الخميس، 19 أبريل 2012

بين الرشد والتية في تطبيقات الشورى المعاصرة…حكم ما ينشأ عن الشورى من آراء وتوصيات (5) …. يحي نعيم

 ثانياً: حكم ما ينشأ عن الشورى من آراء وتوصيات.


أنواع الشورى:

يمكننا تصنيف الشورى في ضوء الموضوع ودائرة البحث إلى ما يلي:

1-    الشورى في القضايا العامة
2-    الشورى في المصالح الخاصة بطائفة أو فئة معينة داخل الجماعة المسلمة.
3-    الشورى في المسائل  الفنية
4-    الشورى في المسائل الفقهية (الفتوى الدينية)

ويمكننا تقسيمها من حيث الإلزام والاختيار إلى:

1-    الشورى الملزمة
2-    الشورى الاختيارية (الاستشارة الحرة)

كما يمكننا الجمع بين التصنيفين على النحو التالي:

1- الشورى الملزمة: ويندرج تحتها
              أ‌- الشورى في القضايا العامة
             ب‌- الشورى في المصالح الخاصة لطائفة أو فئة معينة داخل الجماعة المسلمة

2-الشورى الاختيارية: ويندرج تحتها
              أ – الشورى في المسائل الفنية
             ب- الشورى في المسائل الفقهية

                                                          أولاً: الشورى الملزمة

وهي الشورى التي ينبغي أن ينزل فيها ولي الأمر عند ما تنتهي إليه الجماعة المسلمة من رأي وتوصية, سواء بالإجماع أو الأكثرية, بعد ممارسة حرة ومنضبطة بالضوابط التي سبق توضيحها في مقال سابق بذات السلسلة. ومتى صدر قرار الجماعة يصبح ملزماً للكافة, ولا يجوز مُطلقاً في هذه الحالة أن يخالف ولي الأمر, أو أي من الأفراد, ما انتهت إليه الجماعة من قرار, ولو كان يرى الحق في رأيه وترجيحاته.

ومسائل الشورى الملزمة تتمثل فيما يلي:

أ – الشورى في القضايا العامة: التي تهم الجماعة المسلمة, وتمس بشكل مباشر حقوق وحريات ومصائر أفرادها, ومنها قرارات الحرب والسلم, والمعاهدات, وانتخاب الحاكم, واللوائح والقوانين الدستورية المنظمة لشئون الجماعة.

وأهل الشورى في تلك القضايا: كافة أفراد الجماعة المسلمة دون إستثناء, فلا يجوز لولي الأمر أن يستبد بالرأي دونهم, ولا أن يصطفي منهم نفر فيستشيرهم ويكتفي برأيهم دون الآخرين. وذلك هو الثابت في سيرة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم, ففي غزوة بدر, خاطب الرسول جميع من خرج معه, بقوله (أشيروا علي أيها الناس), وما قام سعد بن معاذ إلا متحدثاً بلسان الناس, ومعبراً عن حالهم من العزم والرضا, وليس قائلاً برأيه نيابة أو دون الرجوع إليهم. والفرق هنا في المعنى والممارسة دقيق, ويؤكده ما جرى من بعد في شورى أحد, فقد وافق كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار الرسول على رأيه بعدم الخروج والتحصن بالمدينة (كما جاء في السيرة الحلبية), إلا أن موافقتهم هذه لم تكن معبرة عن حال السواد الأعظم من الناس, الذين رغبوا في الخروج ليعوضوا ما فاتهم من فضل بدر, فلم يعتد الرسول الكريم بموافقة كبار الصحابة, ونزل عند رأي الأكثرية على ما فيه من مخالفة لرأيه, ولو لم يكن ما فعله هو الصواب, لما حثه المولى سبحانه وتعالى على لزوم المشاورة, بعد ما ترتب على الخروج من مخاطر وأهوال, كما جاء في قوله تعالى (فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر).

ويزيد الأمر وضوحاً وتبياناً بما لا يدع مجالاً للبس والشك في أن الرسول الكريم  لم يكن يخص أحداً أو جماعة من رؤوس القوم بالشورى في القضايا العامة, ما كان منه صلى الله عليه وسلم في رد غنائم هوازن, إذ وقف خطيباً بين الناس وقال (أما بعد فإن إخوانكم قد جاءونا تائبين, وإني قد رأيت أن أرد إليهم سبيهم, فمن أحب منكم أن يطيب بذلك فليفعل, ومن أحب منكم أن يكون على حظه حتى نعطيه إياه من أول ما يفيء الله علينا فليفعل), فقال الناس قد طيبنا ذلك يا رسول الله, فقال الرسول صلى الله عليه وسلم (إنا لا ندري من أذن منكم في ذلك ممن لم يأذن, فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم), فرجع الناس فكلمهم عرفاؤهم ثم رجعوا إلى الرسول فأخبروه بأنهم قد طيبوا. وفي رواية عمرو بن شعيب, أن المهاجرين والأنصار أعطوا, وأن بنو تميم وبنو فزارة سألوا الفداء, وهذا يبين أن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما شاور الناس كلهم, وكان فيهم المؤلفة قلوبهم الذين لم يسلموا إلا بعد الفتح, وقبل هذه الحادثة بأيام قليلة, ولم يقبل بنيابة العرفاء ولا قولهم  على مكانتهم في أقوامهم, بل جعل دورهم في مثل هذه القضايا هو استطلاع حال القوم والإعلام به.

وفي ولاية الخلفاء الراشدين, يقول بن كثير في البداية والنهاية, عن ولاية عثمان رضي الله عنه, أن عبد الرحمن بن عوف لما رضي المرشحون الخمسة للخلافة أن يختار واحداً منهم, ثم لما انحصر الترشيح بين عثمان وعلي رضي الله عنهما: (نهض يستشير الناس فيهما, ويجمع رأي المسلمين برأي رءوس الناس جميعاً وأشتاتاً, مثنى وفرادى, سراً وجهراً, حتى خلص إلى النساء في خدورهن, وحتى سأل الولدان في المكاتب, وحتى سأل من يرد من الركبان والأعراب إلى المدينة, وفي مدة ثلاثة أيام بلياليهن), وما كان عبد الرحمن بن عوف ليجتهد في سؤال الناس كل هذا الجهد, لولا أنه حق من حقوقهم يحرم الافتئات عليهم فيه أو مصادرته أو اغتصابهم إياه.

وقد قال عبد الرحمن بن عوف لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه (إني قد نظرت في أمر الناس فلم أرهم يعدلون بعثمان, فلا تجعلن على نفسك سبيلاً) وقال بن حجر (وسكوت من حضر من أهل الشورى والمهاجرين والأنصار وأمراء الأجناد دليل على تصديق عبد الرحمن فيما قال وعلى الرضا بعثمان).

وهنا يتضح أن عبد الرحمن بن عوف جعل من اختيار الناس حجة في الترجيح بين المرشحين للخلافة, وهما عثمان وعلى

وقد قال على رضي الله عنه للصحابة بعد قتل عثمان (إن بيعتي لا تكون إلا عن رضا المسلمين) فلما دخل المسجد دخل المهاجرون والأنصار فبايعوه ثم بايعه الناس

وقد أجمع الصحابة على هذا الأصل, ولم ينكره أحد منهم, وقد كانت بيعة أبي بكر في السقيفة برضا الصحابة, كما في صحيح البخاري حيث بايعه عمر ثم المهاجرون ثم الأنصار في سقيفة بني ساعدة, ثم باقي المسلمين في المسجد. وكذا كانت بيعة عمر برضا جميع الصحابة رضي الله عنهم, وبعد استشارتهم كما في ثقات بن حبان (ودعا أبو بكر نفراً من المهاجرين والأنصار يستشيرهم في عمر), ثم لم ينعقد له الاستخلاف إلا برضا المسلمين جميعاً وموافقتهم.

وكل هذه إشارات وتوكيدات شديدة الأهمية, في فهم حقيقة الشورى والتمييز بين دوائرها وأهلها في المسائل العامة, وهو ما تغافلت عنه وشوهته الكثير من التطبيقات المعاصرة.

…ونكمل في المقال اللاحق بإذن الله

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق