الجمعة، 1 مارس 2013

الدين والدولة ..................... إبراهيم الهضيبى

يبدو تقسيم الأطراف السياسية إلى «إسلامى» و«مدنى» عبثيا، لا بسبب عدم تناوله الأسئلة الرئيسة المفروضة على المجتمع (والمتعلقة بالموقف من الثورة والتغيير، والتوجهات العامة فى الاقتصاد وعلاقة الدولة بالمجتمع والعلاقات الدولية) فحسب، وإنما بسبب عجزه عن تفسير مواقف الطرفين إزاء ذات القضية التى يجرى التقسيم على أساسها، إذ لم تزل الأحداث تكشف اضطراب مواقفهما المتعلقة بسؤال علاقة الدين بالدولة.
••• 

كانت مناقشات مجلس الشورى فى الأسابيع الماضية كاشفة، فمشروع قانون «الصكوك الإسلامية» (الذى قدمه الإسلاميون) ووجه بالرفض من قبل الأزهر (الذى نصت المادة الرابعة من الدستور على أخذ رأى كبار علمائه فى الشئون المتعلقة بالشريعة)، لا لاصطدامه بأحكام شرعية، وإنما لأنه منع الطعن على القرارات الناتجة عنه، ولأنه أعطى الأجانب حق التملك (وهى أسباب سياسية أقرب منها للشرعية)، وقابلت الأطراف المدنية (المتخوفة من تدخل المؤسسات الدينية فى الحكم) هذا الموقف بالترحاب.

وبعد أسابيع معدودة كان المجلس ذاته يناقش طلبا للاقتراض من الاتحاد الأوروبى، وقد ووجه مشروع القرض بمعارضة بعضها لأسباب سياسية واقتصادية وبعضها لأسباب دينية، سببها عدم اطمئنان المعترضين لخلو القرض من الربا، فطلبوا ــ استنادا للمادة ذاتها من الدستور ــ عرضه على الأزهر، فرفض زعيم الأغلبية «الإسلامى» معتبرا اللجوء للأزهر انتقاصا من السيادة الشعبية التى تقصر حق التشريع على نواب الشعب.

هذان الموقفان يمكن النظر إليهما على أكثر من مستوى، فهما ــ من جهة ــ يكشفان عدم جدية جل الأطراف الحاملة لألوية «المدنية» و«الإسلامية» فى دفاعها عما تنادى به، واستعدادها للتنازل عنه مقابل مكاسب سياسية صغيرة، وهو ما ينبغى أن يدفع ــ بدوره ــ لتعرية الصراع من غطائه الهوياتى، والنظر إلى حقيقته المتعلقة بالتوجهات والمصالح السياسية والاقتصادية. 

غير أن الموقفين ــ من جهة أخرى ــ يعبران عن قصور الطرفين المتنازعين فى تقديم رؤية جادة لعلاقة الدين بالدولة، واكتفائهما بشعارات (سواء الإسلامية أو المدنية) تركز على مساحات التباين بينهما، مع لجوئهما ــ عند طلب التفصيل ــ لخطاب عام يقر بوجود مساحات من التماس بين عمل الدولة والأحكام الشرعية، ثم لا يحاول إيضاح حدود هذا التماس، وكيفية تنظيمه، وهو ما يجعل الخطاب ــ على الجانبين ــ شعبويا مفتقدا للجدية.

•••

والتنظيم الجاد للعلاقة بين «الدين» و«السياسة» يحتاج للإجابة عن ثلاثة أسئلة، أولها يتعلق بماهية الشريعة، وثانيها بماهية الدولة، وثالثها بعلاقتهما، ولم يقدم طرفا النزاع (بل وغيرهما من الأطراف المؤثرة) أى جهد ظاهر فى اتجاه الإجابة عن تلك الأسئلة.
  • فأما السؤال عن ماهية الشريعة فمن الملفت أن أهم الأطراف الإسلامية (الإخوان والدعوة السلفية) لم تجب للآن عنه، فلم تقدم تعريفا للشريعة لا من حيث التعريف الكلى، وما من حيث مناهج استنباط الأحكام، ولا من حيث الآراء الفقهية الراجحة والتى يسعون لإعمالها، وهو ما يبقى مفهوم الشريعة مبهما، صالحا للاتساع أو التضييق بحسب المصلحة السياسية، ويعطى شرعية للمزاعم القائلة بأن هذه التيارات إنما تستخدم الشريعة لتحقيق مصالح سياسية وتنظيمية.

 ولا يختلف الأمر كثيرا فى الأزهر، إذ نصت المادة 219 من الدستور (والتى صاغها الأزهر) على أن «مبادئ الشريعة تشمل أدلتها الكلية وقواعدها الأصولية والفقهية ومصادرها المعتبرة فى مذاهب أهل السنة والجماعة»، وهو توصيف شديد العمومية يسمح بالشىء ونقيضه، خاصة فى ظل التنازع على لافتة أهل السنة بين مدارس دينية مختلفة، وفى ظل تزايد القطيعة بين واقع الأزهر وماضيه الذى كان أكثر وضوحا فى أشعريته وتمذهبه وتصوفه حتى مطلع القرن المنصرم.

وغنى عن البيان أن الأطراف «المدنية» لم تقدم هى الأخرى تصورا لماهية الشريعة، وليست هذه مسألة ترفية، إذ أنها تقدم تعريفا لنفسها باعتبارها «مدنية» تؤمن بتحكيم «مبادئ الشريعة» ثم تعترض على تعريف غيرها لتلك المبادئ من دون أن تقدم هى ما يصلح كبديل للنقاش.
  • وأما السؤال عن ماهية الدولة فهو مطروح منذ نشأة مصر الحديثة فى عهد محمد على، مع امتلاك الدولة لأدوات لم تكن تمتلكها من قبل ــ مكنتها منها الثورة الصناعية ــ صارت بها قادرة على إدارة المجتمع و«ترشيده» والتدخل فى مساحات من الحياة الخاصة لم تكن قادرة قبل ذلك من الوصول إليها، على نحو جعل حنا أرندت تعتبر الوظيفة الرئيسة للدولة الحديثة هى تحويل التدبير المنزلى لمهمة وطنية، والأسئلة عن حدود الأدوار الرئيسة للدولة (سياسيا واقتصاديا واجتماعيا) تظهر التناقضات فى مواقف جل التيارات السياسية، التى يكون دعمها لتدخل الدولة أو انسحابها فى قضية معينة مبنيا لا على تصورات لطبيعة دور الدولة ووظيفتها، وإنما على نوع التوجه المفروض بهذا التدخل أو عدمه، والشخص القائم عليه.

  • وأما السؤال عن علاقة الدين بالدولة ففيه إشكاليات لم تقدم الأطراف المختلفة إجاباتها عنها:
  1. منها ما يتعلق بكيفية استجابة الفقه لأسئلة الواقع (خاصة فى ظل عقود طويلة من انقطاع الإنتاج الفقهى بطريقة التفريع على المذاهب، واللجوء للمنهج «السلفى» القافز على التراث المعرفى إلى النص الأصلى)،
  2. وحدود «الضرورة» التى يستند إليها الساسة فى تبرير مواقفهم السياسية،
  3. وكيفية تحقيق معانى الصحة الشرعية والصلاحية السياسية فيما يطرح من سياسات،
  4. وكيفية تنظيم العلاقة بين المؤسسات الدينية والمؤسسات السياسية بما يضمن عدم جور أيهما على الأخرى،
  5. والمعايير المفترض التزامها للارتقاء بكفاءة تلك المؤسسات (بعض القوى الإسلامية فى مناقشتها لاختيار المفتى الجديد لم تتطرق لأى معايير تتعلق بالكفاءة العلمية للمرشح، وإنما اقتصرت مطالباتها بألا يكون من الفلول).
•••

مثل هذه الأسئلة تحتاج الإجابة عنها للوقت والبحث وإعمال الفكر من قبل أهل البحث والتخصص فى المجالات المختلفة، وأكثر ما يضرها تعجل الإجابات قبل أوانها، والاستخدام السياسى للشعارات الخالية من المضامين، والاستجابة لضغوط الواقع الدافعة لتقديم إجابات تفتقر إلى الصحة العلمية فتزيد من ضبابية القضايا محل البحث وتؤخر بالتالى الإجابات عنها.

وإدراك هذه الحقائق (الحاجة للوقت والتخصص، وخطورة الاستخدام السياسى) ينبغى أن يدفع الأطراف المتباينة للانشغال بواجب الوقت، وبالقضايا الحالية المطروحة، مع توجيه أهل الاختصاص جهودهم البحثية لإنتاج إجابات أكثر جدية عن أسئلة الدين والدولة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق