السبت، 23 مارس 2013

العنف يهدد فرص التوافق ... سيف الدين عبدالفتاح

حينما تحدثت فى المقالة السابقة عن أن تأجيل الانتخابات فرصة يجب ألا ندعها جميعا تمر أو تضيع كان مقصودى أن نؤكد على ضرورة تهيئة الأجواء لمصالحة سياسية كبرى تحقق الهدف منها لإنقاذ الوطن من أزمته وحماية الثورة من المتربصين بها، وكذلك كان من المقصود أن نهيئ مناخ الاستقرار بصورة ملحة حتى يمكن التفكير بهدوء فى الخروج من هذه الأزمات برؤية رصينة تحفظ لحمة الجماعة الوطنية وتخرج من قمقم الاستقطاب.
إلا أن المشاهد التى وقعت خلال هذا الأسبوع والمرشحة للتصاعد خلال الأيام المقبلة أشارت إلى كيف أن الأحداث العابرة يمكن أن تسهم فى وأد استراتيجيات كبرى فى مهدها ذلك أن الحدث الصغير قد يؤدى إلى أثر كبير لا يمكن التحكم به أو فيه فيؤدى ذلك إلى نسيان الهدف الأساس أو تحويل الأنظار عنه إلى أمور تتصدر المشهد من غير استئذان، وتقوم الأطراف التى تتعلق بصناعة عالم الأحداث والتهويل فيه بتقديم صورة هذا الحدث بحيث يطغى على كامل المشهد السياسى وتصير كل الأمور تتعلق بمصالح الوطن وبمحاولة التعامل مع أزماته الحقيقية فى خلفية المشهد وربما تتوارى إلى زوايا النسيان.
•••

أقول كل ذلك بمناسبة حوادث تتعلق بأحداث المقطم الأخيرة، وأحداث شبرا الخطيرة؛ وكيف أن هذه الأحداث تصدرت المشهد السياسى لتعبر عن أمر خطير، يستحق إطلاق النذير والنفير يتعلق بحالة من الوباء فى استخدام المفاهيم والتعامل معها بازدواجية خطيرة، والحديث عن بعض أشكال العنف والتعتيم على أخرى، كل ذلك إنما يعبر عن وباء يرتبط بحالة الاستقطاب وحالة الانقسام وصناعة الفرقة والفوضى لتكون هذه الأحداث والصناعة المتعلقة بها مما يطمس المواقف الاستراتيجية والقيام بعمل يجعلنا نستشرف صفحات جديدة فى العمل السياسى نخرج به من حال الـ«ألزهايمر» السياسى ومن حال الوباء «المفاهيمى» فى الاستخدام والاستعمال.
دعونا إذن نرَ المشهد الذى يتعلق بأحداث المقطم لتعبر عن احتراف فى نقل مصادر عدم الاستقرار إلى أماكن مختلفة فتارة نحن أمام قصر الاتحادية، وأخرى نحن فى كورنيش النيل عند فندق  سميراميس، وثالثة نحن فى المقطم عند مكتب الإرشاد، وفى كل مرة سيصنع المشهد ضمن حالة عنف خطيرة تمارس فى المجتمع وتجعل من الفوضى والانفلات الأمنى والتحرش ليس فقط بعالم الإنسان ولكن بعالم المؤسسات والمبانى، أو بالطرق وقطعها أو بالاعتصام على شريط السكك الحديدية، كل هؤلاء صاروا يؤزمون المواقف بشكل أو بآخر ليعبروا عن إضافة سلبية لمشهد عنف يمارس فى الاحتجاج، وعنف مضاد تراق فيه الدماء، وتزدهر فيه تجارة العنف والعضلات.

وضمن هذه المشاهد نرى على سبيل المثال بعض المحتجين يرسمون ما يعبرون به عن احتجاجاتهم على مكتب الإرشاد وجماعة الإخوان المسلمين بطريقة تعبر عن حال من الاستفزاز الذى قد يؤدى إلى مناوشات واشتباكات غير مأمونة تتحول فى النهاية إلى اقتتال يحاول البعض صناعته وإثارته، نرى من المشاهد من بنت تَضرب وتُضرب، وتعلن هى فى مشهد الاقتتال عن كل ذلك، ونرى فى ذلك المشهد من شعارات لا تحمل فقط معانى السخرية ولكنها تحمل عناصر الايذاء اللفظى لتعبر عن حالة عنف فى هذا الإطار، العنف لا يعبر فى ذاته عن ممارسة عضوية أو ممارسة بدنية، إن من العنف ما يمارس بشكل لفظى أو بدنى أو عضوى، ذلك أن أخطر ما يمارس فى هذا المقام يعبر عنه ثقافة ممتدة من أن حروب اللسان تكون مقدمة لحروب السنان، وأن الاقتتال يبدأ فى معظمه من أقوال وخطابات مستخدما كل الكلمات المفخخة والمتفجرة بحيث تحدث دويا يحقق تحول هذا العنف اللفظى إلى عنف واقتتال مادى.

وغاية الأمر فى هذا أن نؤكد أن كل أحد لا بد أن يحفظ أدواره ويعلن احتجاجه فى الإطار الذى يعبر فيه عن رأيه فى التظاهر والهتاف، لكنه من غير المقبول أن نستخدم من الكلام ما يشكل عنفا لفظيا ويؤدى إلى احتراب بينى يمكن أن يولد مع تراكمه نتائج لا تحمد عقباها ولا يمكن التحكم فيها، وفى ذات الوقت فإنه من الواجب على من يوجه إليه الاحتجاج أن يتعامل فى حدود ما هو واجب بما لا يؤدى إلى تفجر عالم الأحداث أكثر مما يحتويه أو يستوعب عناصر الخطر فيه، إن شكل التعامل بالبلطجة المتبادلة بالقول أو السلوك إنما يشكل ــ فى حقيقة أمره ــ حالة من الاستقطاب يمكن أن يكون فيها الشباب ضحية لمثل هذا الميراث.

وهنا لا بد أن نؤكد أن لطم الفتاة أمام مقر مكتب الإرشاد يعبر عن فائض فعل لا يمكن قبوله وفق أصول أخلاقيات المجتمع العامة التى تجعل من هذا السلوك أمرا غير مقبول ومستهجنا، وأن التطاول من فتاة على شاب بالقول أو بغيره يعد كذلك أمرا خارجا عن حدود الأخلاقيات العامة التى لا يمكن أن تقر هذا النوع من السلوك المتبادل من العنف قولا أو فعلا.

•••

وكذلك فإن حادثة شبرا تعبر عن ذات الأمر حينما يختلط فيها الحابل بالنابل فتتحول المشاجرة إلى حالة اقتتال سياسى من أقرب طريق، وتعبر عن اختلاط شديد بين الشخصى والخاص والعام والسياسى، هذا الاختلاط الذى يفسد أى عمل يتعلق بامكانات احتواء الموقف أو التعامل معه، ومن الواجب أيضا أن نؤكد على أن الشرطة فى هذا الحدث صارت طرفا تقدم فيه بممارساتها توريطا لمؤسسات الدولة فى عمل لا يمكن قبوله لأنه من تراث الماضى، إن امتهان أى شخص من قبل الشرطة لم يعد أمرا مقبولا وإن التجاوز فى التعامل لا يمكن بأى حال من الأحوال إلا اعتباره حالة من التصرف غير الرشيد الذى يحرك كل نوازع الاحتراب بين الناس ومؤسسات الدولة وتمثل فيه الشرطة طرفا فى إطار تصفية حسابات سابقة أو لاحقة، وتعبر بذلك عن قدر من التوجس، ويؤكد المعنى الذى كررناه مرارا وتكرارا من أننا ندفع ضريبة عدم القيام بصورة حقيقية وجوهرية بإعادة هيكلة الجهاز الأمنى وترسيخ عقيدة جديدة فى التعامل اليومى مع المواطن وكل ما يتعلق بكرامته أو إهانته.

وأخطر من ذلك ألا نجد من جمعيات حقوق الإنسان إلا فيما ندر أنها لا تلقى بالا لهذا الحدث، وكذلك الإعلام الذى يقيم الدنيا ولا يقعدها فى حوادث سابقة وفى إطار عمل لا يقبل ازدواج المعايير أو الحالة الانتقالية التى تعبر عن وباء إدراكى فى إطار انتقاء التفسيرات والمواقف.

إن حق الإنسان يرتبط به كإنسان وعلى كل هؤلاء من جمعيات حقوق الإنسان أو إعلام أن يتعلموا كيف يقتفون المواقف القيمية والأخلاقية ولا يفرقوا بين صاحب اتجاه أو صاحب انتماء إلى أى حزب من الأحزاب أو تيار من التيارات أو ينتمى لأية قوى سياسية، إن خضوع المفاهيم لحالة من الاستقطاب يعبر عن ذلك الوباء الذى أصبنا به وتمكن منا فصرنا نكيل بألف مكيال.

•••

إن خطورة هذا العنف إنما تكمن فى أثره الحال، ومآلاته المستقبلية، ومن تحوله من حالة عابرة إلى حالة هيكلية، ومن تصور يتعلق بإنتاج العنف وتوطين البيئة لحالة من الاقتتال والاحتراب فى الخطاب والأفعال، ومن هنا تبدو دائرة العنف التى ستنضاف إلى صناعة الاستقطاب وصناعة الفوضى إلى صناعة دوائر العنف التى تنداح فى أرجاء المجتمع فتشكل عملا خطيرا ضمن الأداء السياسى يخرج الثورة عن مسارها الحقيقى ويشكل الاحتجاج فى ثوب من العنف الهيكلى.

ومن هنا يجب علينا أن نعى مآلات الأفعال والأقوال، لأن هذا أمر لا يمكن تحمله فى إطار خلق دائرة العنف الجهنمية التى لا يمكن التحكم فيها وبها، و(ما دخل العنف فى شىء إلا شانه، وما كان الرفق فى شىء إلا زانه)، دعونا نحرك صناعات أخرى غير الفوضى والاستقطاب والعنف ونؤسس لصناعات التوافق والتماسك والخروج من حال الأزمة لتأسيس مجتمع جديد وصياغة عقد جديد. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق