الأربعاء، 5 يناير 2011

نحوَ مشروعٍ حضاريٍّ لإحياء الـقِـيَـم الإسلامية بقلم عصام البشير

القيم هي، في التحليل الأخير، معاقد النظم الاجتماعية، ومحور بناء رؤيتها الحضارية. وعلى أساس منها تبني المجتمعات تصوراتها وأنماطها الحياتية.
وهذه الورقة محاولة في سبيل جمع أبرز عناصر قيم المشروع الإسلامي التي تمثل قاسماً مشتركاً يلتقي عليه كثير من أمم الأرض. فهي قيم تنبع من الفطرة الإنسانية العامة، وتستند إلى رصيد وافر من تطلعات البشر نحو عالمٍ خالٍ من الظلم والعدوان.. عالمٍ يسوده العدل والمرحمة.

ومن شأن هذ الطرح أن يكون دعوةً للعقلاء جميعاً ـ مسلمهم وغير مسلمهم ـ للوصول إلى عالمية عادلة تتمثل فيها المنظومات القيمية لتحقيق أمورٍ، من أهمها:
·         العمل على تحييد القيم الروحية والأخلاقية، وبعث روح المسؤولية بين الأجيال.
·         إعادة التوازن بين حركة العلوم والتكنولوجيا.. من جهة، وبين التعاليم الدينية والمبادئ الأخلاقية.. من جهة أخرى؛ من أجل ضبط حركة الانتفاع بثمرات النتاج المعرفي لتكون في صالح كرامة الإنسان وسلامة البيئة والتعايش البشري الآمن.

أولاً: ماهية النظام القيمي

القيم جمع قيمة، وهي ما يكون به الشيء ذا ثمن أو فائدة، يقول المثل العربي: "قيمة كل امرئ ما يحسنه".
وتشير القيمة إلى الخصلة الحميدة، والخلة الشريفة التي تحض الإنسان على الاتصاف بها، كحرصه على اقتناء الأشياء ذات القيمة الثمينة والاحتفاظ بها.
والقيمة ثمن الشيء الذي يقوم مقامه.
وترد القيم مفردًا مصدرًا، ومنه: "دِينًا قَـيـِّـماً.. ملَّـةَ إِبْرَاهِيمَ" (الأنعام:161)، في قراءة جماعة من القراء، وقرأت طائفة "دِينًا قِيـَمـًا" أي مستقيمًا أو كافيًا لمصالح العباد يقوم عليها.
وكذلك ورد في قوله تعالى: "وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا"(النساء:5)، في قراءة نافع، أي: بها تقوم أموركم.

أما النظام القيمي؛ فهو مجموعة المعايير السلوكية التي يتواضع عليها المجتمع، والتقاليد والأعراف التي تكون بمجموعها قوى موجهة لسلوك الفرد والمجتمع، يتحدد على ضوئها الممنوع والمسموح. وهي تشكل جوهر النظام الاجتماعي وأدوات التكيف الثقافي، يكتسبها الفرد عن التنشئة الاجتماعية والتطبيع الثقافي. وهي تختلف من حيث شدة تأثيرها في سلوك الفرد، كما أن الأفراد أنفسهم يختلفون من حيث الانقياد لها والالتزام بها بوصفها حدوداً سلوكية فاصلة بين القبول أو الرفض الاجتماعي.
وإذا كان نظام القيم الإسلامي له ذلك الأثر العظيم في بناء الشخصية والمجتمع؛ فمن الطبيعي أن يكون له أثره في البناء الحضاري الشامل. وأساس ذلك أن النظام القيمي الإسلامي يستأصل نزعات الشر من النفوس، المتمثلة في الظلم والجبروت والتسلط على رقاب الناس والسعي إلى استعبادهم وإذلالهم لإشباع النزوات الفردية المريضة. ‏

بيد أن أهم تحدٍّ تواجهه عملية بناء ميثاق للقيم يلتقي عليه أغلب بني البشر هو الاختلاف الكبير في مفهوم"القيمة" بين كثير من شعوب العالم التي تدين بإطلاقية القيم وصلاحيته لكل زمان ومكان وبين قطاعات واسعة من قوى الهيمنة في العالم الغربي لا تؤمن بإطلاقية القيم، بل وتؤمن بنسبيتها، فالنسبية المطلقة هي المطلق الوحيد في منظومتها القيمية. ولعل ذلك مما يضعف عمليات بناء أي مشروع قيمي أخلاقي يمثل ميثاق شرف بين الناس جميعاً.

ومع هذا.. تظل منظومة القيم الأخلاقية التي تحرم العدوان والظلم وتحض على التسامح وكف الأذى هي القيم التي يلتف حولها أغلب شعوب المعمورة. وهذه القيم الجوهرية تمثل القاسم المشترك بين بني البشر، ولها من الإطلاق والثبات ـ النسبـيـين ـ ما يجعلها مؤهلةً لأن تجتمع عليها جموع الإنسانية.
  •  فالإسلام هو الرسالة العالمية الفريدة التي تحولت بالخطاب الحضاري البشري من مفرداته الإقليمية إلى آفاقه العالمية.. قال تعالى: "قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً"(الأعراف: 158).
  • وهو الرسالة الوحيدة التي قررت التحول بالنهج البشري من ضيق القوميات المتعددة إلى أفق أكثر اتساعا من العالمية، والتوسع بمصالح الناس والنفع من الخصوصية إلى العمومية على أساس من التبادل العادل للمنافع، انطلاقاً من حقيقة أن "الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار".. وكذلك حقيقة أن "خير الناس من ينفع الناس".
  •  كما قرر الإسلام قاعدة التدافع والتعاون البشري من أجل صرف الفساد عن الأرض وإقامة الأمن فيها.. قال تعالى: "وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ" (البقرة: 251).
وبذلك يكون الإسلام قد أحدث تحولاً جذريًّا في حياة الناس، وهو يرتقي بهمومهم واهتماماتهم ومسئولياتهم، من المستوى القومي والإقليمي إلى المستوى العالمي، بقرار وحدة الأسرة البشرية وتكامل مصالحها وأمنها، وأن الأرض سكنهم المشترك.. ينبغي المحافظة على سلامتها، وعدم إفسادها، وأنها خزانة رزقهم، وعليهم أن يحسنوا استخدام مفاتيحها، وأن يتقنوا فنون ومهارات تفعيل مخزونها، وعليهم أن يلتزموا قيم العدل والإحسان في نظم ومعايير الانتفاع بمسخراتها، بما يحقق كرامة الإنسان وأمنه وكفايته.
ثانياً: عناصر المشروع الحضاري الإسلامي لإحياء القيم

مما ينبغي أن ينتبه إليه المسلمون، وأن يتولوا تبليغه للعالمين، أن الإسلام: عقيدة وشريعة ورسالة.
·         وإذا كانت العقيدة تمثل مرتكزات وثوابت ومنطلقات خصوصية الهوية الدينية الصحيحة للمسلمين؛
·         فإن الشريعة تمثل مرتكزات ومنطلقات تسيير وإدارة حياتهم.
·         أما الرسالة؛ فتمثل قيم ومنطلقات عالميـةِ المنهج الرباني المحكم لعمارة الأرض، وإقامة العدل والأمن، وتحقيق المصالح المشتركة بين الناس على اختلاف انتماءاتهم (القومية، والعرقية، والجنسية، واللونية، والدينية).. قال تعالى: "وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا. اعْدِلُوا.. هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى" (المائدة .. وقال تعالى أيضا: "لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً. وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ؛ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً . وَلَكِنْ.. لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ. فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ" (المائدة 48).

ويمكن بكثير من اليقين أن نقول: إننا نحن المسلمين نملك نظاماً للقيم يصلح أن يلتـقي عليه أغلب البشر، ويمثل قاسماً مشتركاً لأية منظومة حضارية تريد أن تقوم على الحق والعدل وحرية الإنسان وحقه في العيش كما تقرر منظومته العقائدية وكما يملي عليه نظام قيمه.

وهذه بعضٌ من أهم هذه القيم الأساسية..
(1) المساواة العادلة بين بني البشر:
فالإسلام قد ساوى بين الناس وردهم إلى أصل واحد؛ لأن رّبهم واحد، وأباهم واحد. قال الله تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ.. إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى، وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ؛ لِتَعَارَفُوا …"(الحجرات:13). وقال النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ: "يا أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد. كُلّكم لآدم، وآدم من تراب. إن أكرمكم عند الله أتقاكم. وليس لعربي على أعجمي، ولا أعجمي على عربي، ولا لأحمر على أبيض، ولا أبيض على أحمر، فضلٌ.. إلا بالتقوى" (أخرجه الترمذي).
ورسالة النبي الخاتم سيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم- هي للناس كافة.. قال تعالى: "قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ"(الأعراف: 158).

(2) احترام الاختلاف والتنوع بين الناس:
حفلت الآيات القرآنية بما يدل على أن تنوع الخلق مقصود من قبل الخالق، وان له حكماً كثيرة، ومن ذلك قوله تعالى: "إن في خلق السماوات والأرض، واختلاف الليل والنهار، والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس، وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابّة، وتصريف الرياح، والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآياتٍ لقوم يعقلون" (البقرة: 164)، وقوله تعالى: "إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولى الألباب" (آل عمران:190) ، وقوله تعالى: "ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم" (الروم: 22)، وقوله تعالى: "ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سُخريًّا.." (الزخرف: 32)، وقوله تعالى: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل؛ لتعارفوا. إن أكرمكم عند الله أتقاكم" (الحجرات: 13)..
إلى غيرها من الآيات الكريمة التي تجعل التنوع سنة إلهية ونعمة على المخلوقات.
ولا ريب في أن التنوع، وكما تنص بعض الآيات، ضروري لتحقيق التعارف الذي هو مقدمة للتعاون البنّاء ولتحقيق أهداف الخلق الإنسانية، وهو ضروري للتنافس في الخير لتحقيق الدفع التكاملي المطلوب بما فيه التسخير المتبادل للطاقات والتعاون اللازم.
ثم إن هذا التنوع لابد وأن يعني الاعتراف بتنوع الرؤى والمواقف والمذاهب.
إن الاعتراف بالاختلاف يشعر الفرقاء بجدية الحوار وأنه ليس استحواذاً ينكر فيه المرء على "آخَـره" حقه الطبيعي في الاختلاف، ويطلب منه أن يتماشى معه وكأنه يشترط ذلك مسبقاً لقبول التواصل معه. إن شعار التواصل يعني أن يقبل المرء "آخَـرَه"  كما هو.. لا كما يتمناه أو يتصوره !

(3) توسيع دوائر المشترك الإنساني:
يتحرك البشر في دوائر ثلاث تمثل دوائر المشترك الإنساني، وهي تمثل الحد الأدنى الذي يلتقي عليه أغلب البشر. وتأتي منظومة القيم الإسلامية لتوسيع مساحات تلك الدوائر الثلاثة، وتمتين علاقات الناس والشعوب عليها.
وهذه الدوائر الثلاث هي:
1. دائرة القيم الإنسانية: فكل الناس تبحث عن قيم العدل والسلام والإخاء الإنساني، وكل الناس تبغض وتنفر من الجور والطغيان.
إن حساسية الضمير الإنساني بتقديم القيم التي يؤمن بها الناس ـ كل الناس ـ من أهم أسس المنظومة القيمية الإسلامية. وقد حاولت أمم الأرض، على مدار تاريخها الطويل، جمع ذلك التراث الإنساني المشترك في وثائق ومواثيق تلتقي عليها الأمم والحضارات. ولعل مواثيق حقوق الإنسان ومواثيق الحفاظ على كوكب الأرض والبيئة والحياة نظيفةً نقيةً من أهم المحاولات لتوظيف المشترك الإنساني.
2. دائرة المبادئ الدينية: حيث تدين كثير من شعوب الأرض بديانات تلتقي على قواسم مشتركة مثل الإيمان بالله واليوم الآخر والنبوات والمعاد والحشر، وعلى مشروعية العدل، وعلى حرمة الظلم والجور.
ومما يسهل الحوار بين أتباع الأديان ذات الأصل السماوي الواحد أنها جميعاً تؤمن بنظرية الفطرة الإنسانية وتوابعها، وأنها جميعاً تؤمن بقيم مشتركة كثيرة، حتى إن المرء يكاد يلمح تطابقاً في أصول القواعد الإيمانية الرئيسية قبل أن يعتري مصادرها التحريف والتبديل.
ولما كان مجال التدين هو روح الحضارات؛ فإن الحوار بين أهل التدين يفسح المجال لحوار حضاري أصيل ممتد إلى مختلف المساحات الحياتية، ويوجه الحوار الحضاري نحو مسارات أكثـرَ إنسانيـةً.
3. دائرة المصالح المتبادلة: كقضايا التجارة في المواد الأولية والمصنعة، والطاقة، وحفظ الأمن والسلم الدوليين.. وما إليها. فجزء كبير مما يحكم علاقة البشر ببعضهم هو ما يربطهم من روابط مصلحية، وما يجمع بينهم من مصالح مشتركة. وتقوم الرؤية الإسلامية على احترام تلك الروابط وتعميقها، وجعلها تسير في إطار الصالح العام للبشر جميعاً، وفي إطار تحقيق الخير المشتركة للإنسانية جميعاً.

(4) الإعلاء من قيمة الحوار:
الحوار أحد القيم العليا في نسق القيم الإسلامية، وهو يعد الوسيلة المثلى للتواصل بين بني آدم حلاًّ للمشكلات، وتجاوزاً للعقبات، وحسماً  للقضايا. لذا.. فإن قيمة الحوار ـ بما لها من حيوية وخصوبة ـ من أهم القيم، حيث لها تأثير مباشر على حركة الحياة تقدماً واضطراداً إذا ما التزمها الناس أداةً من أدوات التفاهم البشري الرشيد.

وحتى يكون الحوار مثمراً.. يلزم تأصيله في عقول البشر، ففي عقول الناس تُبنى ـ كما يقال ـ حصون السلام ! ولإنشاء قاعدة عامة للوجود الإنساني يجب على أي حوار أن يركز على أهمية القيم المشتركة التي تعطي معنىً للحياة وتقدم شكلاً ومضموناً للهويات.
وإذا كان الحوار هو مقتضى الترابط ووحدة المصير الإنساني من جهة؛ فهو البديل الموضوعي للصراع ومنطق الغاب من جهة ثانية !
وأحسب أن الحوار الجاد بين الحضارات يؤدي إلى أربع إيجابيات: الاعتراف المتبادل، اكتشاف القيم المشتركة،  التعايش السلمي بينها، والتعاون في المجالات التي تخدم الإنسانية عامة. وهي ما يمكن أن نشكل بها قاعدة قيمية ينطلق منها أي تعاون مشترك في مجال بناء رؤى تلتقي عليها الأمم والحضارات.

(5) قيمة السلم والأمن:
لا ريب في كون الأمن مطلباً إنسانيًّا فطريًّا، يستمد جذوره من أهم غريزة وجدت في فطرة الإنسان، وهي غريزة حب الذات. وهذه الغريزة تعمل مع باقي الغرائز بشكل متناسق لتحقيق خير الإنسانية وتوازنها في سعيها لتحقيق أهدافها العليا، لكن لا يكفي وجود الدوافع الغريزية لتأمين السير المتوازن وإنما يجب توفير أجواء سلم عام حتى تأمن البشرية على سيرها وتحقيقها لأهدافها.
فالأمن إذن حاجة إنسانية دائمة لا تغيّرها الظروف ولا الحوادث، وليس ظاهرة عرضية حتى يقال بأنها معلولة لوضع اجتماعي معين. ومن هنا أيضاً.. يكون من الطبيعي أن نتصور الحاجة إلى نظام شامل يكفل حماية الأمن الفردي والاجتماعي.

(6) الحرية الإنسانية:
الحرية حريّتان: حرية الفرد ضمن المجتمع، وحرية المجتمع.
والحريتان متلازمتان، وهما مقترنتان بالواجب: واجب الأفراد في صيانة أمتهم وحريتها، و صيانة شخصيتها وحقوقها وحيويتها.. وواجب الأمة في نمو وسعادة أفرادها. وباقتران الحرية بالواجب تنشأ حالة النظام الاجتماعي المتين الذي يعطي الجماعة قوتها المادية والنفسية.

(7) قيم المجال الاجتماعي:
هذه المجموعة من أهم مجموعات القيم التي ينبغي تحصيل قدرٍ معقول من التوافق حولها فيما بين بني الإنسان؛ لأهميتها البالغة، وخطورة الآثار الناجمة عن أي خلل يصيبها.
ويمكننا أن نوجز أهم محاور هذه المجموعة القيمية فيما يلي:
·         المرأة أحـد شطري النـوع الإنـساني، قال تـعالى: "وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَـيْنِ الذَّكَـرَ وَالْأُنـثَى"(النجم:45). بل إنها أحد شقي النفس الواحدة، قال تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا" (النساء: 1)، فهي شقيقة الرجل من حيث الأصل والمنشأ والمصير، تشترك معه في عمارة الكون ـ كلٌّ فيما يخصه ـ بلا فرق بينهما في عموم الدين (في التوحيد والاعتقاد، والثواب والعقاب)، وفي عموم التشريع (في الحقوق والواجبات).. قال عز وجل: "مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ" (النحل: 9)، وقال صلى الله عليه وسلم: "إنما النساء شقائق الرجال" (أخرجه أبو داود والترمذي).
·         ومن هنا.. كان ميزان التكريم عند الله التقوى قال تعالى: "إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ"(الحجرات:13)، ولا يوجد تعبير عن هذا المعنى أدق ولا أبلغ من لفظ: "بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ"، في قوله سبحانه وتعالى: "فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ" ( آل عمران: 195)، فهما سواء في معنى الإنسانية، وفي عموم الدين والتشريع، وفي الميزان عند الله.
·         التأكيد على المسئولية المشتركة بين الرجل والمرأة في ميادين الحياة، وأنها يجب أن تقوم على أساس من التكامل المنصف بينهما والتعاون في دوائر العمل المشتركة.
·         العلاقة بين الرجل والمرأة في المجتمع وداخل الأسرة تقوم على أساس التكامل بين أدوارهما (تكاملاً وظيفيًّا). ومن مقاصد هذا التكامل: حصول السكن للرجل والمودة والرحمة بينهما، قال سبحانه: "وَمِـنْ آيَـاتِهِ أَنْ خَلَـقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتـَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَـلَ بَيْنَكُم مَّـوَدَّةً وَرَحْمَةً" ( الروم: 21)، والسكن يعني جملة من المعاني منها: الأمن، والراحة، والطمأنينة، والأنس.. وهو ما ينعكس إيجاباً عليهما وعلى أولادهما، ومن ثم.. على المجتمع كافة.
·         للمرأة دور أساسي في قوة الأسرة وتماسكها. وأي اختلال في أداء المرأة مسؤوليتَـها في الأسرة ينعكس أثره على أفرادها، فالمرأة هي قلب المجتمع.. إذا صلحت؛ صلح سائر الجسد المجتمعي.
·         التأكيد على أن الأسرة هي الوحدة الأساسية والأولية في مؤسسات المجتمع، وأنها المصدر الوحيد لأجيال مسئولة ومنتجة، تنشأ نشأة سوية.
·         التأكيد على أن الأسرة المؤسسة على التزاوج الشرعي بين الرجل والمرأة هي الوحدة الأساس في بناء المجتمعات الآمنة، وأن محاولات تقنين لقاءات الشذوذ بين نفس الجنس أو إضفاء قدر من القانونية عليها هي محاولات تؤدي إلى الإخلال بطبيعة الحياة الاجتماعية السوية.

(8) رعاية البيئة:                              
إن مقصد حفظ البيئة ورعايتها ينبغي أن يكون مقصداً كليًّا يضاف إلى مقاصد الشريعة الخمسة التي قررها علماؤنا القدامى (بالإضافة إلى سواها من مقاصد جليلة، كالحرية والمساواة.. كما اقترح العلاَّمة المحقِّق الطاهر بن عاشور رحمه الله)، فلو تصورنا استمرار التلوث البيئي على هذه الوتيرة الخطيرة؛ فسنجد أنفسنا بعيدين كل البعد عن إمكانية استمرار الاستخلاف في الأرض وإعمارها وأداء وظيفة العبودية؛ لأن استمرارية الجنس البشري يتهددها الخطر. وهذا الخطر يتعلق بحفظ الدين كما يتعلق بحفظ النفس. وكذلك الأمر بالنسبة لحفظ النسل (ليس في باب عدم اختلاط الأنساب، وإنما حفظه من أنواع التلوث التي تؤدي إلى العقم، أو الاجهاض، أو التشوهات الخلقية، أو الأمراض المزمنة).
والوعي بهذا المقصد سيؤثر على وضع القوانين الخاصة بحماية بالبيئة، وبالتالي الحكم في قضايا تلويثها. فلا بد من سَنِّ القوانين ، فإن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن. كما أن هذا المقصد سيؤثر على تصور مشروع النهضة الإسلامي الذي يراد له أن يتخطى سلبيات تطبيقات مفهومي"التقدم" و "الحداثة" في النموذج الحضاري الغربي، وليكون الشهود الحضاري الإسلامي على النماذج الحضارية الأخرى وأهلها متميزا بالوسطية في العلاقة مع الخلق والكون جميعاً.

نحو نظامٍ عامٍّ عالميّ

نحن ـ المسلمين ـ إذ ننادي بتلك القيم، ونعلي من شأن تلك الأفكار، لا ننطلق من فراغ. بل.. نستند على أساس صُلب ومرجعية عظيمة رسم معالمها وأبان سبل نهجها كتابُ الله العظيم، وسنـةُ رسوله المبعوث رحمة للعالمين محمد صلى الله عليه وسلم، وسيرةُ الخير القرون، وتاريخٌ عظيم سارت بذكره الركبان. فنحن أصلاء حضارة.. لا دخلاء عليها !
وأعظم ما نهدف إليه أن تخلِّي القوى الكبرى بيننا وبين الناس، فالحكمة ضالة المؤمن/العاقل.. أني وجدها فهو أحق الناس بها.
إن ما نريده هو أن يلتقي العالَم على ما يمكن أن نسميه "النظام العام العالمي" الذي يقوم على قيم المساواة والحق في الاختلاف، وعلى حق كل أمة استبيحت أراضيها أن ترد العدوان.
وعلى رموز الحضارة الإسلامية أن تبذل جهداً مكثفاً لإقناع الآخرين بالعدل والمحبة والإخاء والمساواة والوفاء والمسالمة. فإذا شاعت تلك القيم بين الأفراد والمجتمعات والدول؛ عند ذلك.. نرجو بروز نظام عام عالمي: ينصف الشعوب الضعيفة والأمم المظلومة، يكون الحوار وسيلته، وصالح البشرية غايته، بدلاً من نظام عالمي يقوم على المصالح الأنانية للأمم القوية، والتمييز العنصري والديني (المقنَّع أحياناً، والسافر أحياناً أخرى !)..
ويوم يأتي ذلك النظام الذي يرتكز على القيم الإنسانية المشتركة.. ينزل الفرج ويسود السلام، "ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق