الخميس، 19 أبريل 2012

بين الرشد والتيه في تطبيقات الشورى المعاصرة !…. حكم الشورى وأنواعها ودوائرها (4) …….. يحي نعيم


الاختلاف في حكم الشورى, هل هي واجبة وملزمة, أم فقط مستحبة ومعلمة, قديم بقدم الانحراف والتشوه الذي أصاب فهم المبدأ وتطبيقاتهمنذ تحول الحكم الإسلامي من الخلافة الراشدة إلى المُلك العضوض, ويرجع ذلك الاختلاف باعتقادي إلى ما صاحب ذلك التحول السياسي من ردة جاهلية, اُستحلت فيها الدماء واستُبيحت الأعراض, لانتزاع حق الأمة في اختيار الخليفة وفق آليات الشورى الحرة, على نحو ما جرى بين يزيد والحسين عليه السلام, وما كان من شأن حرة المدينة مع الفاجر مسلم بن عقبة, وما دار بين الحجاج وعبد الله بن الزبير بمكة, ثم مع بن الأشعث وجيش القراء.
 
كل ذلك دفع بنفر من كبار التابعين وفقهاء تلك المرحلة المضطربة  وما تلاها, أمثال الحسن البصري والإمام الماوردي والحافظ بن حجر العسقلاني وأبو يعلى الحنبلي  وغيرهم, إلى القول بالخضوع لولاية المتغلبواستحباب الشورى للحاكم دون إلزامها, ترجيحاً منهم للمصلحة القريبة الظاهرة واجتهاداً لحقن دماء المسلمين واستقرار أحوال الأمة!… ولو أنهم دروا بتبعات هذا الرأي, وآثاره الوخيمة والسلبية على وحدة الأمة وعافيتها وأدائها لوظيفتها الرسالية في المدى البعيد, ولو أنهم خبروا بأن جماعاتٍ من الخلف ستأتي وتحتج بهذا الاجتهاد في تحريم الخروج على الحاكم الظالم المستبد والمعطل لقيم الشريعة وأحكامها..لو دروا بذلك ما  ظننت بأنهم قائليه فقهاً واجتهاداً!!

وعلى الرغم من أهمية السبب المتقدم, إلا أن السبب الآخر الأهم والأخطر, هو مسألة الخلط بين حكمالشورى كفعل ومبدأ إسلامي أصيل, وحكم ما ينشأ عن هذا الفعل من آراء وتوصيات, وما يكتنف ذلك من ضبابية تحول دون التمييز بين أنواع الشورى ودوائرها, وتؤدي بالتبعية إلى التفسير الخاطئ والقياس المعوج لتطبيقات المبدأ في العهد النبوي والراشدي. فينشأ عن ذلك فريق يقول بالإلزام في كل حال, وآخر يعتقد في إلزام الممارسة وإعلام ما ينشأ عنها,  وآخر يتبنى الاستحباب والإعلام كحكم مطلق وبلا استثناء, فيحدث اللبس وتزداد الحيرة ويتعمق الخلاف, وما ذلك إلا نتيجة لما سبقت الإشارة إليه من خلط في الأحكام.

 وقد أدهشني صراحة كثرة ما قرأت من صور لذلك الخلط أثناء البحث في المسألة, ولم تصادفني سوى محاولة وحيدة جادة ونافعة -وإن كانت غير مكتملة الأركان- لفض ذلك الالتباس, ضمنها الدكتور توفيق الشاوي في كتابه الموسوعي (فقه الشورى والاستشارة), وتابعه عليها آخرون في مقالات وبحوث قصيرة.

 وما يلي هو محاولة لتفكيك ذلك المكون المعقد للشورى, وتحليله وتمييز أحكامه, رجاء أن يستقيم فهم المسألة, ويسهل القياس والتنزيل على الأحداث المعاصرة.

                                                    أولاً: حكم الشورى كفعل وممارسة

الشورى فرض واجب على ولي الأمر

فعل الشورى في ذاته كممارسة واجب شرعي ملزم به كل من يلي أمر الجماعة المسلمة, أياً كانت درجات هذه الولاية, بدءاً من أمير الثلاثة (إن كنتم ثلاثة فأمروا أحدكم), وإنتهاءاً بالولاية الكبرى للأمة, وهذا ما ذهب إليه جمهور العلماء قديماً وحديثاً.

ومن الأدلة والأقوال في هذا الشأن:

  • قوله تعالى (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ), والذي جاء في تفسيره قول الفخر الرازي بأن: «ظاهر الأمر للوجوب، فقوله: (وشاورهم، يقتضي الوجوب)
  • وقال النووي - رحمه الله -: «واختلف أصحابنا هل كانت الشورى واجبة على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أم كانت سنة في حقه كما في حقنا، والصحيح عندهم وجوبها، وهو المختار, قال الله تعالى (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ) والمختار الذي عليه جمهور الفقهاء ومحققو الأصول أن الأمر للوجوب»
  • وقال تعالى: (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) , وفيه قرنت الآية الكريمة الشورى بين المسلمين بإقامة الصلاة، فدل ذلك على أن حكم الشورى كحكم الصلاة، وحكم الصلاة واجبة شرعا، فكذلك الشورى واجبة شرعا (من كتاب حكم الشورى في الإسلام)
  • وقال الجصاص الحنفي- رحمه الله - في تفسيره بأحكام القرآن معقبا على قوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}وهذا يدل على أننا مأمورون بها. 
  • وقال الطاهر بن عاشور: «مجموع كلام الجصاص يدل على أن مذهب أبي حنيفة وجوبها».
  • بل إن العالم الأندلسي بن عطية يقول بأن (الشورى من قواعد الشريعة, وعزائم الأحكام, ومن لا يستشير  أهل العلم والدين فعزله واجب هذا ما لا خلاف فيه)
  • ومن أقوال الشيخ رشيد رضا في المنار (..من المعروف عند علماء الأصول أن الأمر يفيد الوجوب ما لم ترد قرينة تصرفه من الوجوب إلى الندب، وصيغة «وشاورهم» صيغة أمر، وهي تدل على وجوب الشورى، ولم ترد قرينة تصرفها من الوجوب إلى الندب، بل جاءت النصوص الأخرى من الكتاب والسنة تؤكد هذا الوجوب وتؤيده)
  • ويقول الإمام البنا - رحمه الله -: «ومن حق الأمة الإسلامية أن تراقب الحاكم أدق مراقبة، وأن تشير عليه بما ترى فيه من الخير, وعليه أن يشاورها وأن يحترم إرادتها، وأن يأخذ بالصالح من آرائها، وقد أمر الله الحاكمين بذلك فقال: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ) وأثنى على المؤمنين خيرًا فقال: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُم) ونصت على ذلك سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -»
  • وقال الأستاذ المودودي: (وخامسة قواعد الدولة الإسلامية, حتمية تشاور قادة الدولة وحكامها مع المسلمين والنزول على رضاهم ورأيهم وإمضاء نظام حكم الشورى)
  • وقال سيد قطب - رحمه الله – في تفسيره: «وبهذا النص الجازم (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ) يقرر الإسلام هذا المبدأ في نظام الحكم - حتى ومحمد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو الذي يتولاه - وهو نص قاطع لا يدع للأمة المسلمة شكا في أن الشورى مبدأ أساسي، لا يقوم الإسلام على أساس سواه»
  • ومن الأدلة العقلية في ذلك والتي ترجح وجوب الشورى بداهة هو أن القاعدة الفقهية المشهورة تقول بأن ما لا يقوم الواجب إلا به يصبح واجباً في ذاته حتى وإن لم يرد فيه نصاً واضحاً بالوجوب, والمولى سبحانه وتعالى أوجب على الأمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وما كان للأمة أن تقوم بهذا الواجب للحاكم, إلا في وجود قناة شرعية مناسبة لتنظيم هذا التناصح وضبطه, وماالشورى إلا ذلك الشريان الذي يصل بين الأمة ووكيلها في الحكم. وبالتالي فإن قناة الشورى فرض على ولي الأمر أن يفتحها لتمرير النصيحة من الأمة التي هي في ذاتها فريضة إلهية. فكلاهما واجبان لا يقوم أحدهما إلا بالآخر, وإيما استباحة أو تقصير من الحاكم في فعل الشورى لا يقابلها من الأمة تقويم بالمعروف ونهي عن ذلك المنكر, فهو مفضي لاشك للاستبداد والظلم, ومن هذا يمكننا أن نفهم قوله صلى الله عليه وسلم (كما تكونوا يول عليكم), فالأمة التي تجبن عن التواصي بالخير وتقديم النصيحة للحاكم, تُسهّل عليه أن يستبد بأمرها, ويستخف بحقوق أفرادها, فيعم الفساد وتنتشر المظالم على نحو ما هو ثابت في التاريخ القديم والمعاصر.
وبناءاً عليه.. فالقول في الشورى بالاستحباب أو الندب مردود على أصحابه ولا يُعتد به, ولكن…هل يكتسب ما ينشأ عن ممارسة الشورى صفة الإلزام والوجوب أيضاً,  أم أن حكمه فقط للإعلام؟ وماذا لو أختلف ولي الأمر في الرأي مع ما انتهت إليه الشورى من ترجيح؟ وماذا لو خالف أحد أفراد الجماعة المسلمة ما اعتمده ولي الأمر من رأي عن طريق الشورى؟

للإجابة على هذه الأسئلة يلزمنا بالضرورة الوقوف على أنواع الشورى ودوائرها وأحكامها وهو ما نتناوله في المقال التالي بإذن الله

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق