الجمعة، 14 يناير 2011

أعظم خطيئتين في حياة المصريين ….. د/محمد المهدى


ظاهرتان شديدتا الخطورة تهددان سلامة المجتمع، بل وربما بقاءه، وتزداد درجة الخطورة مع عدم الوعي بهما واعتبارهما أحداثا عادية تمر بسلام دون مراجعة أومحاسبة.. إذا لم تكن أيها القارئ العزيز عرفت ما أقصده بالظاهرتين فهذا دليل على صحة ما أقول من عدم الالتفات إليهما والشعور بمدى فداحتهما.
وعلى الرغم من أن الظاهرة الأولى تربوية تعليمية والثانية سياسية، إلا أننا سنلقي الضوء على الجانب النفسي والاجتماعي للظاهرتين، ونترك الجوانب الأخرى لأهل الاختصاص التعليمي والتربوي والسياسي.

الظاهرة الأولى هي الغش في الامتحانات، والثانية هي تزوير الانتخابات.. وقد تسميهما ظاهرة أو تسميهما خطيئة فكلا الاسمين كما سنرى مناسب لما يحدث.
والظاهرة هي التصرف الذي ينتشر بين الناس بحيث يصبح جزءاً من حياتهم اليومية دون شعور بالحرج حين تطبيقه أو اتباعه ولو كان هذا التصرف سيئاً، ويعرف "إيميل دوركايم" –عالم الاجتماع الفرنسي- الظاهرة بأنها كل ضرب من السلوك ثابت أو غير ثابت يعم المجتمع بأسره ويكون ذا وجود مستقل عن الصور التي يتشكل بها في الحالات الفردية، وبعض العلماء يقولون بأن الشيء يعتبر ظاهرة إذا كان يشكل 30% من مساحة سلوك الناس.
أما الخطيئة فهي الخطأ الفادح ذو الأثر الخطير على الفرد والمجتمع، وهي شئ أشنع من الخطأ فالإنسان ربما أراد الحق فأخطأه، أما الخطيئة فهي كونه أراد الباطل فأصابه.
والغش في الامتحانات وتزوير الانتخابات يدخلان تحت وصف الظاهرة والخطيئة في آن؛ فهما من ناحية الشيوع والانتشار في المجتمع المصري لا ينكرهما أحد، ومن ناحية التأثير والخطورة لا يغيبان عن فطنة عاقل.
وفي حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه في الصحيحين: "ألا أدلكم على أكبر الكبائر، قالوا: بلى يا رسول الله. قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين"، وكان متكئاً فجلس صلى الله عليه وسلم أي: إظهاراً للاهتمام بما سيقول، فقال: ألا وشهادة الزور ألا وقول الزور، وفي رواية : وظل يرددها (أي عبارة شهادة الزور وقول الزور) حتى قلنا ليته سكت".
الغش الجماعي
والغش في الإمتحانات كان يحدث بصورة فردية قبل ذلك وكان فعلا مستهجنا في الماضي , أما الآن فهو يحدث بشكل جماعي في غالبية المدارس إن لم تكن كلها وأصبح أولياء الأمور قبل الطلاب يعتبرونه حقا مشروعا لأبنائهم، ولذلك تثور ثائرتهم على أي رئيس لجنة يحاول أن يمنع الغش ويعتبرونه شخصا ظالما يتسبب في ضياع مستقبل أبنائهم وربما ضربوه أو فتكوا به.
وهذا الشخص الذي يصمم على منع الغش يعتبر مثيرا للقلق والشغب، وربما سمع نصائح من المسئولين الأعلى بأن يلين بعض الشئ حتى لا يتسبب في مشكلة كبيرة خاصة لو كانت اللجنة الامتحانية في قرية نائية أو حي شعبي، أو في مدرسة ينتمي تلاميذها إلى أسر صاحبة سلطة وسطوة في المجتمع.
والغريب أن هناك تواطؤ واسع الانتشار على مشروعية الغش في الوقت الحالي يتورط فيه جهلاء الناس ومتعلميهم ومثقفيهم، بل ويتورط فيه قيادات يفترض أنها مسئولة فتسعى إلى تسهيل الغش في لجان بعينها يكون لهم فيها أبناء أو أقارب.
ولا يتوقف موضوع الغش في الامتحانات على الغش في اللجان الامتحانية؛ وإنما ما يشوب عملية التقدير من البداية فنظام التعليم والتقييم كله يشوبه الخلل، فمثلا مناهج التعليم وطرق الامتحانات لا تقيس لدى الطلاب القدرة على تحصيل المعرفة ومعالجة المعلومات والتفكير والتخطيط، ولا تقيس من الذكاءات غير الذكاء اللغوي اللفظي والذكاء المنطقي الحسابي مع إهدار لبقية أنواع الذكاءات.
ولا يتوقف الأمر على المدارس بل يمتد إلى الجامعات؛ حيث زادت الدروس الخصوصية بها وتسللت إليها المجاملات وشراء الدرجات واستخدام النفوذ بشكل مخيف، ولم يعد أستاذ الجامعة بنفس حيدة ونزاهة الماضي، ويمتد التقدير غير العادل وغير الصادق إلى رسائل الماجستير والدكتوراه وأبحاث الترقية للدرجات العلمية والوظيفية الأعلى.
وقد أُهدر العلم كقيمة وهدف وحل محله تحصيل الدرجات بأي وسيلة، وهنا ظهر المدرسون المحترفون الذين يقدمون هذه الخدمة للطلاب وأولياء الأمور بحيث يعدون كائنات امتحانية تعرف كيف تحصد الدرجات وتصل إلى أعلى النسب في الامتحانات دون أن تكتسب القدرة على حل المشكلات أو التفكير الابتكاري ودون أن تثقل شخصياتهم أو تنضج.
وإذا لم ينجح المدرسون المحترفون في هذه المهمة؛ فإن الجامعات الخاصة تكمل المطلوب حيث تقبل الطالب بمجموع صغير أو بأي مجموع وتمنحه الفرصة للنجاح والحصول على شهادة ورقية في كل سنة يدفع ثمنها والده بينما الطالب يلهو ويمرح مع زميلاته وزملائه وهو مطمئن للنتيجة طالما أن والده قد عمل اللازم ودفع الرشوة (المصروفات للجامعة).
وما دام الأمر لا يتعدى الدرجات فالطالب يحتال للوصول إليها بأي شكل فإذا استطاع أن يشتري الامتحان فإنه (ومعه أهله) لايتردد في ذلك، ولذلك انتشرت ظاهرة بيع أسئلة الإمتحانات خاصة الثانوية العامة أو تسريبها للدرجة التي فشلت معها كل المحاولات للحفاظ على سرية الامتحانات مما اضطر وزارة التربية والتعليم أن تنقل أوراق الأسئلة بواسطة طائرات حربية في يوم الإمتحان.
ولا يخلو تصحيح أوراق الامتحانات من خلل، حيث يتم التصحيح باستعجال شدييد لإذاعة النتيجة في وقت معين، ومراجعة التصحيح تتحول إلى عملية شكلية يقوم المراجع فيها بالتوقيع على ما قد سبق دون تمحيص حقيقي مما يجعل الخلل في التصحيح المبدئي أمر واقع، هذا في المدارس.

أما في الجامعات فإن عملية التصحيح يشوبها الكثير من الخلل حيث يوكل أمره إلى أستاذ المادة الذي يقوم بتصحيح أعداد كبيرة جدا من الأوراق في وقت قصير جدا لا يسمح له بقراءة ما كتبه الطلاب ولكن فقط بأخذ فكرة عامة وسريعة جدا وغير دقيقة جدا يعطي بعدها الدرجة بشكل جزافي وغير موضوعي مما يهدر جهد كثير من الطلاب.
ويكمن وراء تلك الحالة من الاستعجال واللامبالاة روح من الزهق والضيق والإحساس باللامعنى لدى عدد كبير ممن يقومون بهذه العملية الهامة من المدرسين وأساتذة الجامعات بسبب ظروف نفسية أو اجتماعية يعيشونها، وبعضهم بسبب موقف شخصي يتسم بالاستهتار والللامبالاة بالعملية الامتحانية بل والعملية التعليمية برمتها، وما يحيط بذلك من عدم احترام لقيمة العلم أو قيمة العدل أو قيمة الإتقان والدقة والموضوعية، فكل هذه القيم مهتزة بشدة في المجتمع التعليمي والمجتمع العام.
ويلحق بذلك ما يحدث في الدراسات العليا من مجاملات وتوصيات لأصحاب الحظوة من أبناء الأساتذة وزملائهم وأقاربهم، وذوي المكانة في المجتمع بوجه عام، أو من يدفعون لهذا أو ذاك، أو من يسهلون السفر للخارج أو من يسهلون المزايا تحت أي اسم أو بدون اسم، وتكتمل الصورة المزيفة بترقيات قائمة على أبحاث مسروقة أو مزورة أو مقتبسة أو مكررة أو غير ذات معنى أو قيمة.
والنتيجة النهائية لكل ذلك ابتعاد المجتمع التعليمي والعلمي عن الهدف الأساسي وهو العلم والمعرفة بالمعنى الصادق الحقيقي؛ ذلك العلم الذي يستكشف أسرار الكون ويصل إلى المعرفة الحقيقية لقوانين الحياة، ومن هنا تتكون صورة مزورة للحياة يتبناها الأساتذة والطلاب في كل المراحل فتجعل الحياة كاذبة خاطئة.

تزوير الانتخابات
وإذا تكلمنا عن الظاهرة (الخطيئة) الثانية وهي تزوير الإنتخابات فسنجد حدثين قريبين جدا مليئان بالدلالات الشديدة على بشاعة التزوير وقبحه في المجتمع المصري؛ فقد شهدت مصر في عام 2010 م انتخابات مجلس الشورى وانتخابات مجلس الشعب، وقد شهدت تلك الانتخابات عمليات تزوير وتزييف وبلطجة وعنف ورشوة واسعة النطاق، وكان الإقبال من الناخبين ضعيفا جدا (وإذا كانت الأرقام الرسمية والتصريحات الرسمية تقول عكس ذلك كالعادة منذ ستين عاما)، وتورع الناس المحترمين عن الترشح في الانتخابات أو حتى التصويت لما يشوب العملية الانتخابية برمتها من سلوكيات تنفر الناس من المشاركة، فضلا عن أن الجميع يعلمون أن الانتخابات في مصر نتائجها معروفة مقدما ومحسومة للحزب الوطني بالضرورة، وأن عملية التصويت ما هي إلا ديكور سخيف وإسباغ للشرعية على ممارسات غير شرعية.

وفي الانتخابات الأخيرة تم استبعاد كل التيارات والرموز المعارضة والمستقلة حتى بدا مجلس الشعب بدون معارضة حقيقية، وفقد القائمون على الانتخابات تلك الحنكة القديمة التي تميز بها من سبقهم من حبكة التزوير وإعطاء الفرصة لبعض المعارضين من باب الديكور وسد الذرائع وتحسين الصورة عالميا، ويبدو أن شهية الحزب الوطني انفتحت بشكل غير منضبط ليبتلع كل المقاعد غير عابيء بالصورة أو الشكل أو الديكور، وليذهب الجميع إلى الجحيم، ولقد شهد الجميع حرق واستبدال الصناديق بالجملة، وتسويد البطاقات لصالح مرشحي الحزب، واستبعاد الإشراف القضائي الحقيقي والمباشر لكي يتم التزوير بشكل سهل، ولكي يتم ذلك فلابد من الإستعانة بعدد كبير من البلطجية وأصحاب السوابق، وبلغ أجر البلطجي في اليوم الواحد ألف جنيه، ووظيفته هي ترويع الناخبين والسيطرة على محيط لجنة الانتخابات وتيسير عمليات التزوير.
وعلى الرغم من انضباط السلوك الانتخابي لدى المصريين في انتخابات النقابات والأندية الرياضية والاجتماعية، إلا أن الصورة تختلف تماما في الانتخابات العامة (المحليات والشعب والشورى)، ويعود السبب إلى أن الانتخابات الأولى لا تتدخل فيها الحكومة وتخلو غالبا من التزوير لذلك يشعر الناخب بأن صوته مؤثر وله قيمة، أما في الانتخابات العامة فإن الجو يفسد تماما بالتدخلات السلطوية ومحاولات التزوير ويبتعد الناس عن صناديق الانتخاب ويتركونها نهبا لإرادات عابثة فاسدة.

والناخب المصري لا يركز على البرنامج الانتخابي لمن ينتخبه، وإنما يتحرك بدافع المشاعر أو المعرفة أو القرابة أو العصبية القبلية أو بحثا عن قضاء مصالح شخصية يقوم بها المرشح، ولا يوجد وعي كاف أو إرادة شعبية كافية لحماية صناديق الانتخاب وعمليات الاقتراع من التزوير سواء منه الرسمي أو الشعبي، وحين تزور الانتخابات لا ترى الناس تغضب كثيرا لذلك (باستثناء المرشحين المستبعدين وبعض النخبة) ويمر الأمر وكأن شيئا لم يكن، وهذا يشجع على مزيد من التزوير في الانتخابات التالية.
وإذا قارنا هذا السلوك الانتخابي المصري بنظيره في إيران أو تركيا أو إسرائيل أو باكستان فسنجد اختلافا كبيرا في هذه الدول؛ حيث الإرادة الشعبية لها وزن كبير، وتعمل لها السلطة المشرفة على الانتخابات ألف حساب، وحين تكون هناك شبهة تزوير تجد الجماهير تخرج غاضبة إلى الشارع ولا تسكت عن ذلك أبدا، وهذا ما حدث في إيران بعد الإنتخابات الرئاسية الأخيرة.

ولقد ظهرت نية الإدارة في التزوير حين أصرت على تعديل المادة 88 من الدستور واستبعدت بذلك الإشراف القضائي الكامل والمباشر على العملية الإنتخابية، واستبدلته بلجنة عليا للانتخابات تشرف من بعيد، وبذلك أصبحت العملية الانتخابية برمتها في يد السلطة التنفيذية صاحبة المصلحة في دعم الحزب الوطني وتقييد واستبعاد المعارضة بكل أطيافها، وكان هناك إصرار آخر على عدم تنقية الجداول الإنتخابية من أصوات الموتى , وإصرار على حرمان عدد كبير من الأحياء من التصويت بسبب عدم وجود بطاقات انتخابية لهم، وأيضا حرمان المقيمين بالخارج من ممارسة حقهم الطبيعي في التصويت.
ولقد نادى كثير من الشرفاء والعقلاء بمقاطعة العملية الانتخابية من الأساس وذلك لعدم وجود ضمانات لانتخابات نظيفة وحقيقية، وقد ذهب البعض إلى النداء بإلغاءها من الأساس والاعتراف بغياب الديمقراطية والحياة النيابية في مصر إلى أن تتوفر الإرادة الشعبية وتتوافق معها الإرادة الحكومية (مختارة أو مضطرة) لإجراء انتخابات حقيقية وصادقة تغير وجه الحياة في مصر إلى الأفضل.

تعددت الأشكال والغش واحد
ولا يخفى على عاقل ما تحدثه الانتخابات المزورة بهذا الشكل من تلوث نفسي - أخلاقي في وعي المصريين، إذ تعطي المثل للجماهير بمشروعية التزوير والغش والخداع، ومشروعية البلطجة والاستيلاء على مقاعد البرلمان بالقوة، ومشروعية شراء أصوات الفقراء بأموال الأثرياء الطامعين في مزيد من الثروة والسلطة، ومشروعية الفساد الحكومي والشعبي على السواء، كما تعطي إحساسا باليأس من التغيير والإصلاح عبر صناديق الانتخابات، وهذا في النهاية يضع الشعب المصري أمام خياران: الأول هو السلبية واللامبالاة والابتعاد عن السياسة تماما مادام غير قادر على التأثير بصوته في المجلس التشريعي الذي يشرع ويراقب، والثاني هو فتح الباب أمام هبّات العنف العشوائي الناتج عن تراكم الإحباط والغضب الناشئ عن سد منافذ الإصلاح والتغيير السلميين.
والانتخابات المزورة فيها إفساد كبير للأجهزة الحكومية المشرفة عليها والمنظمة والمنفذة لها؛ إذ تتلوث أيديها بممارسات سلبية معيبة ويتعود المنتسبين إليها على هذه الممارسات ويفقدون الثقة في قادتهم الذين أمروهم مباشرة بالتزوير أو لمحوا لهم بهم أو تستروا معهم عليه، ومع تكرار الانتخابات تتحول تلك الممارسات إلى سلوك حكومي وشعبي دائم يتقبل الكذب والاحتيال والغش والرشوة والبلطجة وغيرها من آفات الإنتخابات غير الشريفة وغير النظيفة.
وإذا أضفنا الإمتحانات المغشوشة والتقييمات المغشوشة إلى الإنتخابات المزورة المتراكمة نجد أن الحصيلة حياة مزورة متدهورة فاشلة في كل المجالات، وهذا ما نلمسه في حياتنا في الستين سنة الأخيرة، ويزداد التدهور يوما بعد يوم مع توحش ظاهرتي الغش في الامتحانات وتزوير الانتخابات.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق