الاثنين، 3 يناير 2011

الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و ضوابطهما بقلم سعد الدين العثماني

الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.. يجب أن تكون المصلحة فيه راجحة على المفسدة. وقد يكون من واجب العالم أو الداعية "العفو (أي السكوت) عند الأمر و النهي في بعض الأشياء, لا التحليل و الإسقاط. مثل أن يكون في أمره بطاعة فعلا لمعصية أكبر منها, فيترك الأمر بها دفعا لوقوع تلك المعصية (…)، ومثل أن يكون في نهيه عن بعض المنكرات تركا لمعروف هو أعظم منفعة من ترك المنكرات, فيسكت عن النهي خوفا أن يستلزم ترك ما أمر الله به و رسوله مما هو عنده أعظم من مجرد ترك ذلك المنكر".[1]

"فالعالم تارة يأمر، وتارة ينهى، وتارة يبيح، وتارة يسكت عن الأمر أو النهي أو الإباحة (…).

فأما إذا كان (الشخص) المأمور والمنهي لا يتقيد بالممكن إما لجهله وإما لظلمه، ولا يمكن إزالة جهله وظلمه، فربما كان  الأصلح الكف والإمساك عن أمره و نهيه، كما قيل: إن من المسائل مسائل جوابها السكوت. كما سكت الشارع في أول الأمر عن الأمر بأشياء والنهي عن أشياء حتى علا الإسلام و ظهر. فالعالم في البيان والبلاغ  كذلك، قد يؤخر البيان والبلاغ لأشياء إلى وقت التمكن، كما أخر الله سبحانه إنزال آيات وبيان أحكام إلى وقت تمكن رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليما إلى بيانها[2]".

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجب ألا يؤدي – إذن – إلى منكر أكبر وإلا كان محظورا شرعا. والعالم أو الداعية عندما يسكت عن الأمر بمعروف أو عن النهي عن منكر لتضمنه لمفسدة أكبر، لا يسمى عاصيا أو ساكتا عن الحق، ولا يجب أن يكون عرضة للتهمة والتجريح، بل الذي لا يراعي قاعدة الموازنة، ويقدم في مجال الدعوة على أمور تسبب ما هو أبغض إلى الله ورسوله من انتشار للمنكر وانتفاش لأهله أولى باللوم.

وقد مر ابن تيمية هو وأحد أصحابه في زمن التتار بمجموعة منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم من كان معه، لكن ابن تيمية عاب عليه قائلا: إنما حرم الله الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال فدعهم[3].

"ومن تأمل ما جرى على الإسلام في الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل وعدم الصبر على منكر, فطلب إزالته فتولد منه ما هو أكبر منه، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها، بل لما فتح مكة وصارت دار إسلام عزم على تغيير البيت ورده على قواعد إبراهيم، ومنعه من ذلك –مع قدرته عليه – خشية وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش لذلك لقرب عهدهم بالإسلام و كونهم حديثي عهد بكفر، ولهذا لم يأذن في الإنكار على الأمراء باليد، لما يترتب عليه من وقوع ما هو أعظم منه [4]"

 

الـــــــــــفسوق مراتب

ونختم أخيرا بمثال نكتفي باقتباسه لوضوحه، وهو لعز الدين بن عبد السلام الملقب بسلطان العلماء. وفيه يقول: "إذا تفاوتت رتب الفسوق في حق الأئمة (أي ولاة الأمور) قدمنا أقلهم فسوقا، مثل أن يكون فسق أحد الأئمة بقتل النفوس، و فسق الآخر بانتهاك الأبضاع (أي الزنا)، وفسق الآخر بالتعرض للأموال: قدمنا المتعرض للأموال على المتعرض للدماء والأبضاع، فان تعذر تقديمه قدمنا المتعرض للأبضاع على من يتعرض للدماء، وكذلك يترتب التقديم على الكبير من الذنوب والأكبر، والصغير منها والأصغر على اختلاف رتبها.

فإن قيل: أيجوز القتال مع أحدهما لإقامة ولايته وإدامة تصرفه مع إعانته على معصيته؟ قلنا: نعم، دفعا لما بين مفسدتي الفسوقين من التفاوت، ودرء للأفسد فالأفسد.

وفي هذا وقفة وإشكال من جهة أنا نعين الظالم على فساد الأموال دفعا لمفسدة الأبضاع وهي معصية، وكذلك نعين الآخر على إفساد الأبضاع دفعا لمفسدة الدماء وهي معصية، ولكن قد تجوز الإعانة على المعصية لا لكونها معصية بل لكونها وسيلة إلى تحصيل المصلحة الراجحة…[5]".

المـــــــؤمن مرن كــــــــــخامة الزرع

إن الأمثلة التي سلفت تبين المرونة التي يجب أن يتحلى بها المؤمن في معاملاته وفي دعوته، فهو يجب أن يكون هينا، لينا، سهلا، سمحا، يألف و يؤلف… هكذا وردت صفاته في السنة.

والدعوة مع هذا، دعوة رحمة وهداية وسلم، دعوة تهدف إلى التيسير على الناس و التخفيف عنهم، وليست دعوة  اعنات ومشقة وتعسير… ﴿وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين﴾. الأنبياء/ 107. بعثت بالحنفية السمحة ".

لهذا ورد في الحديث تشبيه المؤمن بخامة الزرع التي تتعامل مع الريح في ليونة، فإذا هبت عاصفة لم تبق عنيدة صماء، بل تحني رأسها وتنساب في اتجاهها، فقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مثل المؤمن كمثل خامة الزرع من حيث أتتها الريح كفتها، فإذا سكنت اعتدلت، وكذلك المؤمن يكفأ بالبلاء. ومثل الفاجر كالأرزة  صماء معتدلة حتى يقصمها الله إذا شاء".

ولو تتبعت سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم لرأيت هذا الصبر عند البلاء ومرونة خامة الزرع في أمثلة حية. ونجد مثالا واضحا في كتابة صلح الحديبية بين النبي وبين المشركين. وكان الذي مثلهم سهيل بن عمرو، والكاتب هو علي بن أبي طالب. فألح سهيل على أن يمحى من الصحيفة: "هذا ما صالح عليه رسول الله"، قائلا: "لا تكتب رسول الله فلو نعلم أنك رسول الله لم نقاتلك". فقال النبي صلى الله عليه و سلم لعلي: "امحه". لكن عليا لم يرد محوها، فمحاها الرسول صلى الله عليه وسلم بيده الكريمة[6].

ونسارع لنؤكد أن هذا ليس خدعة ولا مكايدة، بل مرونة وليونة منه صلى الله عليه وسلم. كأنه يعلمنا أن تحقيق التصالح والسلم لا يجوز أن تشوش عليه شكليات، وأن السعي إلى مقاصد الشرع أكبر من أن يعطل لمظاهر أو جزئيات … لأن التساهل في هذه الشكليات والمظاهر لا يغير من واقع الحال شيئا، بينما التعصب لها يضيع مصالح واقعية للدعوة والأمة.. فمحو رسول الله صلى الله عليه وسلم للبسملة ولنسبة الرسالة إليه لا يغير من حقائق الإيمان في الواقع وفي قلبه الشريف وقلوب المؤمنين معه شيئا، فإنما محا مدادا على مدادا على ورق، بينما التعصب لإثباتهما في وثيقة الصلح، ربما يعرض هذا الصلح المرتقب للانهيار…

هكذا مضت سيرة رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، وهكذا يجب أن يمضي الدعاة من بعده؛ لا يضيعون مقاصد الدعوة والأمة ومصالحهما لشكليات ومظاهر، لا يحيدون عن خط الليونة والمرونة والتيسير…

الأمور بـــــــــــــــــــــمقاصــــــــــــــدها

لكن النظر إلى العمل الدعوي في إطار هذه القواعد والأصول لا يمكن أن يجدي إلا إذا عرفنا أن الحكم الشرعي في أي تصرف مرتبط أيضا بقصد فاعله ونيته. ولهذا فكل عمل دعوى أو إجراء قصد به مصلحة الإسلام والمسلمين فهو جائز إن لم يكن واجبا، وإن قصد به العكس من ذلك فهو مدان وغير مشروع. والفعل الواحد قد يكون حلالا تارة وحراما تارة أخرى بحسب نية فاعله.

والأصل في هذه القاعدة قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى[7]". كما أن العديد من الأحاديث ترشد إليها، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "من تعلم العلم ليباهي به العلماء، أو يماري به السفهاء، أو يصرف به وجوه الناس إليه ادخله الله جهنم[8]". فهذا عمل مشروع ينقلب إلى معصية تدخل النار بسبب نية صاحبه المنحرفة. ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله[9]". فعملية الاقتراض هنا واحدة لا تتغير، لكن تكون طاعة يعان صاحبها أو معصية يعاقب بحسب نيته.

وفي الحديث الصحيح نجد أيضا قوله صلى الله عليه وسلم: "من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة[10]". فجر الثوب يكون حراما إذا كان كبرا وخيلاء، وإلا فليس حراما. ولذلك لما قال أبو بكر: يا رسول الله إزاري يسترخي إلا أن أتعاهده، قال صلى الله عليه وسلم: " انك لست ممن يفعله خيلاء[11]". فالنية و القصد هما اللتين أحالتا هذا العمل الجائز في الأصل حراما.

وتتضافر النصوص الشرعية المسطرة لهذا الأصل الشرعي، ولذلك يقول ابن القيم: "وقاعدة الشريعة التي لا يجوز هدمها أن المقاصد والاعتقادات معتبرة في التصرفات والعبارات كما هي معتبرة في القربات والعبادات، فالقصد والنية والاعتقاد يجعل الشيء حلالا أو حراما، وصحيحا أو فاسدا، وطاعة أو معصية، كما أن القصد في العبادة يجعلها واجبة ومستحبة أو محرمة أو صحيحة أو فاسدة[12]". وهكذا فإن عصر العنب بنية أن يكون خمرا معصية ملعون فاعله على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وعصره بنية أن يكون خلا أو عصير فاكهة جائز، رغم أن صورة الفعل واحدة، وبيع السلاح لمن  يعرف أنه سيقتل به بريئا حرام، وبيعه لغيره حلال[13]".

وإذا ظلم إنسان وطلب منه الظالم مالا ليكف عنه ظلمه. ( فتوسط رجل بينهما ليدفع عن المظلوم كثرة الظلم، وأخذ منه وأعطى الظالم مع اختياره ألا يظلم (…) كان محسنا، ولو توسط إعانة للظالم كان مسيئا[14] ).

لقد أدى الجهل بهذه القاعدة أو عدم الانتباه إليها إلى تصنيف أعمال الآخرين عشوائيا وبالنظر فقط إلى بعض الظواهر، وإطلاق الاهتمام لها دون ضابط. ولما جعل الله النيات والمقاصد مكنونة في قلب الإنسان، ولا يمكن أن يطلع عليها بشر، فانه نهى عن الحديث فيها بالظن والتخرص، دون تثبت ودون بينة قطعية، فقال تعالى "يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن، إن بعض الظن إثم" (الحجرات/12).

وقال رسول الله (ص): "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث[15]". ويقول عمر بن الخطاب: "ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن إلا خيرا وأنت تجد لها في الخير محملا[16].

 

عــــــــــــــــــــــــــــــــود عــــــــــــــــــــــــــــــلى بدء

وبعد، فليس المقصود من كل ما ذكرنا تسويغا لباطل، أو إقرارا لمنكر… بل المقصود أن يكون عمل الدعاة، ومدافعتهم للباطل، وإنكارهم للمنكر في حدود الشرع، ووفق قواعده وأصوله، وبآدابه وسلوكه…

فلا معنى – شرعا ولا عقلا- للإقدام على خطوة إلا إذا كانت مصلحتها للدعوة راجحة، ولا معنى –شرعا وعقلا- للدخول في متاهة تصد عن الله أكثر مما ترد إليه، وتضع عقائد وأفكار وأعراض وأموال…أمة من المسلمين في خطر…

كما أنه لا معنى-شرعا ولا عقلا- لجعل أمور اجتهادية، مبنية على فقه معين في الدعوة وخطواتها وأسسها الشرعية وأهدافها الواقعية، أساسا للولاء أو العداء، ومنطلقا للاتهام والتجريح، فما وسعه الله لا يمكن أن يضيقه إنسان.

وأخيرا، فليست هذه إلا محاولة لدعوة العاملين في الدعوة الإسلامية إلى مراجعة مفاهيمهم وتصوراتهم في ضوء المبادئ الشرعية، وإلى التسلح بالنظرة العملية للأمور، والتخلص من المسبقات ومن الأحكام العاطفية… فكل هذا شرط أساسي للمساهمة الجادة في إصلاح أحوال الدعوة والأمة وفي انطلاق البعث الحضاري المنشود.


[1] - ابن تيمية: الفتاوي، 20/8 ، و انظر 28/126- 131 .

[2] - نفسه، 20/58.

[3] - ابن القيم: أعلام الموقعين ، 3/16.

[4] - نفسه، 3/15 -16 . وانظر: الشاطبي، المرافقات، 4/194 -198.

[5] - العز بن عبد السلام: قواعد الأحكام في مصالح الأنام، 1/74-75

[6] ـ  أخرجه مسلم، كتاب الجهاد والسير، الحديث رقم 1793.

[7] - البخاري و مسلم عن عمر بن الخطاب .

[8] - ابن ماجة عن أبي هريرة ، صحيح الجامع الصغير ، 5/272 .

[9] - البخاري و احمد في المسند و ابن ماجة عن أبي هريرة – صحيح الجامع الصغير 5/232 .

[10] - البخاري و مسلم و غيرها عن عمر – (صحيح الجامع الصغير، 5/279).

[11] -  البخاري عن ابن عمر، مشكاة المصابيح 2/481.

[12] - أعلام الموقعين، 3/108.

[13] - نفسه ، 3/22، وابن نجيم الحنفي: الأشباه والنظائر، دار الفكر، دمشق، 1986، ص22-23، وغلى حسب الله: أصول التشريع الإسلامي، دار المعارف بمصر ، الطبعة الخامسة ، 1976 ، ص 313 -314.

[14] - الفتاوي ، 20/55.

[15]- البخاري ومسلم وغيرهما (صحيح الجامع الصغير، 2/385).

[16] -ابن كثير: التفسير، دار الفكر، بيروت، 1980 ، 4/213 .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق