الاثنين، 24 يناير 2011

“تديّنَّا…ولم نتحضر؟!!”

إبراهيم العسس… مفكر إسلامي أردني
جاءني سؤال من صديق عزيز، يقول فيه :
( أيهما أولاً : التحضـــرُ أم التـدين؟ وإذا كــان الــتــدين هو عـــينُ التحضر فلماذا لم نتحضـر ؟!!!) .
في السؤال كمية لا بأس بها من الحيرة والقلق ، وأعـتـــقـــد أن مثـــل هذا السؤال هو سؤال المرحلة ؛ مرحلة الضعف والانحطاط والتخلف والهزيمة وغيرها من قاموس التراجع ، فمن الطبيعي أن يُلحَّ هذا السؤال على كل حيٍّ عاقل .
إنه سؤال النهضة الذي بدأ يطرح منذ بدأ الإسلام ، لأنه نتيجة اشتباك المسلم مع الحياة ، وتفاعله مع المعيار المثال أعني الشرع وسلوك الذين هدى الله .. ولقد كان هذا السؤال يطرح في كل مرة بشكل يتوافق مع نقطة الوعي التي يقف عليها المسلم والأمة ، بمعنى أنه سؤال نسبي يتبع حالة التحضر( وسيأتي تعريف حالة التحضر في رأي الكاتب بعد قليل ) التي يكون عليها المجتمع ، فكلما كانت حالة التحضر مرتفعة كان مستوى سؤال النهضة عن نقص الكمال ، أو عن كمال الإحسان ، وعندما يكون المجتمع في حالة انحطاط يكون سؤال النهضة عن ترك القبيح كما قال المتنبي :
إنَّـا لفي زمن تركُ القبيح به من أكثر الناس إحسان وإجمال
فأنت عندما تسمع كلمة أنس بن مالك رضي الله عنه التي رواها البخاري رحمه الله عن الزهري رحمه الله ‏قال دخلتُ على ‏أنس بن مالك ‏ ‏بدمشق وهو يبكي فقلت ما يبكيك ‏ ‏فقال : ‏
‏(لا أعرف شيئاً مما أدركتُ إلا هذه الصلاة…. وهذه الصلاة قد ضيعت) . تدرك أنه رضي الله عنه يتساءل : لم حصل هذا ، وأنه يقوم بعملية تقييم لما آل إليه الواقع . ذلك لأن سؤال النهضة عند تحليله يتكون من ثلاث عمليات :
الأولى : مثال يقاس عليه .
الثانية : انحراف عن المثال .
الثالثة : بديل مرجو . 
والمثال الذي يقاس عليه هو الصراط المستقيم، والصراط المستقيم هو نتيجة تفاعل جيل التنزيل مع المنهج ، وهؤلاء هم في الحقيقة أسمى حالات التحضر التي تعني تطابق التطبيق مع النظرية تقريباً ، أو بعبارة أخرى هي التدين عندما يكون صورة طبق الأصل عن الدين . وعندما يوجد مثل هذا تكون الحضارة في أوجها . فالحضارة إذن هي معارف الوحي متجسدة في أمة .
وسؤال النهضة أو التغيير سؤال متواصل أو هكذا ينبغي أن يظل ، وفي اللحظة التي تتوقف فيها أية أمة عن طرح هذا السؤال ظناً منها أنها بلغت الغاية ، وجازت القنطرة ، فأعلم أنها قد بدأت في طريق العودة إلى ما قبل الحضارة .
قد تصلح هذه المقدمة لكشف المغالطة الموجودة في السؤال ، فالتحضــر هو سعيُ الإنسان إلى الوصول إلى قيم الحضارة ، وبما أنَّ الحضارة كامنة في معارف الوحي ، فيكون التحضـر هو التـدين والذي هو سعي الإنسان إلى الوصول إلى قيم الدين . معنى هذا أن التدين غير الدين ، ولكن مشكلة العقل المسلم أنه شبك بين الدين والتدين ، وقدم تدينه للعالم على أنه الدين ، فصار من الطبيعي أن يُحمَّـل الدينُ جهالةَ التدين أو عجز التدين أو تخلف التدين ، ليقال في النهاية إن الجهالة والعجز والتخلف هي الدين بذاته !
نحن تديَّــــــنَّــا …. نعم لكن كيف ؟ وما مــدى مطابقة تديننا للدين ؟ وما هو مركز الرؤية في تديننا ؟ وما هي المعايير التي اعتمدناها في قياس تديننا ؟
ودعني يا صديقي أتوسع قليلاً لعل في التوسع شفاءاً فأقول : كل آيدولوجيا تتكون من ثلاث منظومات :
الأولى : منظومة الوجود ، والثانية : منظومة المعرفة ، والثالثة : منظومة القيم … وهكذا هي العقيدة الإسلامية تتكون من هذه المنظومات الثلاث، وكلٌ من هذه المنظومات تشتمل على مجموعة من المفاهيم أو القواعد أو القوانين . ومن الطبيعي أن تقاس درجة التزام الإنسان بمدى التزامه بهذه المنظومات الثلاث بمكوناتها ، وكل خلل في التزام أيٍّ من هذه القيم يؤدي بالضرورة إلى عدم تطابق النتائج مع ما تبــشر به هذه العقيدة . فأين المسلمون اليوم من التزام قيم دينهم ، حتى يصح لسائل أن يسأل : لقد تدينا فلم لم نصل إلى الحضارة ؟!
لقد تدينا وأنتج تديننا واقعاً مختلفاً عمَّـا قبل ، وقطعنا مراحل معينة في الطريق إلى الله تعالى، لا شكَّ في ذلك . ولكنَّ التدينَ المنتج للحضارة أكثر مما قطعنا ، وأوسع من مجرد المظاهر التي يظنها العقل المسلم منذ عصر السقوط علاماتِ التدين.
إنَّ العُمران ( يعني الحضارة بتعبير ابن خلدون) لا يتحقق بمجرد أداء الشعائر، ولا بمجرد تغيير المظاهر . بل هناك مجموعة من علامات التدين تتعلق بالفاعلية في الاشتباك مع الحياة هي التي تحقـق _ بالاضافة لغيرها _ الحضارة ، لكن لا يمكن أن يتقدم المسلمون في مجالات الحياة المختلفة إلا بها . وقد يكون الإنسان من زاوية ما في قمة التدين ، ولكنه من زاوية أخرى يكون مُـتــلبِّـساً بصفة من صفات التخلف التي تؤثر على فاعلية اشتباكه مع الحياة.
لقد كان أبو ذر رضي الله عنه في قمة تدينه وصلاحه ، عندما قال له النبي صلى الله عليه وسلم : أعيرته بأمه ؟! إنك أمرؤ فيك جاهلية ". توقف قليلاً عند هذه الكلمة الصاعقة وانظر لمن قيلت ؛ قيلت لمن قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم : " ما أظلت الخضراء ، وما أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر" . يا الله .. كم احتوت هاتان الكلمتان من علوم ! ماذا أعدُّ لكم أعلم النفس؟ أم علم الاجتماع؟ أم علم العقائد؟ إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم يقول لصاحبه رضي الله عنه: إنك في قمة التدين؛ في صدق لهجتـــك، وقوة إيمانك، وشدة التزامك، أنت في القمة في كثير من القضايا، ولــكــنك في بعض القضايا والتي لهـــا علاقة بالتـــفاعل مع الناس، والاشتباك مع الحياة، والحكم على البشر لم تبلغ بعد حقيقة الدين أي حقيقة الحضارة!
إنك هنا لست متديناً ، ولست متحضراً ، وإن كنت هناك كذلك فلا تغرنك نفسك ، ولا تقل لقد بلغت المنزل ، وحزت النجاة . هناك اطلب من العقيدة نتائجها ، أما هنا فليس لك ذلك … هنا ستحصل على نتائج جاهلية لأنك تحمل قيماً جاهلية …
الحضارة منتج لمجموعة من التفاعلات، الخاضعة لسنة الله سبحانه فــي خلقه، مــن يــلتــزم بها، ويحسن المزج بينها سيحصل عليها، والصلاة هنا وغيرها من القضايا لا علاقة لها بهذه الخلطة إلا في حدود ما يحققه الإنسان من مقاصدها، فمقاصد الصلاة التي أشار إليها المولى جلت قدرته بقوله: "إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر" في صلب مكونات المفاعل الحضاري أما ما تقوم به الأمة الآن فلا علاقة له بكيمياء الحضارة.
ولقد قالها أحد الحكماء السلف ذات يوم ضيقاً بما آل إليه حال المسلمين من فُصام : "لا يغرنك من الرجل كثرة صلاته ولا صيامه ، فقد تكون عادة اعتادها يستوحش إذا تركها، ولكن أنظر إلى صدقه في الحديث ، وأدائه للأمانة".
وتبعه العلامة الفَـهِم ابن عقيل الحنبلي رحمه الله فوضع معياراً آخر من علامات التحضر فقال: "إذا أردت أن تعرف محلَّ الإسلام من أهل الزمان فلا تنظر إلى زحامهم في أبواب الجوامع، ولا ضجيجهم في الموقف بلبيك ، ولكن أنظر إلى مواطأتهم أعداء الشريعة". ولحق بهم الغزالي المعاصر رحمه الله فقال مؤكداً أن معركة الحرية هي من صلب مقاصد الدين، وهي من علامات التدين والتحضر: "إذا لم يُسمع صوتُ الدين في معركة الحرية، فمتى يُسمع ؟! وإذا لم ينطلق سهمه إلى صدور الطغاة ، فلمن أُعــدَّ إذن ".
والقوم لا يتكلمون بما توحي إليه خطرات عقولهم ولكنهم يغرِفون من وحي المولى سبحانه عندما قال : "أجعلتم سقاية الحاج، وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر، وجاهد في سبيل الله، لا يستوون عند الله، والله لا يهدي القوم الظالمين" (التوبة : 19). وعندما تتبع أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم التي يذكر فيها علامات التدين ، وإشارات النفاق ستجد أنها علامات تتعلق باشتباك المسلم مع الحياة ، جعلها صلى الله عليه المؤشر الحقيقي لتحضر أو تدين _ فالأمر سيان _ المسلم .
إنَّ مشروع إحياء النبوة ينبغي له البدء من هنا ؛ من هذا الفهم الذي يُنزل الإيمانَ إلى الأرض في حين يجتهد جند التخلف ، وعملاء الجهل على إبقائه في السماء.
إن إسلام الناس اليوم هو إسلام ينظر إلى السماء وحسب، إسلام تعمير الآخرة، أما إسلام الأنبياء فهــو إسلام عمــــارة الأرض كما إنه إسلام عمارة السماء، ولهذا أرسل الأنبياء ، ومن أجله عُـــذِّبوا، وقُــــتــلوا، لأنهم أرسلوا لعمارة الأرض أي إنشاء الحضارة. 
إنَّ التدين الذي يمارسه المسلمون اليوم لا يصبُّ في مصلحة الدين ، ولا يبني حضارة ، بل هو تدين يفسد ويزور ، ويلهي عن قيم الدين القـــيِّـــــم …. 
ولقد صدق من قال : " إنَّ الدين إذا فسد العمل به كان آلة انحطاط " .
————————————-

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق