الأحد، 9 يناير 2011

حسن البنا والفن….. صفحات من تاريخ الاخوان 2/2


عصام تليمة
لماذا اختفت هذه الصفحة من تاريخ البنا المنشور؟:
 الراصد لكل هذه الأدبيات عند البنا ، والمواقف العملية له ، من خلال علاقته بالفن ، يقف مذهولاً أمام سؤال ملحّ : لماذا اختفت هذه الصفحة من تاريخ البنا فلم تنشر ولم تُذكر ، ولم يحكها أحد عنه إلا في أضيق المواقف ؟! وهو أمر مستغرب بشدة من معاصري الرجل ، ولم يحرص حتى جيل السبعينات على إبراز هذه الصفحة والمواقف معاً .
والسبب في تقديري : أن الإخوان بعد خروجهم من السجون في السبعينات ، خرجوا وقد وجدوا صحوة بين شباب الجامعات ، وقد غلب عليها طابع التشدد ، والتشنج ، والرفض .
 أضف إلى أن الإعلام في هذه المرحلة خاصة كان إعلاماً يتسم بالتشدد من هذه المواقف .
 كما غلب على أدبيات حتى هذه المرحلة ما سمي بأدبيات المحنة ، أو أدب السجون .
 إنه خط عام لمرحلة عاشتها الصحوة الإسلامية بأسرها ، وهي مرحلة : أدبيات المحنة ، وفقه محنة ، والتي عاشتها الصحوة في بدايات السبعينات فترة ليست بالقصيرة ، فقد سادت بهذه الفترة في أدبيات الإسلاميين أدبيات المحنة ، وفقه التشدد ، وذلك في كل مجالات الصحوة الإسلامية عموماً ، والحركة الإسلامية خصوصاً ، فعند الحديث عن الدعوة الإسلامية المعاصرة وتاريخها ، نرى التركيز الشديد على ما حدث فـي معتقلات عبد الناصر على التعذيب ، والقتل ، والشنق ، والتنكيل بالدعاة ، في مقابل يمر المتحدث مرور الكرام على إنجازات الحركة ، والتحديات التي تواجهها في المرحلة المقبلة .
 كما سادت لهجة التهييج الإعلامي وخط التشدد في مجلات الصحوة ، كمجلة ( الدعوة ) ومجلـة ( الاعتصام )، إذ نراها تصب جام غضبها عند تناولها للرموز الدينيـة عندمـا تبرز أي نقطة ضعف فــي حياة أحدهم ، فنرى مجلة ( الاعتصام ) تمطر الشيخ محمود خليل الحصري رحمه الله شيخ المقارئ المصرية بوابل من الهجوم ، والسـبب في ذلك : هو اتجاه ابنته ( إفراج الحصري ) ياسمين الخيام للغناء ، رغم أن الرجل لا ذنب له في ذلك ، كما أنها لم تكن تغني غناءً فاحشاً ، بل جل غنائها ـ إن لم يكن كله ـ غناء وطني وإسلامي ، مما أباحه عدد كبير من العلماء .
 وكذلك رأينا مسارعة الشيخ محمد الطوخي ـ المنشد الديني المعروف ـ في نفي علاقته بالممثلة إيمان الطوخي وأنه ليست ابنته ، مخافة أن يلحقه أذى من بعض الأقلام التي تتصيد ذلك ، وقد شاع بين الناس ـ بسبب تشابه الاسم ـ أنها ابنته ، فاضطر إلى نشر تكذيب أنها ابنته في مجلة ( الاعتصام ) .
 وخرجت مجلة ( الدعوة ) رغم اعتدال ولين جانب الأستاذ عمر التلمساني رحمه الله وهو المشرف عليها ، إلا أنها نحت هذا المنحى في بعض أعدادها ، فقد ذهب الأستاذ محمد عبد القدوس للشيخ محمد متولي الشعراوي رحمه الله ، لإجراء مقابلة معه ، فرفض الشيخ لقاءه بوصفه مندوباً من قبل مجلة ( الدعوة ) ، فخرج عدد المجلة وعلى الغلاف عنوان عريض : لقاء عاصف مع الشيخ الشعراوي ، وفي داخل العدد لم يحل للمجلة أن تنشر صورة للشيخ الشعراوي إلا صورته وفي يده سيجارة يدخنها !!
 حتى في أفراح وأعراس الإسلاميين آنذاك ، كانت الأناشيد والأهازيج التي تنشد كلها أناشيد خرجت من مشكاة أدبيات المحنة ، ولا تراعي المقام الذي تقال فيه ، فنجد من الأناشيد التي تنشد في الأعراس :
تدلّت الحبال لتشنق الرجال !
أو نشيد :
جاهـدْ فـي الله أُخَيّ …… جاهـدْ  إن  كنت  تقياً
تمـلك  آفاق  الدنيـا …… وتلاقــي  الله  رضيا
جُد بالمـال وبالنفـسِ …… إن تطمع في الفردوس
فهنالك أجمـل عرس ……. بالمؤمـن  والحوريـة
 فأي كلام هذا الذي يقال لعروس يزفّ لعروسه ؟ وما دخل عبارات الجهاد والمشانق بالزواج ؟ وأين هذا من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة وقد سألته ماذا تقول في الأعراس ، فقال لها : قولي :
أتينـاكم  أتينـاكـم ….. فحيونـا نحييكـم
ولولا الحنطة السمرا ….. ما سمنت عذاريكم
 هذا عند المتدينين الذين يقبلون بالإنشاد في الأعراس ، فما بالنا بمن يرفضون الإنشاد من أساسـه ؟ ولا يرون العرس يقام إلا بمحاضرات دينية وطعام ، ثم ينفض العرس ، وهذا هو حفل العروسين !!
 إنها إذاً أدبيات مرحلة هيمنت عليها البيئة التي عاشها الدعاة آنذاك ، وظلّت لفترة ليست بالقصيرة تهيمن على أدبيات وفقه وسلوك أبناء الصحوة .
 كل هذه العوامل كانت عائقاً أمام مَن يتكلمون عن البنا وتاريخه من ذكر هذه الصفحة ، وغيرها من صفحات أخرى يتوجس المحبون للبنا خيفة من ذكرها ، بل أحياناً يغالون في نفيها !!
 خصائص الفن عند البنا :
 لقد امتازت تجربة البنا والفن ، والفن بوجه عام عند البنا بعدة خصائص تبيّن ملامح هذا المشروع الفني ، وتبيّن الميزات التي امتاز بها ، وهي بإجمال :
 1 ـ فن ملتزم :
 فقد امتاز الفن عند البنا بأنه فن ينطلق في دائرة الالتزام ، ولا يُحيد عنها ، فله أخلاقيات ومبادئ يسير في إطارها ، فلا يُستدرج لمحرم حتى ولو كان مما يُعجب الجمهور ويجذبه ، كما في كثير من وسائل الفن غير المنضبط بضوابط الشرع ، ولذلك لما هاجم أحد المتدينين مسرحية عن ( الذبيح إسماعيل ) عليه السلام ، وأشاع أنهم أتوا محرّماً في ذلك ، ومثّلوا شخصية جبريل عليه السلام ، ولم يكن البنا قد شاهد المسرحية ، فأوقفها البنا إلى أن يتبيّن مـن ذلك جيداً ، وقال : نتوقف سداً للذريعة .
 2 ـ فن منفتح :
 كما امتازت تجربة البنا في الفن بالانفتاح ، سواء في الانفتاح من حيث تكوين الفرقة ، أو من حيث عرض الموضوعات ، فلم يُصر على أن يكون أعضاء الفرقة من تنظيم جماعة الإخوان فقط ، أو من المسلمين فقط ، بل رأينا عدداً من فرقته ليست له علاقة تنظيمية بالإخوان ، واستعان بالعنصر النسائي أيضاً ، واستعان بغير المسلمين في العمل المسرحي والدعاية .
 وكان منفتحاً في موضوعاته التي تناولها وأدّها ، فلم يقف موقف التضييق من قضايا يجد فيها الإسلاميون اليوم حرجاً شديداً في طرحها ، بل إنكاراً ، فرأينا أول مسرحية للإخوان يقدمونها على مسرحهم ( جميل بثينة ) وهي مسرحية رومانسية تتكلم عن الحب العذري العفيف .
 3 ـ فن واقعي :
 فهو فن لم يحلّق بالناس في أجواء خيالية لا تمت إلى واقعهم بصلة ، فلم يأتش لهم بقصص أو مسرحيات بعيدة عن واقعهم ، وإن استلهم معظمه من التاريخ الإسلامي والعربي ، فعالج قضايا الحب والعروبة والوطنية ، من خلال المسرحيات التي قدمها مسرح الإخوان المسلمين .
 4 ـ فن يجمع بين الأصالة والمعاصرة :
 فهو يجمع بين أصالة الفكر والمنطلق ، وبين معاصرة الوسائل والأدوات ، لم يقف عند حدود القديم ، مهملاً الحديث ومستجداته ، فيكون بذلك خطاباً محنطاً جُلب لزمان لا يصلح له .
 

 

عوامل نجاح تجربة البنا في الفن :

 
لقد حالف النجاح تجربة البنا في الفن ، لعدة عوامل ساعدت على هذا النجاح ، ينبغي دراستها :
1 ـ اعتماده على مبدأ إنسانية الفن :
من أولة العوامل التي ساعدت على نجاح تجربة الإمام البنا في الفن ، أنه تبنى مبدأ هاماً في تناول الفن والتعامل معه ، وهو مبدأ اعتماد إنسانية الفن في الحكم على الفن من حيث إسلاميته ، وهو ما تبناه نظرياً وكتابة فيما بعد الأستاذ محمد قطب حفظه الله ولكن في مجال الأدب ، فتبنى مبدأ إنسانية الأدب ( 1 ) ، وقد سبقه إلى ذلك الأستاذ البنا في الفن ، فتبنى المبدأ عملياً ، ويبدو أنه ساقه إلى ذلك تنظير علمي ، وإن لم يترجم إلى كتابة في كتابات الأستاذ البنا ، فقد حاولت البحث في كل تراث الإمام البنا المجموع منه وغير المجموع كي أعثر على نص في هذا المقام فلم أجد ، ولكني وجدته في تطبيقه العملي في تجربته ، وأعني بأن الإمام البنا تبنى مبدأ إنسانية الفن ، أي أنه وضع أهدافاً للفن الإسلامي ، وأن هذا الهدف إذا تحقق ـ ولو على يد من لا يؤمنون بقضية الفن الإسلامي ـ أن نعتبر هذا الفن معبّراً عن الفن الإسلامي .
 وقد تأملت في هذا التوجه عند الأسـتاذ البنا ، فألفيته منهجاً إسلامياً بلا شك ، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحكم على المبادئ والمفاهيم والثقافات من حيث أهدافها ونفعها ، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم عن شعر أمية بن أبي الصلت الشاعر الذي مات كافراً : " آمن شعره ، وكفر قلبه " ( 2 ) .
 وقال رسـول الله صلى الله عليه وسـلم : " ثم أصدق كلمة قالها شـاعر كلمة لبيد : ألا كـل شـيء ما خـلا الله باطل . وكاد أمية بن أبـي الصلت أن يُسلم " ( 3 ) .
 قال الإمام المناوي : ( وكاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم ، لكنه لو يوّفق بالإسلام مع قرب مشربه ) ( 4 ) .
 وعن الشريد بن سويد الثقفي رضي الله عنه قال : " ردفت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فقال : هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شيئاً ؟ قلت : نعم ، قال : هيه . فأنشدته بيتاً ، فقال : هيه . ثم أنشدته بيتاً . فقال : هيه . حتى أنشدته مائة بيت . قال : إن كاد ليسلم " ( 5 ) .
 قال الإمام النووي : ( مقصود الحديث : أن النبي صلى الله عليه وسلم استحسن شعر أمية واستزاد من إنشاده ، لِما فيه من الإقرار بالوحدانية والبعث ، ففيه جواز إنشاد الشعر الذي لا فحش فيه وسـماعه ، سواء شعر الجاهلية وغيرهم ) ( 6 ) .
 فالنبي صلى الله عليه وسلم حكم على شعره بالإسلام ، وإن لم يؤمن قلبه ، وكان يستنشد صحابته ويستزيدهم من شعره ، رغم كفر الرجل .
 كما حكم النبي صلى الله عليه وسلم بإسلامية مبدأ وهدف حلف الفضول الذي عُقد في بيت عبد الله بن جدعان ، قبل بعثته صلى الله عليه وسلم ، وهو حلف لنصرة المظلوم ، فقال عنه النبي صلى الله عليه وسلم : " لقد شهدت مع عمومتي حلفاً في دار عبد الله بن جدعان ما أحب أن لي به حمر النعم ، ولو دُعيت به في الإسلام لأجبت " ( 7 ) .
 2 ـ تبنّيه فقه التيسير :
 كما سـاعد الإمام البنا في تجربته الفنية أنه تبنى فقه التيسير في قضايا الفن ، فإن فقه التيسير كفيل باستمرارية الفن ، أما فقه التشدد فلا يمكن أن ينشأ فن في ظلاله أبداً ، وأحب أن أوضح أمراً مهماً هنا حتى لا نفهم قضية التيسير عند البنا خطأ ، وهو : أن ما أعنيه بالتيسير هنا عند البنا : ليس التهاون أو التفريط ، أو التساهل والتجاوز لأوامر الله ونصوص شريعته ، فما يعقل أن يفعل ذلك البنا ولا عالم يخشى الله سبحانه وتعالى ، وإنما الذي أعنيه بالتيسير : هو الميل في الفتاوى والآراء إلى الأيسر ، وذلك يكون إذا كانت المسألة محل رأي واجتهاد واختلاف ، أو كان فيها نص محتمل ، وإذا تساوت أدلة الجواز والمنع ، وهو في ذلك لا يخالف الشريعة ، بل هو ملتزم بروحها ونصها ومقاصدها ، وهو ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه والمسلمين جميعاً فقال : " يسّروا ولا تُعسّروا ، وبشّروا ولا تُنفّروا " ( 8 ) . وهو منهج النبي صلى الله عليه وسلم الذي " ما خُيّر بين امرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً " ( 9 ) .
 كما يعضد ذلك أيضاً عدة أحاديث منها : قول الرسـول صلى الله عليه وسلم : " إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه " ( 10 ) .
 وقولــه : " إن الله يحب أن تؤتـى رخصه ، كما يكره أن تؤتـى معصيته " ( 11 ) .
 وقوله صلى الله عليه وسلم : " إن الله يحب أن تُقبل رخصه كما يحب أن تؤتى فريضته " ( 12 ) .
 وسار الصحابة والتابعون على هذا النهج النبوي ، يقول ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما : إن الله يحب أن تؤتى مياسره ، كما يحب أن تؤتى عزائمه .
 وقال إبراهيم التيمي : إن الله يحب أن تؤتى مياسره ، كما يحب أن تطاع عزائمه .
 وقال عطاء : إذا تنازعك أمران فاحمل المسلمين على أيسرهما ( 13 ) .
 وقال الشعبي : ما خُيّر رجل بين أمرين فاختار أيسرهما ، إلا كان ذلك أحبهما إلى الله تعالى .
 فالبنا لم يكن بِدْعاً أن تبنى فقه التيسير في قضية الفن ، وذلك لتسيير عجلة الفن ، فلو أن البنا ـ مثلاً ـ وقف عند قضايا الفن متبنياً الرأي الأشد في القضية المطروحة لما أنشأ فناً ولما اقترب منه سواء منشئاً أو حتى مشاهداً له ، فلو استعرضنا القضايا المثارة فقهياً في مسألة الفن وتبنّينا فيها قضية التشديد بديلاً عن التيسير ، فلَكَم أن تتخيلوا أنه لا فن أساساً ، وهذه بعض القضايا المثارة في الفن من حيث وسائله : استخدام الآلات الموسيقية ، فسنرى فتاوى تبرز عندئذ بحكم استخدام الآلات الموسيقية ، وأنها محرّمة ، ثم إذا كانت هذه الآلات حلالاً ، أو كان منها ما هو حلال شرعاً ، فمن يستخدم هذه الآلات ؟ إنهم لا يُجيزون ذلك إلا للمرأة ، ثم يتفرع عن ذلك قضية أخرى : لمن تضرب المرأة بالدف أو آلة الموسيقى التي تباح عندهم ؟ إنها لا بد من استخدامها ذلك لسيدها ، أو لزوجها ومحارمها فقط ، حيث إنهم لا يُجيزون للرجل استخدام ضرب الدف ، فضلاً عن الآلات التي يُحرمون استخدامها بداية .
 ثم الانتقال إلى قضية ثانية ، وهي : من يعمل بالفن وما حكمه ؟ إن العمل بالفن ـ عند الرأي المتشدد ـ فيه حرج شرعي ، وهو أنه خارم للمروءة ، وبذا تسقط شهادة من يعمل بالفن ، وتجرح في عدالة شخصيته .
 ثم تأتي قضية شرعية ثالثة تُثار ، حتى لو أجاز القائلون بالنهي عن استخدام الآلات ، والعمل بالفن ، فهم يثيرون قضية أخرى ، وهي : لو كان العمل بالفن جائزاً فلا يجوز أن يكون الفن مهنة يأخذ عليها الإنسان أجراً .
 ثم إن اشتراك المرأة في الفن لا يجوز ، لأنه اختلاط ، والاختلاط مذموم ومحرم شرعاً ، غير مفرقين بين ما هو من باب الاشتراك الجائز وبين ما هو محرم لما يجلبه من مفاسد خلقية . وكذلك فإن صوت المرأة عورة ، فلا ينبغي لها أن تبرز صوتها ، فضلاً عن أنها تمثّل أو تغني .
 وهكذا عدة قضايا فقهية تثار ، لو أن البنا وقف عند هذا الجدل الطويل الذي لا يقتنع فريق برأي الفريق الآخر ، لما تحرك تجاه العمل ، ولما ظهرت لعمله ثمرة ، بل إن الإمام البنا رحمه الله تخطى كل هـذا بتبنيه فقه التيسير في الفن ، والأخذ بأيسر الآراء في ذلك .
 3 ـ عامل بيئي :
 والحق إن أهم عامل ساعد البنا في ذلك هـو طبيعة المجتمع المصري آنذاك ، ولم يكن في عهده من يشوّش على مسيرته الفنية تشويشاً يعيقه بصورة شديدة كما هو الآن ، فأكبر الأمور التي ممكن تحدث وقتها أن يهاجمه كاتب في مقال وينتهي عند هذا الحد ، وليس كما نرى الآن تجهّز ترسانة علمية من الكتب والمقالات والمجلات والمنشورات والفضائيات ضد من يخالف بعض التوجهات في رأي فقهي ، فلو قارنا ذلك ـ مثلاً ـ في حياة البنا الدعوية بفتوى واحدة للشيخ يوسف القرضاوي الذي قامت الدنيا وما قعدت لرأي ذكره يجيز فيه عمل المرأة بالتمثيل الذي وضع له شروطاً تضبط الأمر ، كأن يكون اشتراكها ضرورياً ، وأن تظهر بلباس الإسلام ، ولا تضع المساحيق ، وأن يراعي المخرج والمصوّر عدم إبراز مفاتنها والتركيز عليها في التصوير ، فقام عدد من كتّاب الدعوة السلفية بمخالفته ومهاجمته كتابةً ، بل ومن كتّاب الإخوان كذلك ، وأفردت مجلة ( المجتمع ) الكويتية أعداداً لذلك ( 14 ) .
 فالبيئة العلمية والدعوية في عهد الأستاذ البنا نراها قد سبقت سبقاً هاماً في التطور الفكري ، بدأ هذا التطور في الانحسار فيما بعد ، فمثلاً مما تستهجنه الساحة العلمية والدعوية الكتابة عن الأحياء ، والإشادة بجهودهم ، ومدحهم والثناء عليهم بما يستحقون ، ولكن على عهد البنا كانت البيئة تسمح بذلك وتتقبله ، كما رأينا من كتابات كتبت عن البنا في حياته ، ككتاب ( روح وريحان ) للأستاذ أحمد أنس الحجاجي ، وكتابة الأستاذ محب الدين الخطيب عن البنا في مجلة ( الفتح ) مقالاً كاملاً عنه بمناسبة مرور عشرين عاماً على دعوة الإخوان ، وكتابته كذلك يشيد بالكاتبين الشابين : الأستاذ محمد الغزالي والأستاذ سيد قطب .
 هذا نموذج أردت أن أضربه لأبين للقارئ كيف كانت بيئة البنا ومناخه العلمي آنذاك من العوامل المساعدة لذلك ، وهو ما انتفى عن طبيعة المناخ العلمي والدعوي فيما بعد .
 كما أن الزمن وقتها كان يسمح بالفن الملتزم ، ولا يرى حرجاً من ذلك ، كما رأينا من وضع البنا برنامجاً لأي ضيف يأتي مصر من الخارج أو يصحب الضيف إلى الأوبرا ، وقد حكى ذلك عنه أحد سكرتاريته الحاج محمود أو رية ، وقد ذكر أنهم ذهبوا مرة بأحد الضيوف ، ولم يجدوا عدداً من التذاكر يكفي لدخول الجميع ، فطلب منهم الأستاذ البنا أن يدخلوا ويصحبوا معهم الضيف ، وانتظرهم في مكان آخر إلى نهاية العرض ( 15 ) .
 كما كان يذهب للأوبرا في هـذا الوقت أيضاً عدد من علماء الأزهر المبجلين ، وكانوا يقيمون علاقات بالفنانين من أصحاب الفن المحتشم ، كالشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الأزهر الذي ذهب إلى الأوبرا وحضر فيها بعض الاحتفاليات ، والغريب أن الشيخ المراغي ذهب للأوبرا في الثلاثينات من القرن الماضي ، ولم ينتقد هذا الصنيع أحد من علماء عصره ، ثم جاءت مرحلة الثمانينات لتكتب مجلة ( التوحيد ) التي تصدر عن جماعة أنصار السنة بمصر لتنبش في ماضي الرجل كاتبة هجوماً حاداً عليه ، جاعلة عنوان المقال : عمائم في الأوبرا !!! ما اضطر ابنه الدكتور إسماعيل المراغي أن يكتب توضيحاً في الفرق بين أوبرا الماضي وأوبرا الحاضر ، وأن أوبرا الماضي كانت تراعي البيئة والالتزام فيها ، فكانت تقدم فناً غير مسفٍّ .
 وهناك أيضاً الشيخ مصطفى عبد الرزاق شيخ الأزهر ، المعروف بعلاقته بالفنانين ، وعلى رأسهم محمد عبد الوهاب وأم كلثوم ( 16 ) .
 كما كان بين الفنانين من يحمل لقب شـيخ ، ويباهي به ، ولا يجد حرجاً فيه ، ولا تستنكف الطبقة الفنية من ذلك ، ولا تلفظه وترفضه ، كالشيخ سلامة حجازي ، والشيخ زكريا أحمد ، والشيخ إمام عيسى ، إلى آخر مطرب من طبقة المشايخ الشيخ سيد مكاوي ( 17 ) .
 هذه البيئة وهذا المناخ لا شك كان له عامل كبير في نجاح تجربة البنا رحمه الله في الفن .
 4 ـ اعتماده على المختصين :
 وقد ساعد البنا في نجاح تجربته الفنية ، أنه ارتكز بشكل أساسي على المختصين في هذا الفن ، فقد اعتمد على مختصين في كل شق فني ، بداية بالكتابة المسرحية ، فلم يأتِ بأي كاتب هاوٍ للكتابة الأدبية ، بل كتب معظم مسرحيات مسرح الإخوان آنذاك الأستاذ عبد الرحمن البنا شقيق الأستاذ البنا ، وهو أديب مطبوع ، وكاتب مسرحي معروف بهذا التوجّه ( 18 ) .
 كما اعتمد البنا على مختصين في أداء المسرحيات الفنية ، فقد رأينا أعضاء فرقته ـ فيما بعد ـ من عمالقة الفن العربي ، وقد ذكرنا عدداً كبيراً من أسمائهم من قبل .
 بل حتى في دعايته للمسرحيات ، كان الأستاذ البنا يعتمد في ذلك على المختصين ، ويقوم بالدعاية الكافية لذلك ، التي تجلب الجمهور لمشـاهدة فن فرقته .
 5 ـ تبني قضية الفن جماعياً :
 ومن عوامل نجاح تجربة البنا فنياً أنه تبنى قضية الفن ، وجعل منها قضية أولاها اهتماماً ورعاية وعناية ، فقد كان الأستاذ البنا رغم أنه أوكل إدارة أمر الفرقة المسرحية لأخيه الأستاذ عبد الرحمن البنا ، إلا إنه دعا لإنشاء فرق في معظم شـعب الإخوان ، وتمرين طلاب الثانوية والجامعة علـى التمثيل المسرحي ( 19 ) ، بل كان البنا يحضر بنفسـه البروفات والإعـداد للمسـرحيات ( 20 ) ، ويولي ذلك اهتماماً كبيراً . وكان العمل الفني عند البنا أشبه ما يكون بالعمل المؤسسي والمختص ، لا من باب الهواية ، أو على هامش الحياة . وهذا هو الفارق بين مسرح البنا ومسرح الإسلاميين بعد البنا .
 

 

لماذا أخفقت التجربة الفنية بعد البنا ؟

 
بقي أن ندرس هنا أمراً مهماً ، وهو : إذا نجحت التجربة الفنية في عهد الأستاذ البنا بهذا النجاح المتميز ، فلماذا لم تستمر التجربة بعده وأخفقت فيما بعد ، بل واختفى الفن في جماعة الإخوان المسلمين إلى فترات ليست بالقصيرة حتى بعد خروجهم من السجون في بداية السبعينات ، وحتى محاولاتهم الفنية التي تلت مرحلة السبعينات لا تعدو محاولة الهواة ، وليس العمل الحرفي ، وإن كان هناك تقدم ملموس في هذه الآونة في الفن عند الإسلاميين ، أما عن أهم الأسباب التي أدت إلى إخفاق التجربة بعد الأستاذ البنا ، فهي :
أولاً : تأثر الخطاب الإخواني بالخطاب السلفي :
فالخطاب الإخواني بعد حسن البنا تأثر تأثراً واضحاً بالخطاب السلفي ـ وخاصة التيار السلفي المتشدد ـ وساعد في ذلك أمران :
 1ـ سفر عدد من علماء ومفكري الإخوان إلى الخليج ، وتأثرهم بهذا الجو العلمي ، فنضح على كتابتهم وأفكارهم .
 2ـ انتعاش البلاد التي تتبنى المنهج السلفي انتعاشاً اقتصادياً ، مما جعل حركة توزيع الكتب المجانية التي تتدعو للمنهج السلفي تغزو البلاد التي كانت في حالة خصام مع هذا المنهج كمصر وبلاد الشام وبلاد المغرب العربي ، مما صنع هذه الأرضية لهذا الفكر . وهو أمر نلمسـه فـي كتابات عدد من مفكري الإخوان ، حتى المعتدلين منهم ، فلا أدري لماذا الإصرار عند عدد من كتّاب الجماعة عند تناول كثير من القضايا العلمية الشائكة التي بين الإخوان والسلفيين ، يحاول الكثير منهم الوصول لنصٍ لابن تيمية ، كي تسكت الأصوات المعترضة ، ومن هؤلاء مَن لهم ثقل لكلامه بدون حتى الاستشهاد بأحد ، ولا أريد أن أذكر مؤلفين بعينهم ، ولا مؤلفات بعينها . وليس معنى كلامي أني أبخسهم حقهم ، بل أعجب من تنامي هذه الظاهرة عند كتّاب ومنظري الإخوان .
 فالصواب : أن يكتب المفكر أو العالم ما يكتب ، مستدلاً على ذلك بالكتاب والسنة ، فهما الأصلان اللذان لا يختلف عليهما أحد ، ولا ينبغي أن يعتمد على غيرهما وسيلة للإقناع ، ومن لم يقتنع بالكتاب والسـنة ، فلا يبالي به صدقه أم كذبه ، كائناً من كان ، اقتنع بفكره أم لم يقتنع .
 إنني أقدر عبقرية وعلم وجهاد شيخ الإسلام ابن تيمية ، ولكني لست مع هذه الهالة من التقديس لكلام الرجل ، وهو نفسه رحمه الله كان ضد هذا الكلام ، أو أن نعطي لكلام ابن تيمية قوة تعادل قوة النص الشرعي ، بل أعلى منه ، فهذا هو الخطأ وما لا يُقبل بحال من الأحوال ، ولا نريد بذلك ترضية فريق على حساب الحقيقة العلمية والدليل الشرعي .
ثانياً : انتشار مبدأ سد الذرائع :
 كما انتشـر بين أبناء الحركة الإسـلامية مبدأ: سـد الذرائع، علـى مبدأ (الأصل في الأشياء الإباحة إلا إذا أتى نص يدل على التحريم) أو بالمعنى العامي طغى مبدأ ( الباب اللي يجي لك منه الريح سـده واسـتريح ) علـى مبدأ ( المبادرة والجرأة في التجريب ) أي إغلاق باب المباح ، بدلاً من فتحه ، وذلك خوفاً من أن يفتح بذلك باب للهجوم على الدعوة من خصومها ، ولو كان ذلك على حساب ترك المباح ، أو المختلف فيه ، وما أباحه عدد من العلماء .
ثالثاً : بعض حوادث العنف التي مارسها التنظيم الخاص :
 والعامل الثالث ، وهو : كم حوادث العنف والقتل التي مارسها التنظيم الخاص من خلف ظهر الأستاذ البنا ، وضد أهداف الدعوة ، بل وضد مصالحتها ، فقد أفقدت بعض أعمال التنظيم الخاص ـ غير المبررة وغير المسؤولة ـ أهم مساحتين في الدعوة العامة بين الناس والصفوة كذلك ، وهما : فئة الفنانين ، وفئة المثقفين ، فقد توقف هذا المشروع الفني العملاق , الذي لو قدر له الاستمرار لكان للدعوة بين الجماهير شأن آخر . وكذلك كانت هذه الأحداث المؤسفة سبباً في قيام عدد مـن المثقفين الذين كانت علاقتهم بالإخوان علاقة ود وصداقة , ومحبة وتأييد ، إلى علاقة عداء وحرب ، وكانوا خنجراً في ظهر الإخوان وأفكارهم ، فقد صدر أخطر كتاب يهاجم الفكرة الإسـلامية ـ والإخوانية خاصة ـ فـي أهم ركن فيها ، وهـي أن الإسـلام دين ودولة ، فخرج كتاب الأسـتاذ خالد محمد خالد ( من هنا نبدأ ) الذي أنكر فيه أن للإسلام دولة ، وبين أنه دين فقط ، وليس ديناً ودولة ، ولما عاد الأستاذ خالد عن فكرته هذه ، وبيّن خطأ فكرته القديمة ، بعد اعترافه في كتابه الجديد ( الدولة في الإسلام ) أن الإسلام دين ودولة ، بيّن أن السبب الذي جعله يجنح بعيداُ عن التفسير الحقيقي للإسلام في هذه الفضية ، هي أحداث التنظيم الخاص في نهاية الأربعينات ، يقول الأستاذ خالد محمد خالد رحمه الله : ( أما العمل الثاني الذي شكّل تفكيري وموقفي من الحكومة الدينية فقد كان عاملاً موقوتاً بزمانه ، ولكني جعلت منه قاعدة عامـة بنيت عليه حكمي القديم . ذلك أن الإخوان المسلمين كانوا قد بلغوا في الأربعينات من الكثرة والقوة والنجاح مبلغاً يكاد يكون منقطع النظير .. كانت دعوتهم تسري بين الناس كالضوء ، وكان الشباب بصفة خاصة يقبل عليها إقبال أسراب النحل على رحيق الزهور !! وذات يوم والجماعة في أوج مجدها الباهر ، لا ندري هل انبثق منها ، أو أُقحم عليها وتسلسل إليها ما سُمّي بالتنظيم السري . وارتكب هذا الجهاز جرائم منكرة وتوسل بالاغتيالات لفرض الدعوة .. الدعوة التي كانت قد حققت بالإقناع والمنطق ما لم تحقق دعوة أخرى .. والدعوة التي كانت لباقة مرشدها الأستاذ حسن البنا رحمه الله وإخلاصه يفتحان له الآذان الصم ، والقلوب الغلف ، ويسلسان له قيادة الجماهير كافتهم ومثقفيهم !! لفتت حوادث الاغتيال التي مارسها ذلك الجهار السري انتباه الناس وروعت أفئدتهم ، وكنت من الذين أقضّ مضجعهم هذا النذير . وقلت لنفسي : إذا كان هذا مسلك المتدينين وهم بعيدون عن الحكم ، فكيف يكون مسلكهم حين يحكمون ؟؟ كان هذا هو العامل الثاني الذي جنح بتفكيري إلى التحذير من قيام حكومة دينية باسم الإسلام ) ( 1 ) .
 وانقلب الكاتب الكبير عباس محمود العقاد ـ الذي كانت علاقته بالأستاذ البنا علاقة طيبة ـ إلى خصم عنيد وشديد ، وذلك بعد مقتل النقراشي ، فالنقراشي كان صديقاً عزيزاً للعقاد ، فلما قتل على يد بعض أفراد التنظيم الخاص ، انبرى العقاد بقلمه وأسلوبه الحاد يهاجم الإخوان ، ويتهم حسن البنا بأنه ماسوني ( 2 ) . وكذلك قام بنفس الدور عدد من المثقفين بعد حادث المنشية ، ومنهم من كان صديقاً ودوداً لدعوة الإخوان ( 3 ) .
 كل هذه الأحداث كانت كفيلة بإنهاء هذه التجربة الفنية لجماعة الإخوان ، ثم كان ما كان من أحداث ، وتغييب جماعة الإخوان خلف أسوار السجون لمدة بلغت العشرين عاماً .
 هذه بعض الأسباب التي منعت تجربة الإخوان الفنية من الاستمرار بنفس القوة التي بدأت بها ، واستمرت لفترة امتدت لعشر سنوات أو أكثر.
======================================
الدراسة كاملة مع المراجع على الرابط :

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق