الثلاثاء، 31 مايو 2011

عبدالمنعم ابو الفتوح…. الفارس النبيل


كان يتحدث بطلاقة وعذوبة وعفوية منطلقا كالسيل الهادر ثم فجأة خنقته العبارة واختلجت قسمات وجهه بمشاعر من العاطفة الفياضة لتظهر علي السطح طبيعته الحانية الآسرة وتغرورق عيناه بالدموع النبيلة فيغالبها قسرا و يدافعها مجاهدا ليستكمل حديثه .. شيء من السمو.. لا يمكن تكلفه ولا تصنعه ولا تقليده .. إنه الفارس النبيل الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح ..
وقد كان لي قصب السبق عندما أطلقت عليه هذا اللقب في مقالة كتبتها عنه بجريدة صوت الأمة عام 1996م يوم اعتقلوه وقلت أصفه ( فارس من الزمن النبيل) ثم تناقلت اللقب الصحف والمجلات بعد ذلك .. من حسن الطالع أننا في زمن يمكننا فيه تسجيل هذه اللحظات العفوية الرقيقة .. صادقة المشاعر .. يمكنك أن تدخل علي (اليوتيوب) ولتنظر بنفسك كيف كانت قسمات وجهه في اللحظة التي يذكر فيها أخاه خيرت الشاطر حين كان أسيرا في سجن ظالم .. وكيف توقف عن الكلمات وهو يتذكر مشاعر إخوانه الدافقة يوم أشيع كذبا نبأ استقالته من الإخوان وكيف ارتج المذيع يسري فوده وهو يري خلجات وجه الأسد الهصور يعتصرها الألم واللوعة ..
أنظر بنفسك إلي مذيع قناة المحور وهو يغالب دموعه عندما تحدث البطل العملاق عبد المنعم أبو الفتوح عن أمه التي علمته دروس الحياة وهي التي لا تقرأ ولا تكتب .. وقال له في برنامج علمتني الحياة .. الحقيقة يا دكتور عبد المنعم أنا أحترم هذه المشاعر في زمان ندر فيه هذا المثال من القيم الرفيعة .. وأخيرا تابع علي النت خاتمة برنامج العاشرة مساء الشهير والمذيعة مني الشاذلي تحاول أن تتماسك والبطل العملاق يصف لها كيف كان يتفقد الشهداء من شباب الثورة وعندما عجز عن تدبير الثلاجات اللازمة لحفظ جثثهم لم يملك نفسه وهو يجلس إلي جوارهم علي الأرض الباردة ويقبل أياديهم وهم بين يدي خالقهم .. وكأنه يبعث رسالة شكر وحب من كل مصري يتنفس نسيم الحرية والكرامة لقاء هذه الدماء الغالية ..
لقد سألني كثير من الإخوان ..ما سر حبك لعبد المنعم أبو الفتوح وكنت أجيب أربعة أشياء عظمته وبساطته ووضوحه ورقته.
أما عظمته فتاريخه وكفاحه يعرفه القاصي والداني ولكني رأيته وعاشرته في الموقف الذي يكون الإنسان فيه أضعف ما يكون .. عاشرته في السجن شهورا طويلة حيث تنكسر الكبرياء وتزوي روح المقاومة ولكنه كان راسخا صامدا عملاقا .. وكنت أري الضباط الكبار يلتفون حوله ويكادون يخطبون وده وكأنه رئيس مصلحة السجون وكأنهم من جملة رعاياه أو مرؤوسيه .. لم يضعف أو يلن عندما تساقط الكثير من إعياء الطريق وطول الحبس ومرارة الانتظار .. كان صلبا فتيا قويا وكما وصفه أبو العلا ماضي (لقد كنا نتترس بعبد المنعم أبو الفتوح) .. وبعد سنوات ذهبت إليه في نقابة الأطباء وكنا حديثي عهد بالعمل النقابي .. دخلت عليه بعد الاجتماع فوجدته واقفا وقد تحلق حوله أساتذة الطب الكبار.. محمد الرخاوي أستاذ التشريح وممدوح جبر وزير الصحة الأسبق والدكتور عبد المنعم منتصبا بقامته الممشوقة كالشمس في رابعة النهار .. يومها قلت عبارة في نفسي ومازلت أكررها من حين لآخر.. خلق الله البشر وجعل منهم قلة يصنعون التاريخ وسائر الناس يعيشون فيه .. وكنت أري عبد المنعم أبو الفتوح أحد هؤلاء الذين يصنعون التاريخ ونحن جميعا نعيشه ..
أما بساطته فهي الوجه الآخر لعظمته وقد سئل الدكتور حسان حتحوت من قبل ما سر عظمة حسن البنا فقال بتلقائية.. بساطته .. أذكر مثلا عندما كنا نتدارس رسالة التعاليم في ليمان طره وكل يوم نتناول بندا من الأصول العشرين .. كنت حريصا علي التحضير والتأصيل والتجويد للعبارات والاستشهاد بالنصوص وعندما يتكلم عبد المنعم كان يذكر كل ما بذلنا فيه الجهد والعنت يذكره ببساطة وتلقائية وعفوية ثم يزيد عليه تطبيقه واقعا نحياه و أمثلة نواجهها يوميا فلا نملك إلا الإعجاب و الانبهار.
أما وضوحه فالغريب أن رجلا مثل عبد المنعم أبو الفتوح الذي عركته السياسة وعركها مازال كما هو بفطرته ونقائه لا يستطيع أن يظهر خلاف ما يبطن وعندي أمثلة كثيرة ولكن الكثير منها لا يصلح لعرضه أو لم يحن وقته ولكني أضرب مثلا من أيام النصب والمطاردة يوم كانت جماعة الإخوان المسلمين محظورة .. كانت مناسبة دينية (الهجرة مثلا) وقد دعوت الدكتور للقاء العاملين بمستشفي الجمعية الطبية الإسلامية بحلوان حيث كنت مديرها وكان هو مديرا للمستشفيات فحضر وألقي كلمة طيبة وأستمع لشكاوي وطلبات العاملين ثم كنا أعددنا لقاء آخر شديد الخصوصية وفائق السرية مع شباب الإخوان في أحد البيوت وطبعا كانت هناك سيارة مباحث أمن الدولة التي تتبعه كظله وكان لا بد من تهريب الدكتور من الرقابة المهم سلكنا سبلا كثيرة ( تشبه أفلام الأكشن) ودخلت بالسيارة إلي جراج العمارة التي أسكن بها وهو متعدد الأبواب وخرجنا من باب خلفي حيث استقللنا سيارة أخري كانت بالانتظار وبعد كل هذا الجهد والعنت والمطاردة جلس الدكتور عبد المنعم ليقول للشباب في اللقاء السري نفس المحاضرة التي ألقاها علي العاملين بالمستشفي بالعلن .. وكنت أضرب كفا بكف علي غباء هؤلاء المستبدين الذين يحولون بيننا وبين الناس ونحن لا نحمل لهم إلا دعوة الخير ظاهرا وباطنا ..
أما رقته والتي سجلتها تلك البرامج التي ذكرتها آنفا فقد عايشناها معه كثيرا .. عندما كان يطول وقت الاجتماعات بنقابة الأطباء ويطلب طعاما كان يحرص علي شراء نفس الطعام للمخبرين البصاصين الذين يرقبونه علي الرصيف المقابل للنقابة وقد نشأت بينه وبينهم عشرة وصداقة لدرجة أنه كان يوقف سيارته أحيانا وينزل لأحد المخبرين الذين يتتبعون خطوه ويقدم لهم عذره أنه سوف يتعبهم اليوم حيث عنده مشاوير كثيرة ولقاءات متعددة .. ويلتفت إلينا ويقول يا جماعة أعذروهم فهم مغلوبون علي أمرهم .. إن الدموع النبيلة التي أغرورقت بها عينا ابو الفتوح لتنبي عن قلب له باب ظاهرة فيه القوة والصلابة وباطنه من قبله الرقة والإخبات …
دكتور علاء الدين عباس
جدة – 22-5-2011م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق