الثلاثاء، 12 مارس 2013

مصر بين حريقين.. الخبرة والعبرة ...... فهمي هويدي

ما يحدث فى مصر هذه الأيام يعيد إلى الأذهان أجواء حريق القاهرة الذى شهدته البلاد منذ نحو ستين عاما، وكانت له تداعياته التى شكلت منعطفا كبيرا فى التاريخ المصرى الحديث.

(1)

صحيح أن الحدث استغرق يوما واحدا أو نصف يوم إن شئت الدقة، إلا أنه لا يزال محفورا فى الذاكرة المصرية، فقبله يوم واحد كانت موقعة الإسماعيلية التى أثبتت الشرطة خلالها بسالة نادرة فى مقاومة سلطة الاحتلال البريطانى، وبعده بستة أشهر قامت ثورة يوليو وسقطت الملكية فى مصر.

يومذاك (السبت 26 يناير لعام 1952) اشتعلت النار فجأة عند الظهر فى كازينو أوبرا، ثم فى سينما ريفولى ثم تلاحقت الحرائق فى قلب القاهرة. وفيما بين الثانية عشرة ظهرا والحادية عشرة مساء كانت النار قد التهمت 700 هدف . وقال بيان النائب العام الذى نشرته الصحف فى 8 مارس فإن النيران المجنونة أتت على ما يلى: 300 محل تجارى بينها أكبر وأشهر المحلات فى البلد ــ 30 فرعا لشركات كبرى ــ 117 مكتبا وشقة سكنية ــ 13 فندقا كبيرا ــ 40 دارا للسينما ــ 92 محلا للخمور ــ 16 ناديا اجتماعيا. وهو ما أدى إلى مقتل 36 شخصا (22 ماتوا محترقين) وإصابة 552 بجروح بينهم 30 بأعيرة نارية. كما أدى إلى تشريد آلاف العمال، قدر عددهم مع من يعولونهم بنحو 20 ألف نسمة. (التفاصيل وقصة الحدث كاملة مذكورة فى كتاب الأستاذ جمال الشرقاوى، الذى صدر فى عام 1975 تحت عنوان: حريق القاهرة ــ قرار اتهام جديد).

فجعت القاهرة وخيم عليها الذهول جراء ما حدث. وظلت القصة لنحو ربع قرن محاطة بالغموض. الذى حين تكشف تبين أن الفاعل الحقيقى فيه هو المخابرات البريطانية التى استهدفت الانتقام من حكومة الوفد وإسقاطها. وهو ما أكدته دراسة الأستاذ جمال الشرقاوى التى صدرت فى كاتب لاحق بعنوان (حريق القاهرة فى الوثائق البريطانية).

(2)

«حرق مصر» كان العنوان الرئيسى لعدد جريدة «الشروق» الصادر يوم الأحد الماضى (10/3). ورغم أنه لم يخل من مبالغة نسبية لأن الحرائق التى وقعت شهدتها محافظات لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، إلا أنه كان معبرا عن أحد الفروق بين ما حدث قبل ستين عاما حين اقتصر الحريق على القاهرة فقط وبين ما هو حاصل الآن. علما بأن عدد المواقع التى استهدفت فى حريق القاهرة أكبر بكثيرمن الحرائق التى وقعت هذه الأيام.

قبل أن أستطرد فى ذكر الاختلافات بين المشهدين وهى كثيرة، أستاذن فى أن أمر بسرعة على أوجه التشابه بينهما، التى ألخصها فيما يلى:
  • وقوع الحدثين وسط أجواء مشاعر وطنية جياشة (مقاومة الإنجليز والثورة فى مصر)،
  • لجوء المتظاهرين إلى تخريب الأماكن العامة،
  • إشاعة الخوف والفزع فى المجتمع،
  • وجود عقل مدبر وغامض وراء الحرائق (دور المخابرات البريطانية فى حريق القاهرة ظل محل شك ولم يثبت إلا فى وقت لاحق،
  • استهدف إسقاط السلطة القائمة ممثلة فى حزب الوفد آنذاك والإخوان فى الوقت الراهن،
  • صمت رأس الدولة واكتفائه بالفرجة على ما يجرى، فالملك فاروق كان يحتفل يوم حريق القاهرة، بميلاد ولى العهد، والرئيس محمد مرسى لم يصدر عنه شىء يذكر،
  • الدور السلبى لأجهزة التحقيق والنيابة، الذى أسهم فى طمس الحقائق وليس كشفها،
  • استخدام العاطلين والبلطجية فى إشعال الحرائق،
  • عجز الشرطة عن احتواء الموقف والسيطرة عليه، 
  • شلل القوى السياسية وعجزها عن التعامل الإيجابى مع المشهد.

فى رصد الاختلاف بين الحريقين نلاحظ ما يلى:
  • الحدث كان محصورا فى القاهرة قبل ستين عاما، لكنه فى الوقت الراهن تجاوز العامصة وترددت أصداؤه فى بعض المحافظات الأخرى،
  • كان إشعال الحرائق هو الأسلوب الوحيد لإشاعة الفوضى فى القاهرة وقتذاك. لكن الأساليب تعددت الآن بحيث شملت إعلان الإضراب وحصار البورصة والبنك المركزى وتعطيل شبكة المترو.. إلخ
  • فى حريق القاهرة استدعى الجيش الذى نزل متأخرا، وفى حالتنا ظل الجيش بعيدا عن المشهد،
  • وقتذاك كان الاتفاق منعقدا على أن الاحتلال البريطانى هو الخصم أما فى الوقت الحالى فالإخوان هم المستهدفون،
  • فى السابق كان الاصطفاف الوطنى محسوما فى مواجهة الإنجليز لكن الصف الوطنى منقسم الآن فى مصر،
  • الذين قاموا بالدور الرئيسى فى حريق القاهرة كانوا مدربين جيدا وكانت خطة تحركهم واضحة، أما الذين يشيعون الفوضى فى مصر الآن فهم أقرب إلى الهواة الذين اندس بينهم بعض أصحاب السوابق،
  • حريق القاهرة لم تكن له مقدمات واستغرق نصف يوم، أما الحاصل فى مصر الآن فقد بدأ بخروج الثوار الذين أرادوا التعبير عن احتجاجهم وغضبهم، وكانت تلك خلفية وأرضية استثمرها آخرون لإشاعة الفوضى، إلى جانب أن تحركاتهم استمرت أياما عدة وأسابيع،
  • فى حين يكمن وراء حريق القاهرة حدثان مهمان هما إلغاء حكومة الوفد لمعاهدة 1936 مع بريطانيا فى عام 1951 وفتح الباب لمقاومة الوجود البريطانى فى منطقة القناة، وحصار الإنجليز محافظة الإسماعيلية فى عام 1952 لمنع الشرطة من دعم الفدائيين، لكنها رفضت تسليم سلاحها واشتبكت مع الإنجليز يوم 25 يناير مما أدى إلى استشهاد أعداد من الضباط والجنوب (لذلك تم تخليد اليوم واعتبر عيدا للشرطة) وقد وقع حريق القاهرة فى اليوم التالى مباشرة. أما الحاصل الآن فى مصر فقد تداخلت فى خلفيته عوامل عدة، فى مقدمتها تداعيات الحكم بإعدام 21 متهما فى قضية مذبحة استاد بورسعيد التى أعقبت مباراة كرة القدم بين الناديين الأهلى والمصرى،
  • لكن هناك فرقا آخر تمثل فى موقف حكومة النحاس باشا وحكومة الدكتور هشام قنديل من الأزمة التى حدثت، وتلك مسألة تحتاج إلى وقفة خاصة.

 (3)

أغلب المؤرخين المصريين لم يفترضوا البراءة فى موقف الملك فاروق، الذى كان قد احتجز قادة الجيش وكبار ضباطه فى قصره حيث دعاهم إلى الغداء بمناسبة مولد ولى العهد، إلا أنه تصرف بسرعة وأقال حكومة النحاس باشا التى كانت قد أعلنت الأحكام العرفية وحظر التجول فى القاهرة، ذلك أنه من الناحية السياسية ما كان له أن يمرر حادث الحريق دون أن يتخذ خطوة حاسمة يبدو من خلالها كما لو كان يسعى لاحتواء الحدث من خلال حكومة أخرى، فما كان منه إلا أن أقال النحاس باشا وعين على رأس الحكومة على باشا ماهر.

لا يختلف أولئك المؤرخون حول عدم ارتياح الملك لتصرفات حكومة النحاس باشا التى ألغت معاهدة 1936 على غير رغبة منه، إلا أن إقالة رئيس الحكومة بدت تصرفا مناسبا من الناحية السياسية. حيث ما كان ينبغى لرأس الدولة أن يواجه موقفا يعصف باستقرار البلاد ثم يقف منه متفرجا، ويتصرف فى تسيير الأمور كأن شيئا لم يكن. ورغم أن أحدا لم يكن يشك فى وطنية حكومة النحاس باشا التى ألغت المعاهدة وفتحت الأبواب للمقاومة المسلحة ضد القوات البريطانية فى منطقة القناة، إلا أن إقالة الحكومة بدت مفهومة من الناحية السياسية. ولماذا نذهب بعيدا عن ذلك؟ إن ما حدث مؤخرا فى تونس يؤيد ما أدعيه. ذلك أنه بعد اغتيال الناشط اليسارى شكرى بلعيد وخروج التظاهرات جراء ذلك، الأمر الذى أشاع التوتر فى البلاد، فإن رئيس الحكومة لم يكن بوسعه أن يعتصم بالصمت ويتجاهل ما حدث، فبادر إلى اقتراح إعادة تشكيلها على نحو وفاقى جديد، وحين لم يقبل اقتراحه فإنه استقال من منصبه، وأفسح الطريق لغيره لكى يتحمل المسئولية.

النقطة التى تهمنا فى الموضوع أن البلد حين يواجه مأزقا بمثل تلك الحدَّة فإن قيادته ينبغى أن تقدم للمجتمع إجراء محسوسا يقنع الرأى العام بأنها ليست متفرجة على ما يجرى، ولكن لديها مبادرات جادة للتعامل معه سواء بسياسات جديدة أو وجوه جديدة، وحين لا يحدث لا هذا ولا ذاك فإن ذلك يضعف من تقدير المجتمع لتلك القيادة، الأمر الذى يمثل سحبا من رصيد الثقة فيها. وهذا المنطوق ينطبق على مصر فى وضعها الراهن، خصوصا بعدما تراجع الحماس لاستقبال الدعوة إلى الحوار الوطنى لأسباب يطول شرحها، ومن ثم تعين على الإدارة السياسية أن تطرح مبادرة أخرى ترمم الجسور وتحقق الوفاق المنشود. ورغم أنه يتعذر إعفاء قوى المعارضة من المسئولية فى هذه الحالة، إلا أن مسئولية الجهة صاحبة القرار الممسكة بالسلطة تظل أكبر والصمت فى هذه الحالة، لا يعد من قبيل الحكمة أو حسن الإدارة، لكنه يصبح دليلا يشهد بعكس ذلك.

(4)

إن كفاءة القيادة تقاس بمقدار استجابتها لمسئولية التحدى التاريخى الذى تواجهه.
والزعماء الحقيقيون يحتلون مكانتهم فى التاريخ تبعا لقدرتهم على ارتفاعهم فوق التحدى وانتصارهم عليه.
والفرق بين الزعيم والرئيس يتمثل فى أن الأول يمارس ذلك الاستعلاء،  وينجح فيه فى حين أن الرئيس هو من يكون فقط فى مستوى التحدى.  فالأول يقود والثانى يدبر فقط.
وقد قرأت أن رجل نهضة سنغافورة وأحد حكماء العصر لى كوان يو (89 سنة) قال إن أبطاله ثلاثة، هم شارل ديجول وونستون تشرشل وينج كيساوبنج. السبب فى نظره أن الثلاثة كانوا أقوياء فى لحظات الضعف التى مرت بها بلدانهم. فديجول أنقذ فرنسا من خيانة المارشال فيليب بيتان وتعامله مع الاحتلال النازى. وتشرشل قاد بريطانيا إلى النصر وهى تحت صواريخ هتلر. أما بنج فإنه أحدث الانقلاب الكبير فى الصين بحيث نقلها من قاع الفقر والجدب إلى المراكز الأولى فى العالم.

إن الرئيس محمد مرسى الذى يدخل الآن شهره التاسع فى منصبه هو الذى سوف يحدد مكانته فى تاريخ مصر، وما إذا كان سيصبح زعيما، أم سيبقى رئيسا، أم أنه سيصنف نفسه فى مربع ثالث لا هو الأول أو الثانى؟!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق