الأحد، 16 يناير 2011

نرفض العنف سبيلا للوصول للسلطة ومقتنعون بالخيار الديمقراطي... راشد الغنوشي

الشيخ راشد الغنوشي في حواره حول الحركة الإسلامية في تونس
 نرفض العنف سبيلا للوصول للسلطة ومقتنعون بالخيار الديمقراطي
 
يترافق نشر هذا الحوار مع الشيخ راشد الغنوشي-زعيم حركة النهضة الإسلامية التونسية المعارضة- مع الأحداث التي تشهدها تونس من موجات سخط وغضب جماهيري بسبب سوء الأحوال المعيشية، ورغم أن الحوار تم إعداد قبل تلك الأحداث، لكنه يلقي الضوء على جزء من تاريخ الحركة الإسلامية التونسية وعلاقتها بالنظام التونسي، والمنطلقات الفكرية للحركة.
 والحركة الإسلامية التونسية من أوائل الحركات الإسلامية التي انفتحت على الأفكار والأيديولوجيات التي كانت تنتشر في المنطقة العربية؛ لذا جاء طروحاتها تعبر عن إنتاج مبكر حول قضايا الحريات والاقتصاد، وكان كتاب الشيخ راشد الغنوشي حول الحريات في الدولة الإسلامية من بواكير الانفتاح الإسلامي الجماعاتي على مسألة الحرية.
 
وفي هذا الحوار يتحدث الشيخ الغنوشي عن خصائص الحركة الإسلامية التونسية، ومنطلقاتها الفكرية، وموقفها من قضايا العنف والتعددية السياسية، حيث يؤكد أن رؤية حركته للتعددية ذات سقف عال وتعترف بأحقية الأحزاب التي تختلف معها ايدولوجيا في المنافسة على السلطة طالما احترمت قواعد اللعبة الديمقراطية.
 
* إذا اتفقنا أن لكل حركة إسلامية في العالم العربي خصائصها وسماتها الخاصة بها، فهل يمكن أن نتحدث عن خصائص الحركة الإسلامية في تونس ؟
 
** خلافاً لما كان عليه الأمر منذ بداية ثمانينيات القرن الماضي عندما أقدمت حركة الاتجاه الإسلامي على الإعلان عن نفسها حركة إسلامية ديمقراطية تتبنى تعددية كاملة وترفض العنف سبيلاً للسلطة أو للبقاء فيها وتدافع عن حقوق للمواطنة متساوية؛ بما في ذلك حقوق المرأة والأحزاب العقدية المخالفة،ولم يكن ذلك يعبر عن الثقافة الإسلامية السائدة بل كان أقرب إلى مصادمتها. خلافاً لذلك لم يعد اليوم للحركة الإسلامية في تونس ممثلة في جسمها الرئيسي «النهضة» كثير مما يميزها عن التيار الأساسي للحركة الإسلامية، وذلك بعد أن اطمأن هذا المجرى الرئيس للحركة الإسلامية في أرجاء العالم إلى الخيار الديمقراطي بما هو تصور للدولة الحديثة يتأسس على مبدأ المواطنة وسلطة الشعب وتداول السلطة عبر انتخابات تعددية دورية وتوزيع السلطات واستقلال القضاء ورفض العنف نهجاً في الوصول للسلطة وإدارتها، وتمكين المرأة والأقليات من حقوق المواطنة بالتساوي.
 
لقد اقتنع عموم التيار الإسلامي التونسي بالخيار الديمقراطي مدفوعاً بنضج قناعاته، وبضغوط الواقع، وثمرة لتجارب مريرة في مواجهة الاستبداد، وحتى التجارب الإسلامية التي اعتمدت سبيل الثورة المسلحة مثل التجربة الأفغانية أو سبيل الانقلاب مثل التجربة السودانية جاءت مزهدة في هذا النهج شاهدة لخيار السلم والديمقراطية سبيلاً للوصول إلى الأهداف ولو بالتدرج بديلاً عن سبيل العنف والمغامرة.
 
ولقد مثّل تبني الإخوان المسلمين كبرى الحركات الإسلامية لهذا النهج أكبر انتصار للخيار الديمقراطي في الوسط الإسلامي وفي جملة المنطقة، وهو ما جعل تجربة المشاركة في الانتخابات وحتى في السلطة التنفيذية والتعويل على تطوير المجتمع المدني عبر النقابات والجمعيات الخيرية والحقوقية والمدارس، وكذا ممارسة الضغط عبر حركة الشارع والإضرابات والاعتصامات والعرائض وإقامة التحالفات حتى مع الخصوم السياسيين والعقديين، تصبح أكثر إغراء للتيار الإسلامي من مناهج العنف والانقلاب.
 
ولأن سلوك المسلم فرداً وجماعة يجب أن يكون تعبيراً عن تصوراته العقدية منبثقاً عنها بضرب من ضروب الاجتهاد فقد أخذت تصدر عن الإخوان منذ أواسط التسعينيات جملة من الوثائق الهامة داعمة لهذا التوجه الديمقراطي، منها وثيقة التعددية السياسية، ووثيقة المشاركة السياسية للمرأة بعدِّها حقاً من حقوقها، ووثيقة رفض خيار العنف سبيلاً للسلطة ووثيقة المشاركة السياسية في حكم غير إسلامي، أصدرتها جماعة الإخوان المسلمين ولاقت قبولاً واسعاً في الشارع الإسلامي وترحيباً من قبل التيار العلماني المعتدل العروبي واليساري واللبرالي.
 
* كيف كان رد الفعل محلياً على النهج الذي تبنته الحركة الإسلامية في تونس؟
 
** لم يكن النهج الذي تبنته الحركة الإسلامية في تونس في بداية الثمانينيات محل رضا بل استنكار يغدو في بحر العقد اللاحق خياراً لعموم التيار الإسلامي، وربما الذي ظل يمثل شيئاً من الخصوصية للتيار الإسلامي «النهضوي»:
 
أ- المكانة المتميزة التي تحتلها المسألة الديمقراطية وقضايا الحرية عموماً في خطاب النهضة.
 
ب- اعتبار الحرية المدخل الرئيسي لكل إصلاح وأولوية الأولويات حتى بالنسبة إلى مسألةِ تطبيق الشريعة، وهو ما صرح به كبير علماء الإسلام المعاصرين العلامة الشيخ القرضاوي وأنكر عليه الصياغة -على الأقل- مرشد الإخوان الأسبق المرحوم مأمون الهضيبي، بينما النهضة مضت في هذا الخيار إلى نهايته منذ بداية الثمانينيات، فلم ترفع ضمن مطالبها السياسية مطلب تطبيق الشريعة وإقامة «دولة إسلامية» وذلك تأسيساً على أولوية الحرية مدخلاً عاماً للإصلاح، واستعادة الكرامة السليبة للمواطن والسيادة للشعب حتى إذا تحقق ذلك وامتلك الشعب حق تقرير المصير- وقد يحتاج لعقود أخرى من الجهاد السلمي - كان لكل التيارات بمنأى عن كل إكراه أن يطور مشروعه من خلال الحوار مع الناس، ومع الأطروحات الأخرى،وأن يصار إلى الاحتكام لسلطة الرأي العام على أساس حقوق متساوية للإنسان وللمواطن ومبادئ الديمقراطية ودولة القانون.
 
جـ- يقتضي كل ذلك رفض كل مسوغ لاحتكار سلطة الحكم وسلطة الفكر والتعبير، وكلِّ دعوى لاحتكار الحقيقة وإقصاء الرأي المخالف أو التأسيس لأي امتياز، وإنما مساواة تامة أمام القانون حقوقاً وواجبات، بما لا يدع مجالاً لمصادرة الرأي المخالف وحرمان حَمَلَتِهِ من حق التعبير عنه والدعوة إليه وتجميع الناس حوله وترشيحه للحكم دون أدنى تمييز وذلك ما التزم كغيره بأخلاقيات الحوار ومقتضيات التعايش السلمي بمنأى من إغراءات العنف.
 
*كيف كانت مواقفكم وعلاقتكم مع الأحزاب العلمانية المتواجدة في الساحة التونسية ؟
 
** إن المنطلقات التي تم تبنيها دفعتنا إلى المناداة بتعددية كاملة لا تستثني ولا تقصي صاحب فكرة مهما كانت مصادمة لتصوراتنا العقدية مثل الأيديولوجية الشيوعية.
 
 
ولقد كان جوابنا صريحاً خلال الندوة الصحفية التي أعلنا فيها يوم6 -6-1981 عن حركة الاتجاه الإسلامي، عندما سئلنا عما سيكون موقفنا لو أن شعب تونس اختار في انتخابات حرة الحزب الشيوعي بأغلبية؟ لم نتلعثم في الجواب: «ليس أمامنا إلا أن نحترم خيار الشعب، ما احترم الفائز قانون اللعبة». رغم أننا نستبعد هذه الفرضية التي لم تحصل قط في بلد إسلامي، ونادراً جداً ما حصلت في غيره، ولو أنها حصلت لكان حرياً بالإسلاميين أن ينحوا باللائمة على أنفسهم ويراجعوا برامجهم ويجددوا من أساليبهم.
ذلك خيارنا، بينما عموم التيار الإسلامي لئن كان يمارس في الواقع العمل ضمن تعددية مفتوحة على الجماعات العلمانية ويتعاون معها ويطالبها بالاعتراف بشرعيته ويتداول وإياها إدارة النقابات مثلاً ويعايشها في البرلمانات وحتى في السلطة التنفيذية إلا أنه يغلب عليه الإحجام عن التنظير لهذا الواقع التعددي الذي يبدو دخيلاً على تجربتنا التاريخية حيث كان الإسلام يؤطر كل شيء، رغم أن لتجربتنا التاريخية ما تزهو به في التعايش بين المختلفين ضمن مجتمعات مفتوحة لكل ضروب التعدد العرقي والديني والسياسي حتى إنَّ مما يفخر به تاريخنا الحضاري خلوه من تجارب التطهير العرقي والإبادة الدينية، فكانت «الذمة» - وهي صيغة متقدمة للمواطنة في العهود القديمة - تمنح جنسية الدولة المسلمة لغير المسلم حتى لعابد وثن حسب تعبير الفقيه المغربي ابن عبد البر.
 
وعلى كل حال هي صيغة قد انتهت بانتهاء الشرعية التي تأسست على الفتح، أنهاها الاحتلال الغربي، وقامت بديلاً عنها شرعية التحريرعلى أساس المواطنة بناء على اشتراك الجميع بصرف النظر عن معتقداتهم في مهمة المقاومة والتحرير، حتى إذا نجحوا في طرد المحتل قامت صيغة جديدة للدولة على أساس جديد هو شرعية التحرير، وهو أمر مهم جداً نبه إليه الفقيه الدستوري محمد سليم العوا يغفل عنه كثيرون، فلا ينتبهون لما حصل من انقطاع في سياق التجربة الإسلامية.
 
غير أنه بحكم أن المرء لا يطيق طويلاً التباين بين فكره وسلوكه سيصير التيار الإسلامي الوسطي إلى مزيد من التطور فيؤسس لتعددية كاملة لا تقصي صاحب فكرة وهو ما فعله التيار الإسلامي النهضوي، عن طريق التأسيس لفكر إسلامي سياسي يستوعب كل مكونات مجتمعاتنا الإسلامية الحديثة تواصلاً مع دستور المدينة المنورة الذي لم يقص عنصراً من عناصرها، على أساس حقوق واسعة للمواطنة، بعدِّ المواطنين غير المشاركين في العقيدة جزءاً من الأمة بمعناها الثقافي الحضاري والسياسي «هم مع المؤمنين أمة من دون الناس» حسب تعبير الصحيفة.
 
"النهضة" والسلطة
 
* وماذا عن علاقتكم بالسلطات التونسية؟
** لقد كان المؤتمر الأخير للحركة صريحاً في بيانه الختامي في اعتماده مبادئ الديمقراطية والعلنية والسلمية والدعوة إلى المصالحة الوطنية الشاملة، والتخلي في المدى المنظور عن الحق في المنافسة على السلطة في المستوى الرئاسي على الأقل، تقديراً منا لجملة الظروف المحلية والدولية.
 
كما أن من خصوصيات حركتنا إقدامها أكثر من مرة على تقويم مسارها وبالخصوص مسار المواجهة الأخيرة مع السلطة في بداية التسعينيات على خلفية تزييف السلطة للانتخابات، والاستعاضة بتعددية شكلية بمشاركة أحزاب كرتونية مصطنعة، عن أحزاب ذات عمق شعبي مثل النهضة التي حصلت القوائم المدعومة من طرفها في انتخابات 89على حوالي20% من الأصوات حسب اعتراف السلطة ذاتها.
وهي النسبة التي قررت السلطة في الانتخابات اللاحقة التبرع بها «كوتا» للأحزاب المصطنعة بدل أن تعطى لمستحقها الذي أدارت عليه رحى الاستئصال.
 
قررت الحركة في أول اجتماع قيادي لها في المهجر إثر المواجهةسنة 1992 القيام بتقويم شامل لتلك المواجهة شارك فيه كل أبناء الحركة واعتمد رسمياً في مؤتمر1995 وتقرر نشره معيداً بناء الأحداث مستخلصاً العبر والنتائج مسجلاً على كل أطراف تلك المواجهة السلطة والحركة والمعارضة أخطاءه ومسؤولياته.
 
* هل لهذه الخصوصيات علاقة بأحداث 11سبتمبر 2001 ؟
** لست أرى شيئاً من ذلك فنحن في خط متصل تراكمي بدأ منذ أول إعلان عن معالم عامة لهوية الحركة (انظر البيان التأسيسي المنشور بكتابي: الحريات العامة في الدولة الإسلامية، وفي كتابي :من تجربة الحركة الإسلامية في تونس).
 
وبسبب ترسخ هذا المسار ثقافة للحركة وسياسات فقد فشلت سلطة القمع في تونس التي امتطت صهوة أحداث 11سبتمبر واضعة نفسها في مقدمة الدول السباقة إلى التنبيه لخطر الإرهاب، وخطر إيواء الإرهابيين إلا أن الآخرين لم يستمعوا لصوت الناصح المجرب فوقع ما وقع، وفشلت رغم كل محاولاتها و«تعاونها» اللامحدود في الحرب الدولية على الإرهاب فشلت في إقناع الأمريكان أوالأوربيين عامة في إدراج النهضة ضمن أي قائمة من قوائم الإرهاب، وظل زهاء أَلْفَيْنِ من لاجئي النهضة والمتعاطفين معها يتمتعون بحق اللجوء في كل دول الاتحاد الأوربي وكندا ونيوزيلندا.
 
وباءت حتى في المستوى الإعلامي كل محاولاتها في التأثير في الرأي العام الغربي والضغط على الإدارات عن طريق توريط صحف غربية في نشر تقارير زائفة عن ضلوع النهضة في أعمال إرهابية وعلاقات مع منظمات إرهابية باءت بالفشل؛ إذ كنا نبادر إلى تحدي تلك التقارير الصحفية المزيفة أمام القضاء فأنصفنا في ثماني قضايا رفعناها ضد صحف غربية وعربية تصدر في الغرب رمتنا بتهم لم تستطع أن تثبتها أمام المحاكم ممّا اضطرها للاعتذار ودفع تعويضات لنا بمئات آلاف الدولارات، فكان تأثير أحداث 11سبتمبر محدوداً جداً فيما يخصنا. ولكوننا حركة مهاجرة إلا أنه بحسباننا جزءاً من الحالة الإسلامية في الغرب فقد مسناً التأثير ولا شك..إذ تصاعدت حالة الحصار وضاق الخناق على الإسلام وأهله يوماً بعد يوم بفعل استغلال القوى المعادية للإسلام لحماقات جماعات العنف تصل إلى حد الإجرام والتوحش.
 
 إلا أن سلطة القمع في تونس التي امتلأت غبطة بكل ما أصاب المسلمين في الغرب من تبعات أحداث العنف وظلت تعاودها الآمال بعد كل حدث أن تتم الاستجابة لمطالبها في تجريم الإسلاميين بالجملة ودون بينة غير ما تقدمه عنهم من روايات موضوعة سفيهة هي نسخة مما ادَّعتْهُ عنهم في الداخل لإقصائهم وإفراغ السياسة من المنافسة، مما لم يثبت منه شيء أمام القضاء الغربي، إلا أن السحر بدأ ينقلب على الساحر من خلال بدايات حقيقية لتحول الاستراتيجية الغربية في مقاومة الإرهاب من حال اعتبار الدول الدكتاتورية في المنطقة حليفاً في الحرب على الإرهاب إلى عدِّها مزرعة لتفريخه، وأنه لا سبيل إلى تجفيف ينابيع الإرهاب الذي ضرب في القلب الغربي وهدد مصالحه إلا بتجفيف ينابيع الدكتاتورية.
 
وفي هذا الصدد اندرجت زيارات مسؤولين أمريكيين سياسيين وأمنيين إلى تونس، وخاصة في عهد الرئيس بوش، ولقاءاتهم العاصفة برئيس الدولة وذلك بعد توارد التقارير الأمنية الأمريكية والعراقية عن تعاظم الوجود التونسي المقاتل ضد الأمريكان في العراق. وتفسير ذلك تصاعد نمو صحوة دينية في تونس مع غياب إمكانات تأطيرها.
 
الحركة الإسلامية والديمقراطية
 
* انطلاقا من تجربتكم في "النهضة" هل ترى أنه يمكن للحركات الإسلامية أن تتمثل الديمقراطية فعلاً وأن تنتجها؟ وهل يمكن أن يقبل الإسلام بوجود أحزاب ملحدة؟
** إن الإسلام أسعد الأيديولوجيات بالديمقراطية التعددية، فهو أول دين اعترف بالتعدد الديني واختلاف الأمم. وتعددت أساليب نكيرهِ لكل ضروب الإكراه.
 
الحركة الإسلامية في مسارها العام تطالب بالديمقراطية وتمارسها داخلها (عقدت حركتنا على سبيل المثال خلال ربع قرن سبعة مؤتمرات وتداول على رئاستها عشرة رؤساء، رغم أن بعضهم ابتلي بشهرة أكبر من الآخرين، وقرار الشورى فيها ملزم شأن سائر غيرها في الجسم الرئيس للتيار الإسلامي)، أما الاعتراف بالأحزاب الملحدة فقد غدا مسألة متخيّلة،من قبيل أرأيت لو؟ ذلك أنه مع صعود المد الإسلامي في الشارعين العربي والإسلامي لن يبق حزب في الساحة يجد من القناعة أو من المصلحة ما يغريه بإعلان إلحاده وهو يتوفر على قدر من الطموح في السلطة واستقطاب جماهير لا تجتمع على شيء كما تجتمع على الإسلام.
 
وهو ما دفع غالبية الأحزاب الشيوعية إلى تغيير أسمائها لتستبدل الانتساب إلى الشيوعية بالانتساب إلى الديمقراطية وأمثالها، بل ترى زعاماتها تحرص على شهود المناسبات الدينية كما فعل رئيس الحزب الشيوعي التونسي. وبعضها ينسق في أكثر من قطر جهوده مع التيار الإسلامي على أساس الدفاع عن الحريات ومواجهة الاستبداد والفساد.
 
إن الإسلام ليس مجرد عقيدة ودين إنه إلى جانب ذلك ثقافة وحضارة تجمع المسلم وغير المسلم، بل لك أن تقول تجمع المسلم بالعقيدة والمسلم بالثقافة والانتماء الوطني والحضاري، وبلغة دستور المدينة يمثل كل مواطني الدولة الإسلامية المسلم وغير المسلم أمة من دون الناس؛ الأمةَ الإسلامية والحضارةَ الإسلامية التي مثلت وعاء انصبت فيه جهود مئات الأقوام والديانات.
 
وعلى العموم ما ينبغي للدولة أن يكون لها سلطان على عقائد الناس ولا لها التفتيش فيها، فتلك مسألة مردها إلى الله. ومهما توافرت حرية التفكير والمجادلة بالحسنى بمنآى عن التعنيف والإكراه فليس يعجز أهل الإسلام عن الدفاع عن معتقداتهم والشهادة لها.
 
وما شهد التاريخ أن الإسلام غُلب في مناظرة حرة كيف وهو يكرر التحدي " قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ"، ولا معنى لهذا التحدي في غياب الخصوم الأكفاء أو كمِّ أفواههم ورفع سيف التهديد بقطع الرقاب فوق رؤوسهم.
 
ولكم حفلت بلاطات الملوك المسلمين بالمناظرات الحرة بين علماء مسلمين ينتمون إلى فرق إسلامية مختلفة أو بينهم وبين ممثلين لعقائد أخرى. وما كانت تنتهي تلك المناظرات بقطعِ رأس المخالف.
 
ما نحن على يقين منه أن الرصيد الأعظم للإسلام في بنك البقاء والخلود والانتشار لا يتمثل في سيف السلطان وإكراها ته بقدر ما يتمثل فيما يتوافر عليه من مرونة وملاءمة لفطرة الإنسان من ناحية، وما يتوافر عليه – من ناحية أخرى - مجتمع المسلمين أفراداً ومجتمعات من شعور بالمسؤولية عن تمثيل الإسلام ونشره وخدمته وبذل النفس والنفيس للذب عنه.
 
ويمكن عدُّ شعور كل مسلم بالمسؤولية أمام الله عز وجل عن نفسه وعن الإسلام وأمة الإسلام مكمن قوة هذا الدين.
 وأداء هذا الواجب بحاجة إلى الحرية والحوار المفتوح، وعلى الضد من ذلك كانت دوماً مناخات القصر والأصر والأطر والترهيب وبالاً على الإسلام ولا تفرّخ غير جراثيم الانحطاط.
 
 إن الدولة كانت في أغلب تاريخ الإسلام كلا على الإسلام، واستنقاصاً من مثالياته، وكان من أهم حسناتها أن سلطانها على الخلق كان محدوداً لا دخل له في مسائل الثقافة والفكر والدين وما إليها من تعليم ومعابد ووقف وفقه وتفسير.. إلخ، ولذلك أمكن للحضارة الإسلامية أن تمتد لقرون طويلة وأن تزهر مجتمعات الإسلام بمختلف العلوم وترفل بالتجارة الحرة والمناظرات المفتوحة والجولان الطليق للأفكار والمذاهب والسلع والأشخاص ضمن عالم إسلامي فسيح وحّدته العقيدة والثقافة والتجارة رغم صراعات الدول وضروب استبدادها وفسادها الغالبة.
 
وأشد ما ابتلي به تاريخ الإسلام وما مثّل تهديداً حقيقياً ومبعث ضروب كثيرة من التطرف هو اتساع نفوذ الدولة الحديثة في عالم الإسلام بخاصة، واستهدافها للإسلام بالسيطرة على علمائه ومساجده ومدارسه ومصادرتها لأوقافه، ذلك هو التحدي الأعظم للإسلام المعاصر وليس وجود أحزاب ملحدة مما هو من قبيل المسائل الافتراضية وبالخصوص مع ما شهدته وتشهده مذاهب العلمنة المتطرفة من ذبول وشيخوخة وانهيارات، مقابل حالة الفوران والحيوية التي يشهدها الإسلام.
 
وعلى العموم لو أن أحداً مثلي كان كفيلاً بإقناع من لم يقتنع بعد من الإسلاميين بالقبول بمقتضيات الديمقراطية ومنها الاعتراف بحقوق للمواطنة متساوية لغير المسلمين وحتى للملحدين؛ ومنها الحق في تشكيل الأحزاب وإن تكن علمانية، فمن يكفل لي مهمة إقناع الفراعين الذين يتحكمون في رقابنا وفي أنفاسنا وأقواتنا وكل مقومات حياتنا، ومن حولهم لفيف من السحرة يدبجون لهم الخطب ويفلسفون لهم سياسات ودعايات وثقافات تحتكر السلطة وتقصي التيارات الثقافية والسياسية ذات التمثيلية الشعبية الحقيقية وبالخصوص الإسلاميين فمن يكفل لنا إقناع هؤلاء بالنزول درجة واحدة عن مقام الألوهية؟ ذلك هو المشكل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق