلفة ، ولكن التجربة الإسلامية التاريخية والمعاصرة .. وحتى القريبة – تشي أننا أمام مشكلة كبيرة في التدخل غير الحميد وحتى القاصد لمصالح فئوية وسياسية ؛ فتجد فتوى بوجوب الدخول في الانتخابات كخيار سياسي، أو فتوى بالمشاركة في الاستفتاء وقول نعم ، أو في وجوب العصيان المدني أو تحريمه ، أو في شرعنة تدخل عسكري أجنبي لدولة عربية ، أو في شرعنة نظام سياسي مستبد وتابع وفاسد ..
وكل هذه الأمور إما أنها تخضع لنظر سياسي واستراتيجي لاتتدخل فيه الفتوى أصلا ، أو تخالف النظر الشرعي والسياسي معا. صحيح – لو ظهرت أمور توافق النظر السياسي عليها وارتبطت بقطعيات شرعية كدفع طاغية أو جهاد محتل ، فيمكن للفقيه الاعتماد على هذا في طرح فتوى ، ولكن في أغلب مسائل السياق التنافسي .. ليس فقط أن الأنظار تتعدد سياسيا ولكن هناك شبهة استخدام الفتوى لتمرير مصلحة حزبية. وكما أشرنا في الحلقة السابقة ، أن الخطاب الديني الثوري أيام الثورة الأولى لم يكن مستفزا للقوى السياسية لأنه كان معتمدا على مصالح وهموم.
ولهذا - فلاينبغي للفقيه والداعية أن يتدخلا في السياسات التفصيلية – خصوصا التنافسية - والتي تكون في غالبها تجريبية (من مسائل الإمامة والنظر الدنيوي) .. ولكن أن يرفعوا أصواتهم في حالة محددة وهي أن (يروا) مخالفة أي من هذه السياسات للقطعي الشرعي.
فالخطاب الدعوي هو كاشف عن النظر الشرعي أولا ، ثم هو يعبر عن الحالة المجتمعية ثانيا ، وإذا اندمج الحزب مع الجماعة الدعوية ألزم أحدهما الآخر – دائما مايكون مقتضي النظر الحزبي حتى لو خرج من الجماعة – بخياراته ، وهذا مفسد لكليهما.. هو مفسد للحالة الشرعية بالطبع لأنه يدجنها في خيارات الحزب ، ويقلل من الحس المجتمعي الناهض ، وهذا بدوره يفقد حتى الحزبي في مقام السلطة أوراقا تفاوضية مع الخارج معتمدا فيها على التصعيد الشعبي.
ومن هنا يظهر أن الفصل بين العمل الحزبي والدعوي هو بديهية ديمقراطية يجب على التيارات الإسلامية الالتزام السياسي والقانوني بها – مادامت لاتخالف القطعي الشرعي ، وأنها تتماهى مع المنظور الشرعي والحس الرسالي من صيانة الحالة الدعوية والشرعية وفي نفس الوقت تمديد دورهما في حماية القطعي الشرعي وتفعيله شعبيا وكضغط سياسي في مسائل الدين والسياسة والاقتصاد.
—----------------------—
الحلقة الثالثة نخصصها لتناول "تصور التجديد لوظيفة الحركات الإسلامية ورسالتها وما يلي ذلك من الوضع الأمثل لترتيب التمييز بين ماهو دعوي وماهو سياسي وحزبي."
وتناولنا كذلك .. تطور هذه المسألة داخل صفوف الحركة الإسلامية – الإخوانية خصوصا – وكيف أن هناك طروحات ظهرت في التسعينات إما بخصوص الفصل بين العمل الحزبي والدعوي ، أو في تحويل الجماعة لحزب ، وكيف أن هذه الأطروحات على اختلاف تقييماتها وموقفها من المشكلة كانت تعاني من غياب لرؤية استراتيجية كلية تضبط طبيعة الاحتياجات السياسية وأهدافها ضمن مشروع تغييري واضح ، وكيف أن هذه المشكلة ظهرت للسطح بعد الثورة.
أنشأ الإخوان حزبهم وتبنت الدعوة السلفية حزبا سياسيا ، وأعلن كلاهما الفصل الوظيفي والعضوي بين الدعوة والحزب ، ولكن مع تباين بين التزام بدرجة معقولة للسلفيين بهذا الأمر ، وعدم التزام إخواني واضح بالمسألة ؛ بل إن الوضع الحالي ازداد تفاقما في هذا الشأن حتى أن الكثير من الملفات السياسية التفصيلية والخاصة بتوجهات الحزب الإخواني من قضايا البرلمان وانتخابات الرئاسة يكون مصدرها الخطابي من قيادات في الجماعة ، مع ماهو معروف من تأثير شبه كامل على القرار السياسي المفصلي نفسه للحزب.
وهذا مايشير إلى أن الاعلان الأول كان انحناء لضغط سياسي أكثر منه قناعة ذاتية؛ لأن بناء هذه القناعة كان مقتضيا لمراجعة كاملة للبنى الفكرية والرؤية الحركية والبنى والمناخات التربوية والتنظيمية لجماعة الإخوان بعد الثورة وماأحدثته من موجات تغيير شاملة في السياق العام ، ولكن للأسف هذه المراجعات لم تحدث وإنما تمت الاستعاضة عنها بمبادرات للتطوير والتعبئة الداخلية، مع أنه لامعنى لتطوير حقيقي قبل إعادة النظر في المسارات الكلية والأطر البنائية لأي حركة أو دولة.
ونحن في هذه الحلقة الثانية ، نتناول المنطق خلف الفصل بين العمل الدعوي والعمل الحزبي وأبعاد هذا المنطق الديمقراطية والشرعية والدعوية.
المنطق الديمقراطي والقانوني
أما ديمقراطيا فبناء الدولة الحديثة يقضي بالحفاظ على دوائروسلطات متعددة داخلها ولكل دائرة حيزها الوظيفي الذي تهتم به ، فهناك دوائر للعمل المهني وأخرى للعمل المجتمعي والخيري وأخرى للحزبي التنافسي على مصادر السلطة التنفيذية ، وأخرى تمثل الجوانب الدينية والثقافية. وأن العمل الحزبي يعتمد على خطاب برامجي لاينبغي أن يستند إلى تقديم مصالح مباشرة مادية أو خيرية ، ولايستند على استخدام منابر دينية هي للجميع لأجل تحصيل مكاسب حزبية.طبيعي أنه لأي ممارسة ديمقراطية منظومة قيمية معلنة أو مستترة تتوافق عليها الأغلبية الساحقة في عقد اجتماعي جديد ، وهي في حالتنا مباديء الشريعة الإسلامية. والإسلاميون كذلك قد قبلوا بالمنطق الديمقراطي فيما لايخالف القطعي من الشريعي ،ولكن مسألة الفصل الدعوي والحزبي ليست بأي حال من القطعي الشرعي .. بل كما سنرى أن النسق الشرعي نفسه يشي بها أصوليا وأخلاقيا وسياسيا. ولهذا فالالتزام بها ملزم ديمقراطيا وقانونا.
إذا وُجِدت جماعة مركزية تشتغل بالعمل الدعوي والوعظي ، والعمل النقابي، والعمل الخيري والتعليمي ، وفي نفس الوقت بالعمل الحزبي التي يتنافس على مصادر السلطة فمصر أمام مشكلة كبيرة وأمر يتصادم مع كل البديهيات الديمقراطية المنظمة للعمل الحزبي ، ونكون أمام بذور نظام شمولي. الموضوع ليس فقط من أن مآل اشتراك العمل الدعوي أو العمل الخيري مع الحزبي هو (رشي سياسية) تفيد التقدم لأي جهة تخلط بين هذه الدوائر في التنافس الحزبي؛ بل أن فكرة الدوائر المتوازية في الديمقراطية مهمة لأجل الحفاظ على مصالح الشرائح المجتمعية والتي لابد أن تتصادم ويكون لها أطراف متمايزة في تمثيلها وتصل (لتسويات) اجتماعية وسياسية.
العمل النقابي مثلا يعبر عن مصالح لطوائف مهنية ، والتعليم العالي يقوم بمهام التأهيل المعرفي والمهني لهذه الطوائف، وهناك مصالح لطبقات شعبية تتلقى الخدمة التي توفرها المهنة (طبية – هندسية – محاماة..)، وكل هذه المصالح وأطرافها تكون في مقابل سلطة سياسية منتخبة لها الحق في الإدارة السياسية (وليست الكاملة) لدوائر الدولة الوظيفية .. فإن تسيطر حركة أو حزب على كل هذه الدوائر مجتمعة .. فهي تستطيع أن تفرض رؤيتها المصلحية السياسية على هذه السياقات بشكل كلي وفوقي وغير متوازن (لأنه لايكون نتيجة تسوية مصلحية ولكن فرض أيديولوجي وبرامجي).. وهذا هو النظام الشمولي.
كذلك هناك دوائر خدمية في الدولة محرم على من يتواجد بها الانتماء الحزبي مثل الجيش والشرطة والقضاء ، فهي إما أنها تحتكر أدوات عنف ومهم الحيلولة بينها وبين أي ممارس للسلطة السياسية ، أو أنها لابد من تنزيهها عن أي شبهة محاباة لأدائها وظيفتها.
ونحن أمام مشكلة أخرى تتمثل في عزوف الجماعات الدعوية عن تسوية أوضاعها قانونا ووضع مكوناتها التنظيمية والمالية وعلاقاتها المختلفة تحت إطار الرقابة الرسمية ، مع أنها امتلكت أغلبية الثلثين بالبرلمان وهو أول سلطة سياسية منتخبة في النظام الجديد وتتحرك في علاقات دولية وشبكات اقتصادية متمددة.
المنطق الشرعي والدعوي
والفصل بين الدعوي والسياسي في تصوري يكون الأقرب للتصور الإسلامي وليس فقط أنه مسألة تجريبية خارج الحساب الشرعي.وهو فصل على مستوى القيادة والتنظيم ، والمواقف والسياسات ، و الخطاب…
- الفصل في القيادة والتنظيم هام إسلاميا .. فدخول الدعوة على خط السلطة والتنافس عليها مفسد لكليهما ،وهذا سبب عزوف الكثير من الأئمة الأقدمين في بناء علاقات مع السلطان حتى لو كان صالحا .. غير نصح من حين لآخر في عموميات وحقوق للرعية وقطعيات الديانة.. صحيح أن بعضهم كذلك كان له اجتهاد في بناء صلات عضوية (كالذهبي) ولكن العرف العام كما ذكرت..
- أما الفصل على مستوى المواقف والسياسات فهو أوضح شرعيا، ويظهر في تمييز الأصوليين بين دائرة الفتوى ودائرة الإمامة والسياسة. نراجع مثلا موقف النبي الكريم مع الحباب بن المنذر مرتين حين استفسر منه (أمنزل أنزلكه الله أم هي الرأي والحرب والمكيدة ، فلما أجاب صلى الله عليه وسلم بالثانية .. قال الحباب: ليس هذا برأي) ، ونراجع ماخطه الإمام القرافي في: الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام ، وتوافق عليه جمهور الأصوليين.
و حين نأتي للبرمجة فهناك خيارات واسعة سواء في النظرة الشرعية للعديد من المسائل الاقتصادية والسياسية ، أو النظرة التجريبية وهي الأغلب، وتجبيس المشروع الدعوي الشامل في خيارت ضيقة على المستوى الشرعي أو التجريبي يعزلها عن القطاعات التي لاترضى بهذه الخيارات أولا ؛ ولذلك فلم تفرض جماعة الإخوان مذهبية فقهية بعينها . فكيف تفرض مذهب اقتصادي إسلامي بعينه يتجه لليمين أو لليسار؟ أو تصورا لشكل الدولة وطبائع العلاقات داخلها مثلا؟ أو خيارات استراتيجية تتباين إزاء ملفات السياسية الخارجية والأمن القومي؟
والأخطر أن في ذلك تهديدا على مدى تقبل المشروع الإسلامي بأبعاده القيمية والعقائدية وحتى السياسية العامة ، لأنك تدخل المشروع الدعوي وترهنه بمسائل قد تفشل أو تفلح في التطبيق.
وقديما أنكر الإمام أبو حامد الغزالي على من احتجوا بفهمهم لحديث الكسوف على قوانين الطبيعيين بقوله: من يظن أن الناظرة في هذا من الدين ، فقد جنى على الدين وضعّف أمره ؛ لأن هذه الأمور تقوم عليها أدلة حسابية لايبقى معها ريبة ، ثم يقول (وأعظم مايفرح به الملاحدة أن يصرّح ناصر الشرع بأن هذا – يعني التفسير العلمي للكسوف – وأمثاله على خلاف الشرع ؛ فيسهل عليهم إبطال الشرع ، إن كان أمثاله شرط ذلك).
وفي صحيح مسلم عن طلحة رضي الله عنه قال: مررت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم على رءوس النخل فقال: "ما يصنع هؤلاء؟" فقالوا: يلقحونه، يجعلون الذكر في الأنثى فيلقح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أظن يغني ذلك شيئاً" قال: فأُخبروا بذلك فتركوه، فأُخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: "إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإني إنما ظننت ظناً، فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئاً فخذوا به، فإني لن أكذب على الله عز وجل. "
والنبي صلى الله عليه وسلم لايقاس عليه في حالة الجمع بين البلاغ والإمامة لأنه نبي مكلف ، فضلا أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان في غاية الحرص على التمييز بين هذه الدوائر المختلفة ، ولكن التجربة الإسلامية التاريخية والمعاصرة .. وحتى القريبة – تشي أننا أمام مشكلة كبيرة في التدخل غير الحميد وحتى القاصد لمصالح فئوية وسياسية ؛ فتجد فتوى بوجوب الدخول في الانتخابات كخيار سياسي، أو فتوى بالمشاركة في الاستفتاء وقول نعم ، أو في وجوب العصيان المدني أو تحريمه ، أو في شرعنة تدخل عسكري أجنبي لدولة عربية ، أو في شرعنة نظام سياسي مستبد وتابع وفاسد ..
وكل هذه الأمور إما أنها تخضع لنظر سياسي واستراتيجي لاتتدخل فيه الفتوى أصلا ، أو تخالف النظر الشرعي والسياسي معا. صحيح – لو ظهرت أمور توافق النظر السياسي عليها وارتبطت بقطعيات شرعية كدفع طاغية أو جهاد محتل ، فيمكن للفقيه الاعتماد على هذا في طرح فتوى ، ولكن في أغلب مسائل السياق التنافسي .. ليس فقط أن الأنظار تتعدد سياسيا ولكن هناك شبهة استخدام الفتوى لتمرير مصلحة حزبية. وكما أشرنا في الحلقة السابقة ، أن الخطاب الديني الثوري أيام الثورة الأولى لم يكن مستفزا للقوى السياسية لأنه كان معتمدا على مصالح وهموم.
ولهذا - فلاينبغي للفقيه والداعية أن يتدخلا في السياسات التفصيلية – خصوصا التنافسية - والتي تكون في غالبها تجريبية (من مسائل الإمامة والنظر الدنيوي) .. ولكن أن يرفعوا أصواتهم في حالة محددة وهي أن (يروا) مخالفة أي من هذه السياسات للقطعي الشرعي.
- وهذا يدخلنا إلى الفرق بين الخطاب الدعوي والخطاب الحزبي السلطوي. الخطاب الدعوي حين يتعامل مع مسائل الشريعة يبينها بشكل واضح ومنسجم مع أولويات الخطاب وخصائصه اللغوية والشرعية. أما الخطاب الحزبي فحتى لو أحب أن يوصف نفس المسألة فلابد أن يتعامل معها بخطاب مختلف يراعي التنوع السياسي والعقائدي داخل محيط الوطن. وهذا بدأت الأحزاب الإسلامية – حتى السلفية – التطور في هذه المسألة.
فالخطاب الدعوي هو كاشف عن النظر الشرعي أولا ، ثم هو يعبر عن الحالة المجتمعية ثانيا ، وإذا اندمج الحزب مع الجماعة الدعوية ألزم أحدهما الآخر – دائما مايكون مقتضي النظر الحزبي حتى لو خرج من الجماعة – بخياراته ، وهذا مفسد لكليهما.. هو مفسد للحالة الشرعية بالطبع لأنه يدجنها في خيارات الحزب ، ويقلل من الحس المجتمعي الناهض ، وهذا بدوره يفقد حتى الحزبي في مقام السلطة أوراقا تفاوضية مع الخارج معتمدا فيها على التصعيد الشعبي.
ومن هنا يظهر أن الفصل بين العمل الحزبي والدعوي هو بديهية ديمقراطية يجب على التيارات الإسلامية الالتزام السياسي والقانوني بها – مادامت لاتخالف القطعي الشرعي ، وأنها تتماهى مع المنظور الشرعي والحس الرسالي من صيانة الحالة الدعوية والشرعية وفي نفس الوقت تمديد دورهما في حماية القطعي الشرعي وتفعيله شعبيا وكضغط سياسي في مسائل الدين والسياسة والاقتصاد.
—----------------------—
الحلقة الثالثة نخصصها لتناول "تصور التجديد لوظيفة الحركات الإسلامية ورسالتها وما يلي ذلك من الوضع الأمثل لترتيب التمييز بين ماهو دعوي وماهو سياسي وحزبي."
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق