السبت، 11 فبراير 2012

أمن النظام لا الوطن…….إبراهيم الهضيبى


 مرة أخرى تفرض إدانة القتل نفسها على المقالات، إذ لم تزل حوادث قتل المصريين متلاحقة، دالة على فشل الأجهزة القائمة على الحكم فى تحقيق أمن المواطنين، بسبب الإهمال الجسيم إن أفرطنا فى استخدام حسن الظن، وبسبب التواطؤ إن تخلينا عن بعضه، وبينما الشارع يصرخ مرة بعد أخرى مطالبا بالتغيير لا تزال الإرادة السياسية قاصرة عن تنفيذ ما يريد.

قُتِل المواطنون فى بورسعيد فاتجه الغضب لوزارة الداخلية، الذى لم يكن قرار التعبير عنه بمسيرات إليها ومظاهرات أمامها عبثيا، كما لم يكن قرار الهتاف ضد قياداتها السابقة جهلا بتغيرهم، بل كان تعبيرا عن عمق الوعى الجمعى للمصريين، الذين رأوا حكم العسكر فاشلا فى حماية أرواحهم وتحقيق أهداف ثورتهم فهتفوا بسقوطه، وأدركوا أنه يستطيع قمعهم إلا بالشرطة فتجمهروا أمام مقرها الرئيس، ووعوا أن جهاز الشرطة لم يزل منشغلا بتحقيق مصالح القائمين على الحكم عن الاضطلاع بمهمته الدستورية فى السهر على أمن المواطنين فهتفوا ضد القيادات السابقة للداخلية للتأكيد على أن شيئا لم يتغير.

عبر الثوار إذن عن سخطهم على الوزارة الداخلية، ورغبتهم فى تغيير نمط عملها وفلسفته، تماما كما فعلوا فى مايو ويونيو ويوليو وسبتمبر ونوفمبر وديسمبر من العام الماضى، وفى كل مرة سابقة كانت شرارة انطلاق الاحتجاجات اعتداء الشرطة على المواطنين، أو تواطؤها فى الاعتداء بالحياد السلبى، وتم تقديم الموقفين (الإهانة المباشرة للمصريين، أو السكوت عن إهانتهم من قبل الغير) باعتبارهما بديلين وحيدين لعمل الشرطة، وكأن الالتزام بالواجب الدستورى فى حماية أمن المواطنين مع حفظ حقوقهم وكرامتهم غير متاح.

فى كل مرة عبر المصريون عن رغبتهم فى التغيير، وهى الرغبة التى ترجمها الساسة لمطلبين رئيسيين،
  • أولهما التطهير ويعنى عزل القيادات الفاسدة، سواء المحسوبة على النظام السابق والمرتبطة بمصالح مع رموزه، أو المتورطة فى قضايا تتعلق بانتهاك كرامة المصريين، أو أصحاب ملفات الفساد المالى واستغلال النفوذ،
  • وثانيهما إعادة الهيكلة وتعنى إعادة تنظيم إدارات الوزارة وصياغة القوانين المنظمة لها والمناهج التى يتدرب عليها أفرادها بما يضمن التزامهم بالمهنية وبدورهم الدستورى، ويعلى من كفاءتهم، ويحقق لهم العدالة المهنية والاقتصادية التى بها يستطيعون الاضطلاع بوظائفهم على الوجه الأكمل.
وتكرار حوادث القتل والاعتداء على المواطنين من جهة، وموجات الغضب من جهة أخرى يشير بوضوح بأن ما تحقق من هذين المطلبين غير كاف، لا يرتقى للحد الأدنى من الإنجاز الذى يرضى المتظاهرين، وثمة مسلكان لتفسير هذا الفشل، أولهما يعزى لغياب الكفاءة الفنية اللازمة لإنجاح التغيير، وهو منقوض من جهات، أولاها استمرار تستر الوزارة على أسماء الضباط المتورطين فى قتل المتظاهرين وتقاعسها عن إيقاف المتهمين عن العمل وهو ما يثير شكوكا كبيرة تتعلق بالنوايا، وثانيتها رد الوزارة لمبادرات عدة قام بها المجتمع المدنى للمساهمة فى تطوير العمل بها واعتبارها ذلك تدخلا مرفوضا فى شئونها وتوكيدها امتلاك الكفاءات اللازمة للتطوير، وثالثتها امتناعها عن الاستفادة بالمبادرات الجادة الصادرة عن مراكز بحثية وجمعيات حقوقية مختلفة كثمرات لورش عمل شاركت فيها الأطراف المعنية، وامتنعت الوزارة عن المشاركة فى أغلبها فشارك ضباط سابقون.

وأما التفسير الآخر لعدم التغيير فغياب الإرادة، فالمؤسسة الأمنية بتكوينها المُسَيَّس المنحاز للحكام كانت إحدى مؤسسات ثلاث (مع المؤسسة الإعلامية والمؤسسة الحزبية) استند إليها النظام السابق كبديل عن افتقاده الشرعية الديمقراطية، وهى تمثل قلب المؤسسة المقاومة للثورة لسببين، أولهما يتعلق بمصلحة القائمين عليها، وهم يرفضون التغيير كونه يعيد تعريف علاقتهم بالشعب ليجعلهم فى خدمته بعد أن اعتادوا الاستعلاء عليه، وبينهم متورطون فى جرائم متنوعة تمثل فكرة سيادة القانون تهديدا مباشرا لحريتهم، والمؤسسة صارت بفعل السنين مرتبطة لا بأجهزة الحكم تدافع عنها فحسب، وإنما أيضا بالخارج تتبادل معه المعلومات عن الساسة المصريين وتحركاتهم كما أشارت الوثائق المسربة، وهو أمر يقابله ثمن، وثانيهما العقيدة الأمنية المترسخة، والتى جعلت بعض قيادات المؤسسة ــ ومعهم بعض قيادات المؤسسة العسكرية ــ يؤمنون بدور رسالى لمؤسساتهم يجعلهم فوق الديمقراطية والشعب كونهم ــ وفق تصوراتهم ــ أدرى منه بمصالحه وأحكم منه وأحرص على تحقيقها.

وحاصل ذلك أن التغيير لا يمكن يأتى باختيار القائمين على المؤسسة ولا القائمين على الحكم فى مصر أو باقتناعهم، بل لا بد أن يفرض عليهم بقوة الشعب وسيادته، وقد فشلت كل المساعى السابقة لأن الأطراف الثورية لم تكن مشاركة بأى درجة فى السلطة فلم تمتلك قوة الفرض، أما الآن انتخب برلمان وظيفته تمثيل الشعب وإنجاح إرادته، والتعجيل باتخاذ الإجراءات التى من شأنها إرضاء الثائرين، لا العدول عن ذلك إلى مهاجمتهم، والدخول فى محاولات يائسة لإيجاد تعريفات للثوار والبلطجية تميز بينهم وتسقط على كل أحكاما وجزاءات مختلفة، فى حين أن الدستور يجعل المواطنين كافة سواء أمام القانون.

وحزمة الإجراءات الواجب على البرلمان اتخاذها تتضمن إجراءات فورية كسحب الثقة من الحكومة لفشلها الطبى والأمنى والإعلامى فى مجزرة بورسعيد، وتعميم المحاكمات لقتلة الثوار بغير حصانة لأى طرف، ومحاكمة المسئولين عن التقصير، واستصدار تشريعات تتعلق بتنظيم وزارة الداخلية، والإشراف المباشر على إعادة هيكلتها، وإدخال التعديلات التشريعية اللازمة للتطهير الشامل وتنفيذها، وقد بدأ المجلس بالفعل اتخاذ بعض هذه الإجراءات، غير أنه ترك الأكثر مركزية فيها، ولم تصل سرعة إجراءاته للمستوى المطلوب.

وأما الخطأ الأكبر للبرلمان فهو التفاته عن الداخلية للثوار، تارة بتوجيه الاتهامات كما سبق، وتارة بإطلاق مبادرات لتفريقهم أو إبعادهم عن الوزارة، فأما توجيه الاتهامات فقد اعتاده الثوار بعد عام ووجهوا فيه بكل اتهام ممكن، والثمرة الوحيدة لاستمراره هى قطع الصلات بين النواب والثوار، وهو ضار للطرفين، وأما مبادرات التفريق فلن تثمر لأن الثوار غير منتظمين فى هيئات هرمية تمتلك قرارا مركزيا يمكنها تعميمه عليهم، ولن يرهبهم نزيف دمائهم لأن كثرة اقتراب الموت منهم أفقدته عندهم هيبته.

تطهير وإعادة هيكلة الداخلية إحدى المعارك الكبرى للثورة المصرية، كونها تتناول ركنا من الدولة العميقة المصرية، طالما استُخدِم كعصاة لضرب المصريين، وبغير بطش هذه العصا لن يمنع مصرى من ترويج فكره، وبالشرطة المهنية سيكون المجتمع آمنا، ووقتها سيكون الظرف السياسى أكثر ديمقراطية، وسيكون ما فيه من قصور قابل للجبر بآلياتها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق