الاثنين، 23 مايو 2011

أفق التفكير الجامع: ما بعد الأيدلوجية… وما قبل النهضة….. د/ هبة رؤوف عزت

لا أعرف إلى متى يستمر أصحاب المشاريع الفكرية في عالمنا العربي في تعميم مقولاتهم وتسطيح دعاواهم وتسفيه خصومهم، فإذا كنا نواجه أزمة القومية العربية ومأزق الإسلام السياسي وتراجع الليبرالية وتشظي الاشتراكية فإن واقعنا «ما بعد الأيدلوجي» جدير بأن يجمع أصحاب الرؤى الكبرى لا أن يفرقهم.
عشنا طويلا مع مقولات سياسية من جبهات مختلفة ضد المشروع الإسلامي (ولا أقول الدولة الإسلامية لأن المشروع أكبر وأعمق) وكانت المقولة السائدة هي مقولة: أي إسلام؟ ويضرب المعرضون الأمثلة بأنظمة استبدادية أو عسكرية وعلى رأسها: إيران!
لكن النقاد لا يدللون على رؤيتهم بشكل عميق، ففي كل تجربة هناك مثالب ومزايا، وهناك تنوع شديد في رؤى ومدارس الاتجاهات الفكرية ناهيك عن اختلافها في ملفات السياسات العامة ورؤيتها للسياسة والمجتمع، ففي قضية المرأة وحدها وجدت إخوان الخليج أكثر سلفية من السلفيين الذين نعرفهم في مصر، وهكذا.
بل يمكن القول أن التنوعات بين الاشتراكيين والليبراليين فلسفيا ونظاميا تتنامى بدرجة ربما تزيد على تنوعات النموذج الإسلامي بمذاهبه ومدارسه وحالاته، بما يسمح لأصحاب التصور الإسلامي (وليس «الإسلام السياسي» كما يسمونه في الخطابات السياسية والذي أتحفظ شخصيا على كثير من أطروحاته وبالطبع أتحفظ على التسمية) أن يسألوا بدورهم: أية قومية وأية اشتراكية وأية ليبرالية وأية عولمة.
مشكلة الليبرالية - وقدرها - هو أنها ارتبطت بالرأسمالية وبالتحديث في نشأتها في التاريخ الأوروبي، ولأن التحديث والتطور الاقتصادي متنوع الدرجات والمسارات فقد تنوعت الأنماط، وما بين العلمانية الفرنسية المعادية بصلف للدين المبدية البغضاء له من ناحية، والمثالية الألمانية المتجاوزة التي تؤمن باللغة والتاريخ والإنسان والعقل الفطري من ناحية أخرى تقف في الوسط الليبرالية الأنجلو - أميركية بثرائها وتنوعها إلى حد التناقض، ونتأمل الأمثلة الكندية والأسترالية بعمق لنرى فوارق وفروق.
التحدي أن نؤسس رؤية للحريات وللمساحات السياسية والمدنية في المجال العربي الإسلامي تحترم الإنسان وتحترم قوة الدين الروحية والاجتماعية في آن واحد. هذا هو تحدي على الليبراليين قبل غيرهم.
أما الاشتراكيين العرب فلم يطوروا رؤاهم كما فعل أصحاب المذهب في مناطق أخرى، في أميركا اللاتينية امتزج الدين (الكاثوليكية) بالاشتراكية في تناغم فريد صبغ الثقافة وقدم رؤية مركبة لمناهضة الرأسمالية والبحث عن عولمة بديلة.
القومية أيضا تطورت في بقاع كثيرة، وصار مفهومها الجامد محل نظر وخاصة مع صعود مفهوم التعددية الثقافية الذي يناقض أصول تصورات المواطنة الجامدة التي تريد وضع الفرد في قالب سياسي يتنكر للدور القوي في حياة الشعوب للثقافة والعرق والدين، لكن مازال هاجس منح الأقليات قدرا من الحكم الذاتي والحقوق الثقافية يؤرق القوميين، وهو ما يدفع تلك الأقليات باتجاه الانفصال بدلا من الوصول لصيغ فدرالية حميدة تقوي مفهوم الأمة ولا تضعفه.
زمن العولمة لم يعد الخيار الحاسم هو نموذج إسلامي محدود يعود للوراء أو تقليد أعمى لنموذج غربي، فالمشروع المتكامل للمجتمع والثقافة والإدارة السياسية لا يمكنه الآن أن يفلت من الاجتهاد ولا تفلح الآن الحلول السهلة الجاهزة، لا في التراث ولا من الغرب.
في تصوري الشخصي تنامى وعي بأن لكل رؤية قدر من الصواب، فإن قدمنا تصورا للدين يجعل السلطة في يد الملالي ودور الإفتاء قد يؤدي الأمر لمعارضة مقاصد الشريعة التي صار استكشافها في كل عصر مناطه اجتهاد جماعي للعلماء من كل التخصصات، ولذا فقدر من تحديد الأدوار والمساحات مطلوب، وهو ما قد يدخل في مسألة تحديد دور الدين في المجال العام وليس تقييده. مثال واضح على ذلك رفض مجمع البحوث الإسلامية في مصر أن يتبع جمع الزكاة وزارة المالية، فالفرائض لا يجب أن تمارس بالإكراه فتصبح الدول هي المسئولة عن معاقبة من لا يدفع الزكاة، فهذه ليست دولة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، هذه دولة… أخرى.
وفي تصوري أن حرية السوق لابد من كفالتها لحد ما، لكن الرأسمالية المتوحشة التي لا تبالي كثيرا بالحرية والعدالة وقيم المواطنة وحقوق الناس، بل تنصرف إلى حسابات الربح والخسارة والأرقام وأسعار الأسهم ومواضع الكسب حتى لو كان على أشلاء الناس.. هي في تقديري ضد الديمقراطية وضد العدل.
وإذا كانت قيم الليبرالية النبيلة قد حاولت أن تستعصم بالنظام الديمقراطي كنظام سياسي يرفع صوت الناس حتى تتمكن الجماهير من مواجهة الرأسمالية إذا طغت وتجبرت، فإن العالم يشهد (بعيدا عن البحوث الأكاديمية والنزاعات الحزبية) تحولا كبيرا من الديمقراطية الليبرالية العادلة إلى الإدارة السياسية للرأسمالية العالمية والتي تضع في كرسي الحكم في أكبر دول العالم من يحمي مصالحها وتمول هي حملته الانتخابية فتقنع الناخبين من المستهلكين بأنه الأقدر على تحقيق أحلامهم… وينتهي الأمر بكارثة مالية كالتي تخيم على مجتمعنا اليوم.
فضلا عن أن ما نراه في ديارنا المحروسة ليس ليبرالية حقيقية ولا ديمقراطية تحديثية تبني وتؤسس، بل رأسمالية مشوهة طفيلية صارت جسرا للرأسمالية الدولية المتعولمة، والكارثة أن هذا يتم في ظل غياب تام لحركات اجتماعية قوية، ولأي حضور لصوت الأغلبية في قنوات التغيير.
هل يجدي أن نرفع أصواتنا فنقول يا ناس الإسلام أكثر عدالة وتحريرا مما تزعمون، وأكثر تقاربا مع رؤية لدور الدولة في تحقيق الرفاهة والشفافية وليس دور الدولة في إكراه الناس على تقوى محلها القلب، وأن نصرخ أن فلسفة الليبرالية في جذورها التنويرية الأولى لدي لوك وجيمس ميل الأب أكثر أصالة وإنسانية مما نرى؟ وهل يجدي أن نشرح أن الليبرالية الحقيقة ليست ضد الدين، وليست ضد العدل الاجتماعي، وأن القومية حلم للوحدة والنهضة وليست سجن كبير للأغلبية يسحق فيه المخالف.
ربما يكون الغد أكثر إشراقا في عالمنا العربي لو خطا الناس خطوة شجاعة إلى مربع جديد، فأدرك أصحاب المشروع الإسلامي أن آفاق الليبرالية في احترامها للإنسان تتقاطع مع مفهوم الاستخلاف ومقاصد العدل، وأدرك التيار الليبرالي أن الليبرالية ليست بالضرورة مع العلمانية المتطرفة ضد الدين، وفهم أصحاب المال أن مناخ الاستثمار لا يستقر إلا فوق دعائم العدل الاجتماعي كضمانة وحيدة للاستقرار، ودافع اليسار الباقي بأطيافه عن قيم المستقبل الإنساني يدا بيد مع كل الأطراف فنظر للأمام لا للخلف قبل أن يكتسح طوفان الرأسمالية العالمية الهادر الدين والليبرالية الحقة والإشتراكية المتزنة وكل ما نتفق عليه من إنسانية وعدل ومساواة وحرية ونهضة وحضارة وعمران وأخلاق.
تشرذم النخب السياسية والثقافية على الساحة العربية هو البلاء، وهوس التصنيف هو الداء، ولو سعيت للخروج منه فعليك لعنة الجميع لأنك أفسدت عليهم متعة تصنيفك وأقلقتهم وعكرت مزاجهم بتفردك بمساحة غير قابلة للحكم عليك بالعداوة أو الصداقة، فكيف ينام الناس وتغمض جفونهم وفيهم من يغني خارج السرب أو يأتي من أقصى المدينة يسعى يقول: أليس منكم رجل رشيد!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق