الثلاثاء، 21 فبراير 2012

حسن البنا يكتب عن: المعتقلات الإجبارية والاختيارية


 ويوم خلق الله آدم علمه الأسماء كلها, ففضل بذلك الملائكة, وأمرت بالسجود له, تكريماً لهذا العلم الذى اختصه الله به: “قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إنى أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون” (البقرة: 33).
ولقد امتن الله بهذا العلم والتعليم على الإنسان فى القرآن, فقال: “اقرأ باسم ربك الذى خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذى علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم” (العلق: 1 – 5), كما قال: “الرحمن * علم القرآن * خلق الإنسان * علمه البيان” (الرحمن: 1 – 4).
وأمده بأدوات العلم ووسائله, فوهب له السمع والبصر والفؤاد, وجهزه بالعقل والفكر والإرادة والوجدان, وأضاء جوانب روحه العليا بأنوار الهداية الربانية والإيمان, وجبلها على الهيام بالحقيقة والشوق إلى المعرفة, والحنين إلى ما حجبت عنه من رياض الملأ الأعلى فى سالف الأزمان: “والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون” (النحل: 78).
ثم أمره بعد ذلك كله بأن يبحث وينظر ويدرس ويفكر, وأوجب عليه ألا يعطل مواهب الله التى وهبها له, فالعقل والفكر سر الأمانة ومناط التكليف, ومظهر التفاضل بين بنى الإنسان, وقد تكرر ذكره والإشارة إليه فى أكثر من أربعين موضعاً فى القرآن: “إن فى خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التى تجرى فى البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماءٍ فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون” (البقرة: 164).
ولقد ابتلى العقل الإنسانى منذ وجد بمعتقلات إجبارية, حجبت عنه النور, ومنعته الإدراك والظهور, وكان أولها ما ورث من خرافات بائدة وعقائد فاسدة, حالت بينه وبين إدراك الحقائق على وجهها, والتسليم لأهلها: “وكذلك ما أرسلنا من قبلك فى قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون * قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون * فانتقمنا منهم فانظر كيف كان عاقبة المكذبين” (الزخرف: 23 – 25).
ما كانت البيئة الفاسدة, والتقاليد الزائفة, وشياطين الأصدقاء والخلان, ووسوسة الشيطان معتقلاً آخر يحول بينه وبين الهداية ويسلك به سبيل الضلال والغواية, ويجعله عبد العادات, وأسير المألوقات, وإن جرته فى الدنيا إلى البوار, وفى الآخرة إلى العذاب والدمار: “ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتنى اتخذت مع الرسول سبيلاً * يا ويلتى ليتنى لم أتخذ فلاناً خليلاً * لقد أضلنى عن الذكر بعد إذ جاءنى وكان الشيطان للإنسان خذولاً” (الفرقان: 27 – 29), “وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثاناً مودة بينكم فى الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضاً ومأواكم النار وما لكم من ناصرين” (العنكبوت: 25).
ولا عذر للإنسان فى أن يحبس نفسه فى هذه المعاقل, ويظل أسير هذا المحابس, بل عليه أن يجاهد فى سبيل الخلاص, وأن يتبع الحق متى أشرقت أشعته, وظهرت براهينه وأدلته.
وأعجب من ذلك وأغرب معتقلات اختيارية, يسجن الناس فيها أنفسهم بمحض إرادتهم ويضعون أغلالها المحكمة فى أيديهم وأرجلهم وأعناقهم باختيارهم, ويرون فى ذلك سعادتهم فى دنياهم وآخرتهم.
فرؤساء الأديان الذين يتهجمون على العقول الإنسانية بعقائد ما أنزل الله بها من سلطان, وخرافات لم يقم عليها دليل أو برهان, ولم ترد فى كتاب منزل, ولا جاءت على لسان نبى مرسل, ولكنهم اخترعوها من وحى خيالهم, ونسجوها من أوهام ضلالهم, ثم حصروا الأتباع فى نطاقها, وحجزوها فى حدود رواقها, وحرموا عليهم ما سواها, وحجبوهم عن كل ما عداها, وحالوا بينهم وبين العلم والفهم.. هؤلاء إنما يقيمون معتقلات روحية لأغراض شخصية, عجيب أن يدخلها الناس طائعين, ويسجنوا أنفسهم فيها مختارين.
وهؤلاء الزعماء الذين يستغلون فى الجماهير معانى الثقة والتعظيم, والطاعة والتكريم, فلا يسمحون لهم بإبداء رأى, أو إحالة فكر, ولا يتقبلون منهم المشورة والنصح, بل هم يعتبرون من حدثته نفسه بذلك خارجاً على الزعامة جاحداً لحقوق الإمامة, خائناً تجب مقاطعته, آثماً تتلمس له المعايب, وتصب على رأسه المصائب, هؤلاء الزعماء كذلك سجانون, حكموا على أتباعهم بالاعتقال فى سجون من الوهم شادها التهريج والتدجيل, ودعمها الاستغلال والتضليل, وعجبت أن يقيم الناس فيها مسرورين, ويحشروا أنفسهم فيها راضين:
والجماعات ثنايا الرتقى للمعالى وجسور العابرين
والرؤساء والحكام الذين يحكمون بالقهر, ويكبتون الحرية بالجبر, ويأبون أن يصل بصيص النور إلى أممهم وشعوبهم ورعاياهم, أو يتسرب شعاع العلم والمعرفة إلى دورهم أو مدنهم وقراهم.. سجانون كذلك, حكموا على هذه الشعوب بسجن مؤبد, وإن اتسعت لهم الشوارع والطرقات, وتقلبوا فيها غادين رائحين فى قضاء المصالح والحاجات, لأنهم عن نور العلم محجوبون, ومن لذة المعرفة محرومون.
وعجيب أن تقيم أمة على هذا الضيم أو ترضى جماعة بهذا الهوان, وماذا يبقى للإنسان من إنسانيته, إذا حرم أقدس خصوصيته؟
أيها الناس, إن القرآن الكريم إنما جاء ليخرج الناس من ظلمات هذه المعتقلات, ويحطم عنهم هذه القيود والأغلال حتى ينعموا بنسمات الحرية الروحية والفكرية فى ظلال المعرفة الإلهية الربانية, فأعينوا على هذا التحطيم بالعلم والعمل, واقتحموا الباب على الظالمين المتجبرين “فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا مؤمنين” (المائدة: 23).
ـــــــــــــــــــــــــ
موقع “الإمام حس البنا”, عن “جريدة الإخوان المسلمين اليومية” – السنة الأولى – العدد 111 – ص 1، 4 – 16 شوال 1365 هـ / 12 سبتمبر 1946 م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق