الثلاثاء، 10 مايو 2011

مع الحكم العطائية (142-144)…. د/عصام العريان

"أجهل الناس من ترك يقين ما عنده لظن ما عند الناس"
عشت مع حكم ابن عطاء الله السكندري (المتوفى 709 هـ - 1309م) عمرًا طويلاً، فقد اقتنيتُ أول نسخة من شرحها للعارف بالله الشيخ زروق عام 1972م، وقرأتها ودرستها مرارًا وتكرارًا في غياهب السجون، بل أصبحت بعد القرآن الكريم والسنة النبوية أكثر ما أقرأه وأدرسه مع إخواني، خاصةً في الحبسة الطويلة (5 سنوات من 1995 إلى 2000م). 

وأتذكر هنا أن أخًا كريمًا أثناء تعارف طويل كان يمتد لأيام في عنبر (2) بمزرعة طره، الذي ورثه بعدنا وزارة د. أحمد نظيف وأمانة الحزب الوطني السابق في حجرة (6) قال في حقي: "إنني أطمئن إلى أخي لسببين: القرآن الكريم الذي يحمله في صدره، وتعلقه بالحكم العطائية". 

وكنت لا أزال أجد في حكم ابن عطاء الله منهجًا تربويًّا بديعًا؛ لذلك فهي ليست مجرد سجع لفظي، أو فلسفة أخلاقية، بل لا يجد أثرها في نفسه إلا مَن عاشها واقعًا في حياته سلوكًا وأخلاقًا. 
يقول ابن عطاء الله:
142- الناس يمدحونك لما يظنون فيك.. فكن أنت ذامًّا لنفسك لما تعلمه منها.
143- المؤمن إذا مُدح استحيا من الله أن يُثنى عليه بوصف لا يشهده من نفسه. 
144- أجهل الناس من ترك يقين ما عنده لظن ما عند الناس. 

والمسألة على وجهين:

  • إمَّا أن يمدحك الناس لشيء تجده في نفسك، فهذا تنبيه على مقام الشكر فعليك أن تتوجه إلى الله شكرًا وحمدًا، ولا يغرك المدح بما تفعل إن لم تقصد التعرض للمدح، ففي الحديث: قيل يا رسول الله: الرجل يعمل العمل خفيةً ثم يتحدث الناس به فيفرح. فقال صلى الله عليه وسلم: "له الأجر مرتين: أجر العمل، وأجر الفرح"، وإذا كان الثناء زائدًا على ما ظهر فيك، فاطلب منه سبحانه القوة على فعل المزيد.
  • أما إذا مدحك الناس بما ليس فيك، فاعلم أنك أمام أحد موقفين:
  1. الأول: أن تدرك أن ذلك من هواتف الحق، ليدفعك إلى الزيادة، كما فعل الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان عندما سمع أن قومًا يمدحونه بقيام الليل كله- وكان لا يقوم إلا نصفه- فجعل يقوم الليل كله. 
  2. الثاني: أن تفرح بمدح الناس لك بما ليس فيك، وهنا فاعلم أنك قد مكنت الشيطان من نفسك.  
الأوفق للعاقل والعارف أن يتمثل بقول السلف الصالح: "اللهم اجعلني خيرًا مما يظنون، ولا تؤاخذني بما يقولون، واغفر لي ما لا يعلمون". 
لقد ذم الله قومًا بقوله: (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنْ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188)) (آل عمران). 
واعلم أن تحققك بأمر ما من الطاعات، إنما هو سابقة التوفيق من الله لك، ومن تمام نعمته عليك أن خلق فيك ونسب إليك، كما كان يقول إمامنا الشهيد حسن البَنَّا: "نستر القدرة، ونأخذ الأجرة". 

فإذا أطلق الثناء عليك من الناس بوصف لا تشهده من نفسك فعليك بالحياء منه سبحانه، فقم إلى العمل واجتهد في الطاعة دفعًا للتقصير، فإنما الحياء هو شهود التقصير، و(المؤمن إذا مُدِحَ استحيا من الله أن يُثْنَى عليه بوصف لا يشهده من نفسه). 
أما إذا كنت جاهلاً جهولاً، تفرح بثناء الناس عليك بما ليس فيك لظنهم الذي لم يُبْنَ على علم حقيقي، إذ أنت أعلم بنفسك. فقد نبهك الشيخ بقوله: "أجهل الناس مَن ترك يقين ما عنده لظن ما عند الناس". 

اليقين الذي عندك هو علمك بخفاياك ومساويك، وظن ما عند الناس هو ما يرون من ظاهرك من الكمالات وأنوار الطاعات، ولا يرون ما يصاحبها من حظوظ النفس والعلل الخفية. 
روي عن بعض الحكماء عندما مدحه بعض العوام فبكى، فسأل تلميذه: أتبكي وقد مدحك؟ فقال له: إنه لم يمدحني حتى وافق بعض خلقي خلقه، فلذلك بكيت. 

أما تزكية الأشرار لك فقد يكون ناتجًا من حبهم لك، وهذا من المخاطر الكبيرة، فلعلهم رأوا فيك شيئًا أعجبهم، ولن يعجبهم في الغالب إلا ما يوافقهم، ولا خير فيما يعجبهم ويسوءك.
فعليك بتزيين الباطن بالجمال ليتحلى ظاهرك بالجلال، ولا تعمد إلى تزيين الظواهر على حساب خراب البواطن. 

هدف هذه النصائح التربوية أن تنظر إلى نفسك بحكم الحقيقة لنراها مذمومة ضرورة، وهذا الذم للنفس على وجوه ثلاثة:

  •  أن تنظر إلى ما جُبلت عليه من النقص والإساءة، فلا تراها أهلاً لما يمدحها به الناس، فأنت أدرى بنقائصها، وأن ذلك من فضل الله ومنته عليك. 
  • أن تنظر إلى الأعمال التي يمدحك الناس بها، فترى ما فيها من عجب أو رياء أو تزيين،فترى التقصير، ولا ترى المدح. 
  • أن تثبت لنفسك ما تجهله من سيئات أخرى لأعمال خفية، فقد يفتش في العمل الممدوح به فلا يتذكر فيه تقصيرًا، ولكن لكل إنسان خبيئة من عمله وهو أدرى بها، قال تعالى: (بَلْ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14)) (القيامة).  
وعليك أن تدرك أيضًا أن المدح ليس مذمومًا في ذاته، ولا يُحمد من حيث ذاته، فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن إذا مُدح ربا الإيمان في قلبه". 
فالمؤمن الحقيقي هو الذي لا يشهده من نفسه صفة محمودة يستحق بها المدح والثناء، بل يشهد ذلك من ربه تعالى، فيربو الإيمان بالله في قلبه لما يرى من إحسان الله إليه، فلا يفرح إلا بفضل الله تعالى: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)) (يونس)  

الحكمة من ذلك كله أن تدرك أن الله خلق الإنسان، وجعل جُل نقائصه وعيوبه خفية، لا يراها إلا هو، ولا تطلع عليها إلا ذاته، لأنه لو اطلع الخلق على خفاياهم وعيوبهم لانفكت بين الناس عرى المودة، وتقطعت ما بينهم سبل التعارف والتعاون، ولدبت الكراهية بينهم والاشمئزاز. 
وأتم الله نعمته على العباد بأن نَمَّى ما يتمتع به الناس من مزايا وفضائل مهما كانت قليلة، ونشر لها بين الناس عبقًا، وجعل لها في أبصارهم لقا، وفي أسماعهم رنينًا وحديثًا يتداولونه بينهم. 
والحكمة واضحة: أن تشيع بين الناس عوامل الود والألفة والاحترام المتبادل، ليقودهم ذلك إلى التلاقي، فالتعارف، فالتعاون لبناء المجتمع، كما يقول العلامة الشيخ محمد سعيد البوطي حفظه الله. 
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله حَييٌّ سِتِّيرٌ يحب الحياء والسَتر".

لذلك: إذا تورطت في معصيته، فأكرمك الله بالستر، فأبقِ ستر الله عليك، ولا تفضح نفسك، وإن كانت المعصية تستوجب الحد الشرعي، وما قصة ماعز منك ببعيدة، فقد أعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم مثنى وثلاث ورباع.
إذن الضمانة التي تعصمك من الافتتان بثناء الناس عليك، يقينك بأنهم لا يعلمون من واقع أمرك إلا الظاهر الذي يُتبدى لهم، ويقينك بالعيوب والنقائص الكثيرة التي ابتلاك الله بها، وأخفاها إلا عنك.

وحصيلة القول كما يقول البوطي: "إن ثناء الناس عليك ليس إلا تذكرة بستر الله لك".
قد تسأل لماذا الإلحاح على خطأ الناس في المدح، وليس خطأهم في الانتقاد، الجواب ما قاله عمر بن الخطاب صلى الله عليه وسلم: "رحم الله امرأ أهدى إلى عمر عيوبه"، وليكن جوابك أيضًا لِمَن مدحك أو ذمك وانتقدك: عرفت شيئًا وغابت عنك أشياء.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق