الجمعة، 7 يناير 2011

مسرح الإخوان المسلمين.. البداية رومانسية!


كتب: أحمد زين
من أكثر الموضوعات التباسًا في حياتنا الثقافية علاقة الإسلام بالفن، ومن أكثرها غموضًا أيضًا موقف الإسلاميين
 من الفن وتجاربهم فيه. وفي هذا التقرير نعرض لتجربة تاريخية مجهولة من تجارب الإسلاميين مع الفن هي تجربة الإخوان المسلمين في التأليف والعمل المسرحي التي قام عليها الشيخ عبد الرحمن البنا قبل نصف قرن.

البداية مع جميل بثينة!
حين قرر “عبد الرحمن البنا” أن يخوض مجال التأليف المسرحي اختار أن يكتب  “جميل بثينة” وهي قصة من أشهر قصص الحب والغرام، ليقفز في الأذهان السؤال: لماذا اختار “جميل بثينة” أول عمل له، ولم لم يتصد لقضية حماسية أو يلجأ إلى التاريخ الإسلامي الزاخر وقصص البطولات والفاتحين؟
لم يجد عبد الرحمن البنا العضو البارز في دعوة الإخوان المسلمين والمرشح فيما بعد -حينئذ- لخلافة أخيه “حسن البنا” في قيادة الإخوان المسلمين، حرجًا في تقديم هذا العمل الذي أنتجته “لجنة تشجيع التمثيل” التابعة لوزارة المعارف، وقررت إخراجها على نفقتها عام 1934، لما وجدت فيها من معان طيبة وقيم رفيعة. ويبدو أن المسرحية قد حققت نجاحًا لافتًا، فشوقي قاسم صاحب رسالة دكتوراة “الإسلام والمسرح المصري” يقرر بوضوح: أن جميل بثينة قد صارت موضع المقارنة مع درة أمير الشعراء “مجنون ليلى”.
ونظرة واحدة إلى الأسماء التي شاركت في هذا العمل تبين مدى حِرفية هذه المسرحية؛ إذ تضم قائمة النجوم: جورج أبيض – أحمد علام – عباس فارس – حسن البارودي – فتوح نشاطي – محمود المليجي، ومن العناصر النسائية: فاطمة رشدي، وعزيزة أمير…
ورغم أن القصة الأساسية عاطفية فإن الدافع الأساسي لاختيار هذه القصة كان الغيرة على الإسلام والعروبة!.. فقد وجد البنا فراغًا كبيرًا لم يسده الفنان العربي؛ فتساءل في مقدمة المسرحية: “لماذا نستجدي من الغرب قصصه وحوادثه فنذكر “روميو وجولييت” ونحتفي بـ “غادة الكاميليا”.. ولا نعود إلى شرقنا فنقتبس النور من إشراق سمائه ونعرف الحب من طهارة أبنائه.. ثم يتحدث عن جو مسرحيته المختلف: “فهذا جميل وهذه بثينة بطلا قصة حب شغلا عصرهما والأجيال بعدهما.. إنه يستنطق الصخر ويستبكي الحمام، وإنها تستصرخ العدالة، وتطوع قلبها على الآلام…” ثم يعود إلى القيمة الخلقية التي تحملها هذه القصة وتفرد المجتمع العربي بقيمة الحب العذري الذي لا يتنافى مع القيم الإسلامية فيقول: “الجو فاتن فلا يفتتنان.. والشباب جارف فلا ينزلقان.. لأن لهما قلبين ثمَّنهما العروبة ونشَّأهما الإسلام…” إذن فالمؤلف يرى أن التعرض للأعمال العاطفية ليس مرفوضًا لذاته، ولكن الأمر يتوقف على المدخل الذي يلج منه المؤلف للموضوع فهو يعالج العاطفة الجارفة بضبط العفة لها، فرغم شدة الحب والتعلق بين الحبيبين ورغم ظلم البيئة والمجتمع ورغم عدالة قضيتهما ورغم سنوح الفرصة للارتشاف من اللذة، فإنهما لا ينزلقان والعامل الأساسي في ذلك -حسب البنا- عروبتهما وإسلامهما.

الإخوان ومسرح الأربعينيات
وحينما تتالت أعمال عبد الرحمن البنا وبدأ يعرف في الوسط المسرحي كمؤلف يستلهم من البيئة العربية قصصًا رومانسية شاعرية، بدأت الفنانة “ملك” المغنية الشهيرة وإحدى رائدات المسرح الغنائي تستكتب المؤلف، فكتب لها مسرحيته “سُعْدَى” التي أخرجها الفنان حسن حلمي، والمسرحية تصور وفاء الزوجة المسلمة لزوجها من خلال حادثة تاريخية حقيقية.
وكما لم يجد “البنا” حرجًا من تناول الأعمال الرومانسية فإنه لم يجده كذلك في ظهور الممثلات على خشبة المسرح.. ساعده على ذلك البيئة العربية التي استمد منها معظم أعماله والتي فرض جوها على الممثلات الظهور برداء محتشم يتلاءم مع جو النص، ومن طرائف ذلك ما رواه عبد الرحمن البنا في إحدى مقالاته أنه وجد حرجًا من الفنانة عزيزة أمير، حيث كانت ترتدي فستانًا بكم طويل لكنه واسع لدرجة تجعل ذراعيها تظهران، وحين لفت انتباهها لم تستنكف أن تربط هذا الكم بخيط لتضيقه نزولاً على رغبة المؤلف.

علوم الحديث.. والمسرح
إن عبد الرحمن البنا المولود عام 1908 والذي حاول قبل وفاته إكمال “الفتح الرباني في شرح مسند الإمام أحمد الشيباني” الذي بدأه والده، هو ذاته الذي هبّ للتأليف المسرحي غيرة على دينه وفق ما ذكره في أحد مقالاته من أنه: “غار جدًّا حين قرأ في مجلة الصباح الأسبوعية أن فرقة أوروبية عرضت على مسرح الأوبرا المصرية، تناولت ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بما ينقص من قدره الشريف، فحاول كتابة مسرحية ردًّا على هذه الفرية، وإمعانًا في التحدي أراد لها أن تمثَّل على نفس خشبة هذا المسرح”.
وقد وجد أن عليه إيجاد نص مناسب، ثم إيجاد فرقة مناسبة، وحين تعذر له في بادئ الأمر جمع الأمرين قام بالأول وهو النص “جميل بثينة”، وكان يشترط على الفرقة التي تدعوه للكتابة لها أن تقوم بأدائها بالفصحى.

فلسطين على المسرح
 إلى المهاجرين والمشردين من إخوان العقيدة والإسلام أهل فلسطين المجاهدة الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله.. إليكم هذه المسرحية التي أعدت لتعمل عملها مع قصف المدافع وأزيز الطائرات؛ لإدراك الغاية ورفع الراية وإصابة الأهداف”.كانت مسرحية “صلاح الدين” هي باكورة أعمال البنا التي لفتت الأنظار لقضية فلسطين؛ إذ رأى في الفن سلاحه يقاتل إلى جوار المجاهدين في فلسطين.. فأهدى هذا العمل: “إلى شهداء فلسطين الأبرار، وأبطال الجهاد المقدس لإنقاذ الوطن الإسلامي وتحرير الأرض…
بل إن ثلاثة من أعضاء الفرقة اعتذروا عن المشاركة في العمل؛ لذهابهم إلى ميدان القتال، وهو ما نص عليه إعلان المسرحية حين كتب في هامشه: “من أعضاء الفريق في ميدان الحرب الآن: إبراهيم الشامي. فطين عبد الحميد. إبراهيم القرش”. والأول صار واحدًا من أهم ممثلي الدراما في المسرح والتلفزيون المصري حتى وفاته.
نجوم المسرح العربي.. إخوان مسلمون!
بدأ البنا يخطو خطوته الثانية نحو تأسيس فرقة خاصة للإخوان المسلمين وعرض مسرحياته التي بلغت ثماني مسرحيات، ووصل الأمر بالإذاعة إلى نقلها على الهواء مباشرة، ولم يقتصر النشاط على المركز الرئيسي للجماعة بل امتد إلى شُعب الجماعة في أنحاء مصر، كما وصل الأمر إلى العرض على أكبر المسارح المصرية. ومن الوثائق التي بين أيدينا إيصال باسم البنا لإيجار مسرح الأزبكية، وكذلك طلب لمدير المسرح بإقامة حفل وهو موقع باسم الفنان الكوميدي عبد المنعم مدبولي، وهو عضو فرقة المسرح الإسلامي آنذاك والذي صار علمًا على مدرسة في الكوميديا عرفت باسمه “المدبوليزم”! وتعدى أثر هذه الفرقة هذه المؤثرات الأولى.
ولإدراك عمق هذه التأثيرات والسبق الذي حازه الإخوان في ذلك لا بد أن نتوقف أمام حدث بالغ الأهمية وهو أن الفرقة القومية المصرية حين تأسست عام 1935 بقيادة خليل مطران أوفدت البعثة الأولى من الطلاب إلى أوروبا لتعلم الفن هناك، واللافت للانتباه أن البعثة تكونت أساسًا من عدد ممن عملوا في مسرحيات البنا مثل: فتوح نشاطي، محمد متولي، سراج منير، حسن حلمي، ومحمد السبع، وكان البنا حريصًا على تنمية قدرات فريقه، فوجه شباب الفريق الذين أتموا دراستهم الثانوية للالتحاق بمعهد التمثيل العالي، واستجابوا، وكان منهم محمد السبع وعبد البديع العربي وإبراهيم الشامي، وهم من الممثلين المشهورين بعد ذلك.

الإخوان.. في الأوبرا!
ومن أمثلة العروض التي قدمها الفريق على أكبر المسارح المصرية كدار الأوبرا ومسرح الأزبكية: مسرحية “عامان في شعب” عن اضطهاد المسلمين الأوائل في شعب مكة، والمسرحية النثرية “أبطال المنصورية” والتي ركز فيها على حال الفاطميين في المغرب ومدى قوتهم وتطلعهم إلى دخول مصر. والمنصورية هي إحدى مدن تونس. و”المعز لدين الله الفاطمي” وهي مسرحية تاريخية من فصل واحد تصور دخول المعز لمصر بعد أن فتحها جوهر الصقلي، و”غزوة بدر”، و”الهجرة”، و”صلاح الدين الأيوبي”، ومسرحية “بنت الإخشيد” التي ألفت عام 1939 بمناسبة مرور ألف عام هجري على تأسيس القاهرة وبناء الأزهر، وتدور حول نهاية عهد الإخشيديين بمصر (سُنة) وبداية عهد الفاطميين (شيعة). وهي مسرحية نثرية من ثلاثة فصول “وقد أغناها المؤلف بالقيم الإسلامية، فدعا إلى التقريب بين طوائف المسلمين، وحذر من استغلال الخلافات المذهبية في إضعاف شوكة الأمة وتفريق كلمتها”.
يقول البنا في ذكرياته عن هذه الفترة: “وظل المسرح الإسلامي على مدى 14 عامًا يزهو ويزدهر كلما ظهرت مسرحية من المسرحيات، وأذكر أن مسرحية الهجرة التي عرضت على مسرح الأزبكية يوم الأربعاء 26 نوفمبر 1947 وأذاعتها محطة الإذاعة المصرية، قد توافد علينا كثير من رجال السينما للتفاوض في إخراجها سينمائيًّا.. وفضلاً عن تدعيم رسالة المسرح الإسلامي فقد دعمت الفرقة نفسها وتخرج معظم أفرادها من معهد التمثيل العالي”.
تأثيرات مسرح الإخوان
تعددت تأثيرات مسرح الإخوان المسلمين على المناخ المسرحي العربي خاصة في مصر، ومن ذلك اهتمام القوى الإسلامية المختلفة بالمسرح، فقد أنشأت جمعية الشبان المسلمين فريقًا مسرحيًّا بقيادة الفنان “محمد عثمان” ظل منبرًا للمسرحيات الإسلامية إلى أن شعر بخطورته ضباط ثورة يوليو لما يبثه من قيم تخالف النهج الاشتراكي الذي أرادوه لمصر فقاموا على الفور بدمج الفريق فيما عرف بهيئة التحرير، وما إن وافق عثمان حتى جمدوا أنشطة الفريق.
ولم يقتصر الأمر على الإخوان بل امتد إلى الأزهر الشريف، فتألفت عام 1944 “رابطة أبناء الأزهر الأدبية” من طلاب معهد القاهرة الأزهري الثانوي.. وقدمت عددًا من الأعمال أشهرها مسرحية “إسلام هرقل” التي استقت أحداثها من صحيح البخاري يناير 1947 واستعانوا بفرقة الإخوان المسلمين، حيث ندب لهم “البنا” د. إبراهيم سكر الأستاذ بآداب عين شمس بعد ذلك، والطريف أن الفتى الأول في هذه الأعمال كان الطالب صلاح أبو إسماعيل الذي أصبح بعد ذلك الشيخ البارز وعضو البرلمان عن التيار الإسلامي.

بين التاريخ والفصحى
رغم أن البنا كان يتسامح مع ظهور الممثلات في مسرحياته فإنه لم يتسامح مع العامية المصرية، ولا شك أن السياق الاجتماعي والثقافي لعصره قد أكد على هذا الاتجاه، فالدعوة لاستخدام العامية وإحلالها مكان العربية بل وتعدي الأمر إلى الدعوة لهجر الحرف العربي والكتابة باللاتينية في دعوات لويس عوض وسلامة موسى، مما جعل الفنان المسلم لا سبيل له إلا التأكيد على الفصحى كلغة للعمل الفني.
ويثور تساؤل حول الأسباب التي كانت تدفع عبد الرحمن البنا إلى التاريخ، الإسلامي خاصة، ينهل منه ويرتشف، في حين غض الطرف عن القضايا الاجتماعية والسياسية في عصره، حتى إنه حين تناول قضية فلسطين ارتد لتاريخ صلاح الدين! وهو ما قد يثير التساؤل أيضًا حول رؤيته للمسرح الإسلامي، وهل كان في تصوره يعني الاقتصار على التاريخ الإسلامي والتحدث بالعربية الفصحى، وتتبع سير الصالحين؟ أم أن ثمة عوامل أدت به لهذه الوجهة؟
ربما كان الأرجح هو التفسير الثاني رغم سهولة الأول ومنطقيته فهناك أكثر من سبب يؤيده:
أولاً: الاتجاه للتاريخ في المسرح وخاصة المسرح الشعري يُعَدّ في هذا العصر “موضة” المسرح، وهو ما يمكن أن يعلل تهافت كبار الفنانين على أعمال البنا، ويوضحه أيضًا العدد الكبير من الأعمال التاريخية المسرحية التي تصدى لها المؤلفون العرب في هذه الفترة، فألف أحمد شوقي سبع مسرحيات تاريخية هي: كليوباترا، مجنون ليلى، عنترة، علي بك الكبير، قمبيز، أميرة الأندلس، وكذلك فريد أبو حديد الذي ألف “ميسون الغجرية” عن أحد أمراء المماليك، وتوفيق الحكيم حين كتب أول أعماله “أهل الكهف” بإيحاءاتها الدينية والفكرية، وأيضًا محمود تيمور الذي ألف “حواء الخالدة” وهي عن عنترة وعبلة، و”اليوم خمر” عن حياة امرئ القيس، و”صقر قريش” عن عبد الرحمن الداخل، “ابن جلا” عن الحجاج بن يوسف… فلم يكن البنا وحده هو الذي لجأ للتاريخ ولا هو وحده الذي أصر على العربية.
ثانيًا: المسرح الاجتماعي في الأربعينيات كان مزدهرًا بدرجة لا تعطي للمؤلف فيه مجالاً للريادة والسبق، فالفرق المسرحية المصرية التي قصرت نفسها على الجانب الاجتماعي والكوميدي قامت بدورها، وفي صورة لم تكن تتصادم بالضرورة في مجملها مع المنظومة الإسلامية، ومجرد المشاهدة المتأنية لمسرحيات الريحاني وبديع خيري يؤكد هذا الرأي.
  
شيء أخير تجدر الإشارة إليه في هذه الصفحة المجهولة وهو ما يذكره الأستاذ جمال البنا الأخ الأصغر لعبد الرحمن البنا أن أحد أقرب من كان يتعاون معهم عبد الرحمن البنا فنيًّا هو شكري راغب مدير دار الأوبرا، وهو مسيحي مصري، ووصلت الصداقة بينهما إلى حد بعيد، لدرجة أن عبد الرحمن كان يصر على وضع اسم شكري راغب على دعاية مسرحيات فرقة الإخوان المسلمين كمدير للمسرح (!!).


*الوثائق التي يحتويها المقال مأخوذة من مؤسسة فوزية وجمال البنا الثقافية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق