الاثنين، 2 أبريل 2012

بين الرشد والتيه في تطبيقات الشورى المعاصرة ! - خصائص الشورى وضوابطها (3) - د.يحيى نعيم

 الشورى ليست توقيفية

من الخصائص المميزة للشريعة الإسلامية والتي تمنحها القدرة على مواكبة المستجدات, ومرونة التكيف والتزاوج مع الواقع على اختلاف الزمان والمكان, هو أنها لم تأت في جوانب الأخلاق والمعاملات بأحكام ثابتة تفصيلية لا تقبل التغيير أو التطوير, وإنما جاءت بتوجيهات ومبادئ وضوابط عامة, وتركت لأتباعها الاجتهاد في تطبيق هذه الأحكام بما يحقق المقاصد المرجوة.

وتعتبر الشورى واحدة من هذه المبادئ والأحكام, التي وجهت الشريعة الإسلامية لضرورة تطبيقها, دون أن تتطرق لكيفيات وتفاصيل الممارسة, فهي ليست توقيفية كأحكام العقائد والعبادات, وإنما هي من المعاملات التي مُنحت فيها الأمة والجماعة المسلمة حرية الاجتهاد في تطبيقها, بما يتناسب مع معطيات الواقع "بيئة العمل" ومتغيرات الزمان, شريطة أن تلتزم في ذلك بالمبادئ والضوابط العامة التي وضعتها الشريعة و تستضيء بالتوجيهات النبوية في الممارسة بحكم ما للسنة والسيرة من معيارية خالدة في فهم وتنزيل الأحكام.

الشورى مبدأ اجتماعي وليست نظرية سياسية وحسب:
وفي توضيح ذلك يقول الأستاذ الشهيد سيد قطب -رحمه الله-في تفسيره لقوله تعالى (والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون) "..والتعبير يجعل أمرهم كله شورى، لصبغ الحياة كلها بهذه الصبغة، وهو نص مكي قبل قيام الدولة الإسلامية, فهذا الطابع إذن أعم وأشمل من الدولة في حياة المسلمين, إنه طابع الجماعة الإسلامية في كل حالاتها، ولو كانت الدولة بمعناها الخاص لم تقم بعد. والواقع أن الدولة في الإسلام ليست سوى إفراز طبيعي للجماعة وخصائصها الذاتية، والجماعة تتضمن الدولة، تنهض وإياها بتحقيق المنهج الإسلامي وهيمنته على الحياة الفردية والجماعية. ومن ثم كان طابع الشورى في الجماعة مبكرا، وكان مدلوله أوسع وأعمق من محيط الدولة وشئون الحكم فيها، إنه طابع ذاتي للحياة الإسلامية، وسمة مميزة للجماعة المختارة لقيادة البشرية، بل هي من ألزم صفات القيادة)
ونحن إذا ما تأملنا في هذا الممارسة النبوية للمبدأ, لوجدنا أن جاءت لتؤكد على ذات المعني, حيث لم تقتصر على الاستشارة في شئون الحكم والحرب, وإنما امتدت لتشمل كل ما يتعلق بأحوال الجماعة المسلمة ومصالحها, بل وحتى فيما يتعلق بأحواله هو صلى الله عليه وسلم الشخصية, على نحو ما كان منه مثلاً في حادثة الإفك, من استشارة الإمام علي وأسامة بن زيد رضي الله عنهما في شأن أم المؤمنين عائشة.

الضـوابـط الحاكمـة للشـورى
1- أن تدور في فلك الشريعة الإسلامية وأحكامها ومبادئها:
حيث أن الشورى في حقيقتها هي مبدأ إسلامي أصيل, ومنهج شرعي وجهت إليه النصوص القرآنية, لتنظيم الحياة الاجتماعية وشئون الدولة في الأمة المسلمة. وبالتالي فمن الواجب والطبيعي أن تلتزم تطبيقات الشورى بمبادئ الشريعة ومقاصدها, وتخضع لضوابطها الأخلاقية الثابتة.
وفي ذلك يقول الدكتور توفيق الشاوي -رحمه الله- (إن الشريعة الإسلامية وأصولها يجب أن تكون هي محور الحوار القياس, الذي تختبر عليه الأدلة والحجج والمبررات التي تُعرض على بساط البحث, وتكون مناط النقاش والسجال, وهي بذلك تهيمن على ساحة الشورى ومراحلها ونتائجها, وبهذا وحده تكون الشورى شرعية)
ويضيف في موضع آخر (إن ميزة الشورى هي إشعار من يصدرون قراراً في أمر من الأمور, أنه يجب عليهم ديانة أن يثبتوا لأمتهم أن أساس ترجيحهم له هو أنهم يرونه اقرب للعدالة التي فرضها الإسلام, وأن يؤيدوا ذلك بالمنطق الذي يرجحه الفكر الحر. إن الله سبحانه وتعالى عندما فرض علينا أن يكون الأمر شورى, أراد بذلك أن ينبه الذين يشاركون في الحوار قبل القرار أو بعده, إلى أنه يجب على كل منهم أن يقنع الآخرين أن رأيه من الناحية الموضوعية هو الأقرب للحق والعدل الذي تفرضه الشريعة والعقيدة, ولذلك فإن الشورى مهما يكن موضوعها, هي حوار يجري تحت مظلة المبادئ السامية المستمدة من العقيدة الحقة, والشريعة العادلة التي تفرضها الأصول السماوية والمصادر الاجتهادية العقلية المكملة لها"
وفي ضوء ذلك يمكننا التعرف على جانب خطير من جوانب الانحراف والتشوه, التي أصابت الكثير من التطبيقات المعاصرة للشورى, والتي سيأتي تفصيلها لاحقاً بإذن الله..

2- أن تتسم الممارسة بحرية الرأي والتفكير:
هل يبالغ المرء إن قال بأن الإقرار بحق الأفراد في التعبير عن الرأي, وتعويدهم على ممارسة التفكير الحر, يفوق في أهميته مستهدف الشورى الظاهر المتمثل في تحصيل أفضل الآراء وأصوبها للعمل به. وأن مستهدف الشورى الأهم والأعمق هو الإعلاء من قيمة الفرد داخل المجتمع والجماعة, والإقرار بحقه في المعرفة والمشاركة في صناعة القرار, مادام هذا القرار يتطلب منه العمل أو يعود عليه بالتأثير سلباً أو إيجاباً؟

لا أعتقد أنني مبالغ في هذا الإدعاء, وإثبات ذلك توجيه المولى سبحانه وتعالى لنبيه الكريم بمشاورة الصحابة, في قوله تعالى (فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين), فأمره تعالى لرسوله الكريم وهو أكمل البشر عقلاً ونفساً, وأرجحهم رأيا وفهماً, بمشاورة أصحابه وعدم التخلي عن هذا المبدأ بعدما ترتب عليه من نتائج وخيمة على الجماعة المسلمة, يوضح أن المقصود من الشورى هو أعمق من تحصيل الرأي الصواب, وان تدريب الأفراد على ممارسة التفكير الحر والاعتراف لهم بحق التعبير عن الرأي, والمشاركة في حمل المسئولية وصناعة القرار, ومن ثم تحمل النتائج, وما يُفضي إليه ذلك من توثيق عرى الجماعة وتمتين العلاقات بين أفرادها بعد استشعار كل فرد فيها بأهميته وقيمته داخل الجماعة لهو الغاية الكبرى والحقيقية من الأمر بالشورى.

وقد أكد الأستاذ الشهيد سيد قطب على هذا المعنى في تفسيره لقوله تعالى (وشاورهم في الأمر), بقوله "لو كان وجود القيادة الراشدة في الأمة يكفي ويسد مسد مزاولة الشورى في أخطر الشئون لكان وجود محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومعه الوحي من الله -سبحانه وتعالى - كافيا لحرمان الجماعة المسلمة يومها من حق الشورى! وبخاصة على ضوء النتائج المريرة التي صاحبتها في ظل الملابسات الخطيرة لنشأة الأمة المسلمة، ولكن وجود محمد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومعه الوحي الإلهي ووقوع تلك الأحداث، ووجود تلك الملابسات، لم يلغ هذا الحق لأن الله -سبحانه - يعلم أنه لابد من مزاولته في أخطر الشئون، ومهما تكن النتائج، ومهما تكن الخسائر، ومهما يكن انقسام الصف، ومهما تكن فكلها جزئيات لا تقوم أمام إنشاء الأمة الراشدة، المدربة بالفعل على الحياة، المدركة لتبعات الرأي والعمل، الواعية لنتائج الرأي والعمل، ومن هنا جاء الأمر الإلهي في هذا الوقت بالذات {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ" ليقرر المبدأ في مواجهة أخطر الأخطار التي صاحبت استعماله، وليثبت هذا القرار في حياة الأمة المسلمة أيا كانت هذه الأخطار التي تقع في أثناء التطبيق، وليسقط الحجة الواهية التي تثار لإبطال هذا المبدأ في حياة الأمة المسلمة، كلما نشأ عن استعماله بعض العواقب التي تبدو سيئة، ولو كان هو انقسام الصف، كما وقع في أحد والعدو على الأبواب، لأن وجود الأمة الراشدة مرهون بهذا المبدأ، ووجود الأمة الراشدة أكبر من كل خسارة أخرى في الطريق"

ويؤكد على ذات المعنى أيضاً الدكتور توفيق الشاوي في قوله بأن "من أهم مزايا الشورى أنها تهتم اهتماماً كبيراً بعملية التشاور قبل القرار وهو الحوار وتبادل الآراء ومناقشتها بحرية كاملة, إذ أن حرية الرأي وحرية الحوار هي الأصل في الشورى, أما التصويت ومعرفة رأي الأغلبية فهو يأتي بعد ذلك, ولا يجوز الاكتفاء بالتصويت مباشرة لمصادرة حرية الرأي وحرية المناقشة بحجة الاكتفاء برأي الأغلبية أو الخضوع لإرادتها"

وعليه فإن كل ممارسة للشورى تُصادر حق الأفراد في حرية الرأي والتفكير, أو تضع قيوداً على حق التعبير هي شورى ناقصة وتطبيق مشوه, وأن السلطة التي تمارس أي نوع من الإرهاب الفكري أو النفسي على أتباعها, بما يحول دون تقدمهم بالرأي المخالف بين يديها, خشية العقوبة أو الإقصاء, هي سلطة جائرة تفتقد لمقومات الرشد والأهلية.

3- توفير المعلومات اللازمة والضرورية للبت في المسألة محل التباحث:
وذلك لأن الحكم على الشيء فرع من تصوره, ومن غير المعقول أن يُطالب المرء بإبداء رأيه في مسألة ما دون إمداده بمعلومات كافية عن ملابساتها وأبعادها. وبالتالي فمن الواجب على السلطة القائمة أن تضع على طاولة البحث والنقاش جميع ما تملك من معلومات حول المسألة محل التداول, كي يتسنى للأفراد النظر فيها والاستعانة بها في تخمير الرأي المناسب قبل طرحه للتداول والمناقشة. وهذا مدعاة لتوفير الوقت والتثبت وتحقيق أفضل النتائج من عملية المشاورة.
أما ما نراه اليوم من صور للشورى تقوم فيها السلطة أو فئة ذات نفوذ داخل الدولة أو الجماعة المسلمة, بحجب بعض ما لديها من معلومات, أو طرح معلومات خاطئة ومضللة على الأفراد حال مناقشة أمر ما, بغية توجيه الرأي وتغليب ما يوافق أهواءها وإرادتها, فهو خيانة وخداع وإهدار لقيمة الشورى ومقاصدها.

4- أن يكون المستشار في مسائل الرأي والفتوى من ذوي الأهلية والكفاءة:
وذلك أمر بديهي ومنطقي في فهم العامة والخاصة من البشر, فلو أن إنساناً مرض بداء ما لذهب للطبيب لاستشارته, ولو بادر احدهم لسؤال عالم الدين في علاج مرضه, لاتهم بالجهل والحماقة, ولا علاقة لذلك بتقدير العالم الديني أو احتقاره, والعكس في مسائل الفتوى الفقهية والشرعية. وقياساً على ذلك كافة التخصصات العلمية التي كثرت وتشعبت في عصرنا الحالي, ومن ثم كان لزاماً شرعاً وعقلاً, أن يلجأ ولاة الأمور في الدولة أو الجماعة المسلمة إلى تحديد أهل المشورة من ذوي الخبرة والكفاءة في المسألة محل التباحث, على أن يتبع ذلك الفرز فرز ثان (وهذا الترتيب ضروري) يقوم على الثقة والأمانة, لضمان أن يدلي المستشار بما فيه الصالح والمنفعة.

أما ما نراه اليوم من تقديم الثقة على الكفاءة, واختيار أعضاء الشورى في ضوء السن والسبق, وقلة الاهتمام بإسناد الأمر لأهله, فلا يمت للفهم السليم والممارسة الرشيدة للشورى بصلة, وإن أرغى وأزبد أصحابه في تبريره أو تجميله.

5- أن يرتفع الخلاف وتحل الوحدة فور الانتهاء لقرار الشورى:
بعد التوصل إلى قرار بشأن القضية محل التباحث, إما عن طريق الأكثرية أو بحكم أصحاب المصلحة في الشورى الملزمة, أو بما يعتمده ولي الأمر في المشورة الاختيارية (وهو ما سيأتي تفصيله لاحقاً في بيان أنواع الشورى وأحكامها), ينبغي أن يبادر الجميع بما فيهم المخالفين من أفراد الجماعة للعمل بالقرار, وذلك امتثالاً لقوله تعالى (وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين), وإقتداءاً بالرسول الكريم فيما ثبت عنه من ممارسات للشورى, وأشهرها موقفه صلى الله عليه وسلم من شورى أحد.

وفي التزام هذا المبدأ من الفوائد والمصالح ما فيه, أهمها تعويد أبناء الجماعة المسلمة على الحزم, والتمييز بين مراحل العمل, بما يمنع من تحول الشورى إلى جدل عقيم غير مثمر, ويحول دون أن يُفضي الخلاف في الرأي إلى شق الصف وتفرق الكلمة..
ولكن قبل أن يستبق البعض في تناول هذا الضابط الأخير لتبرير تطبيقات معاصرة, أقول بأن التقيد بضابط النزول عند قرار الشورى, مرهون بالالتزام بالضوابط المتقدمة عليه سالفة الذكر, بالإضافة لممارسة الشورى في دوائرها الصحيحة, وهو ما سيأتي توضيحه بإذن الله في المقال اللاحق والأهم في هذا البحث….

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق