الأحد، 3 مارس 2013

ثقة الحوار‏..‏ وحوار الثقة .......... د. سيف الدين عبد الفتاح

مر علينا الزمن بعد ثورة يناير ونحن أمام حالة من الاستقطاب والانقسام السياسي بدت مؤشراته في مظاهر وشواهد كثيرة لتجعل من خطاب الاستقطاب وممارساته سيدة الموقف الحالي‏,‏ وغذت هذا الاستقطاب كتل كثيرة:
كتلة المخاوف, والهواجس, والقلق, وعدم الثقة والشك, وترافق مع ذلك كتل من الإحباط والشعور بأن الثورة قد حوصرت علي أفضل الوجوه, أو سرقت علي أقسي التفسيرات, تكونت وتراكمت هذه الكتل لتعبر عن أرضية مناسبة لمزيد من الاستقطاب وممارسات الفرقة والتنازع الذي وصل في أقصي صوره إلي التقاتل والتنابز بالحشود في حالة شبه مستعصية. 

هكذا يتضح للكل أن الاستقطاب ليس إلا معارك صفرية يخسر فيها الجميع ولا يكسب منه أحد; حيث اتخذ التعبير عن حال الاستقطاب تلك مظاهر من العنف والعصيان وحالات من الانفلات الأمني, مرة أخري عاد كتاب الانفلات الأمني ليقلب صفحاته في حياة الناس ما بين سرقة أموال وما بين خطف أشخاص وما بين أمور كثيرة تعلن كل يوم عن اختفاء هيبة الدولة في تعامل الناس اليومي, وحوصرت مقرات الحكومة في أكثر من مكان في المحافظات والأقاليم وكونت كل تلك المشاهد ما يمكن تسميته ببوادر صناعة فوضي حقيقية.

كل ذلك أدي إلي أمرين شديدي الخطورة علي المسار العام, وعلي مؤسسات الدولة المختلفة, وعلي شأن العلاقات ما بين القوي السياسية المتنوعة المختلفة والمتخالفة, برز ذلك في حال من تآكل الثقة, وفي عنوان آخر طال كل ذلك مؤسسة الرئاسة في سياق ماسمي بتآكل الشرعية, وأسهم كل ذلك في حالة من المواقف المغلقة وانسداد الأفق السياسي واختفاء البدائل الحقيقية واغتيال كل المبادرات التي يمكن من خلالها الخروج من تلك الأزمة المركبة والطاحنة, وصرنا ما بين معارضة انحبست في صندوق المواقف المغلقة, ورئاسة سجنت في إطار من العمل بالشكل التقليدي علي ما يتطلبه ذلك الوضع من ضرورة التفكير خارج الصندوق لمواجهة هذه المواقف الاستثنائية, وانحبس البعض ممن يجيدون لعبة الانتخابات في صندوق الانتخابات لا يغادرونه ويعتبرونه أصلا لكل شرعية, وبدت الرئاسة في هذا المقام وهذا الشأن رهينة المحبسين; المعارضة والإخوان, وقامت الرئاسة المرة تلو المرة بالدعوة للحوار ولكنه كان الحوار بعد القرار لا قبله.

ومن هنا افتقد الحوار ثقته وافتقد بناء الثقة الحوار الفعال القادر علي تمكين رصيد الثقة المجتمعي والسياسي بالتمهيد لحالة توافقية ضرورية تعبر في جوهرها عن الضرورة التأسيسية لبناء مجتمع جديد وفق عقد اجتماعي وسياسي جديد, الرئاسة ظلت رهينة محبسين من معارضة لم تعد تحسن إلا أن تقول' لا', أو تمارس المقاطعة والامتناع, وبين جماعة الإخوان التي ضيقت الطرق علي الرئاسة بفعل خطابها الضيق وممارستها الأضيق, فأورثت حرجا للرئاسة حينما تقوم بالتوصل لنتيجة حوار وتصل إلي ثمرة له فيأتي بعض من هؤلاء ليؤكد أنهم لا يلتزمون بنتائج هذا الحوار.

كل هؤلاء أغفلوا مقتضيات مرحلة الانتقال ومتطلباتها في إطار من الشراكة الحقيقية التي تحقق كل العناصر التي تمكن للحمة الجماعة الوطنية, وبدا كل هؤلاء يضيقون علي الوطن بخطابهم وممارساتهم من دون أي محاولة منهم أن ينتقل من حال التضييق إلي حال الاتساع والانفساح في المواقف السياسية التي يمكن أن تحقق تماسكا مطلوبا وجامعية لابد أن تكون في ظل هذه المرحلة التي تشكل بعد الثورة منعطفا حقيقيا يجب التعامل معه بالدقة الواجبة, والملائمة اللازمة,ولم يمارسوا القاعدة الذهبية إذا ضاق الأمر اتسع.
وللأسف الشديد برز في المشهد ثلاثة استدعاءات من الخطورة بمكان لتعبر عن منزلق خطر يجعل من أهداف الثورة ومساراتها في مهب الريح وكأن الأمر لم يصبه أي تغير أو تحول.
  • كان الاستدعاء الأول هو استدعاء الجيش للمشهد السياسي ومحاولات تحريضه تحت دعوي أنه يمكن أن يشكل بديلا لعملية تحول ديمقراطي تأتي بمؤسسات منتخبة, والتلويح بانقلاب للجيش يجعله في صدارة المشهد والسلطة وهو أمر يتنافي مع أي من أسس وقواعد ضبط العلاقات المدنية العسكرية والتي كانت واحدة من أهم ثمار ثورة25 يناير المباركة, إن معارضة تدفع بعضا من الجماهير لتذهب للشهر العقاري لتقوم بعمل تفويضات للمؤسسة العسكرية لإدارة البلاد هو من الهراء والمراهقة السياسية التي لا يجوز أن تمر من دون توقف يؤكد علي ثوابت ومكاسب هذه الثورة, وعلي هذه القوي التي تسمي نفسها بالمدنية أن تتوقف ومن غير إبطاء عن تلك المطالبات الفجة لتدخل الجيش بأي شاكلة تجعله في مربع الفعل السياسي وميادينه.
  • أما الاستدعاء الثاني فكان استدعاء الفلول في الحركة المضادة للسلطة من دون تمييز بين معارضة حقيقية, وبين ثورة مضادة لثورة الخامس والعشرين من يناير, واختلطت الأمور بين الفلول وغيرهم وبين العنف والسلمية لتعبر بذلك عن إحكام حالة من الفوضي في المدركات والمواقف.
  • أما الاستدعاء الثالث فإنه استدعاء الخارج والتنافس في اكتساب ثقته, وكأننا عدنا إلي سابق عهد كانت تقاس فيه الشرعية برضا الخارج لا رضا الشعب والجماهير في الداخل, وارتكبت المعارضة والسلطة في آن واحد هذا الخطأ ولوح كل منهما للآخر بأنه يرتمي في أحضان الخارج أو يعمل وفق مشورته, أو يحرض الخارج بتدويل قضايا الوطن.
ها هو جون كيري وزير الخارجية الأمريكي يأتي في زيارته لمصر ليكشف عن وضع خطير يعلن فيه أنه سيقوم بمقابلات عدة مع الجيش ومع المخابرات ومع المعارضة فضلا عن مقابلته للرئيس, وبعد جلسة من الحوار تصدر الرئاسة بيانا تقول إن أوباما قد اتصل بالرئيس, أيها القوم الشرعية ليست في الخارج, الشرعية في الداخل ترتبط بهذا الشعب العظيم, الشرعية لا ترتبط بالقوات المسلحة ولكنها ترتبط بعموم الناس الذين يمثلون في حقيقة الأمر ملح هذا الأرض وجوهر الشرعية في هذا الوطن.

ومن هنا وبعد تشخيص لأرضية الاستقطاب التي لم تثمر سوي الحنظل والأزمات التي تعصف بالوطن ومعاش الناس لم يكن لها من ذراري إلا الفوضي والانفلات والفرقة والانقسام, وعليه كان الحديث عن ضرورة بناء الثقة من خلال حوار حقيقي يبني أول ما يبني الثقة في عملية الحوار ذاتها بعد أن تآكلت المصداقية وتراجعت الثقة وصار الأمر يتعلق بمزيد من الانقسام أدي إلي عنف واقتتال وبرزت بعض المؤسسات في هذا المشهد لتعارض الأمر تارة بالعنف المفرط وتارة بالتباطؤ غير المفهوم.

إن الحوار المطلوب له من الشروط التي تجعل مفتتحه بناء لأرضية الثقة ثم ينطلق هذا الحوار ليمكن لعناصر توافق حقيقية محوطة بالقرارات والضمانات التي تجعل من ضرورة أن تشارك كافة القوي السياسية في العملية الانتخابية كخيار استراتجي يمكننا ومن كل طريق إلي بناء المؤسسات المنتخبة بناء حقيقيا لا بناء مشوها في كيانه أو مشوشا في أدائه, إن بناء المؤسسات غير تمريرها, وإن صياغة السياسات وارتباطها بمقصودها غير القيام بتبريرها, ليس أمامنا من طريق إلا أن نقدم استراتيجية متكاملة للمصالحة وبناء التوافق وتأسيس عقد للشراكة الوطنية في صناعة القرار وبناء المؤسسات هذا فقط هو الذي ينتج حوار الثقة والثقة في الحوار.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق