الثلاثاء، 2 أبريل 2013

بين الغيبة والنقد | بقلم : الشيخ محمد الغزالي


إذا نصحت المسىء وأنت فرح لما فرط من إساءته٬ وتربصت به العقاب٬ وأنت شامت لما أصابه من جريرته.. فأنت امرؤ لا تقوم لله ولا تقيم حدوده.

وكلامك فى وعظه وإن كان حقا إلا أنه كجهاد المنافقين. وطلبك للجزاء وإن كان عدلا إلا أنه إشباع للشهوة، لا إقامة للدين!!..

إن النية الصالحة روح كل عمل٬ وبها ترسو الموازين كالجبال٬ أو تخف كالهباء٬ وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: `إنما الأعمال بالنيات`.

المؤمن الصادق رجل يعشق الخير ويهوى وقوعه ويحب أصحابه..
جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل : “ما علامة الله فيمن يريده٬ وما علامته فيمن لا يريده؟” .

فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم : ` كيف أصبحت؟ `. قال: “أصبحت أحب الخير وأهله٬ وإن قدرت عليه بادرت إليه.. وإن فاتنى حزنت عليه وحننت إليه”. قال صلى ا لله عليه وسلم : ` فتلك علامة الله فيمن يريده`.

هذه النفس التى تحب الخير عن نقاء وطهر ٬ تكره الآثام بداهة وتنكمش عن ذويها. فإذا رأت جرما استنكرته ٬ وإذا كانت بينها وبين صاحبه جفوة قديمة لم تفرح لعثرته.

إن العصيان قذارة تلوث وجه الحياة كما تلوث الأقذار وجوه الطرق.

ومجرد الفرح بوقوع معصية أيا كان مرتكبها يدل على طبيعة مريضة كنود.

إن المؤمن لا يبهجه وقوع سيئة من أحد. ويوم يحس الرضا فى نفسه لجريمة تقع من إنسان عدو أو صديق ٬ فليثق بأن فى إيمانه علة خفية ٬ وليسع إلى الاستشفاء منها.

كذلك ليس من الإسلام أن تندفع فاضحا مشهرا بمن أخطأ.. مظهرا الشماتة به ٬ طالبا له النكال ٬ وكأنما تدرك ثأرا فاتك ٬ ومكنتك الأيام منه .!!

إن المرء قد يهتاج لمظلمة تنزل به٬ وقد يسره أن تقتص الأقدار من البغاة والجبابرة ولكن هذا أمر غير ما نحن بصدده..

إنما نعالج هنا نفوسا تندد بالشر لوقوعه من فلان٬ وتخرس عنه لوقوعه من فلان. وهى تحارب الخطأ بقسوة من الأول ٬ وتتغاضى عنه من الآخر ٬ أى أنها تحارب بعض الناس باسم الخير شفاء لضغنها٬ وتبسط اللسان فيه لا شتما شخصيا كما هو الواقع بل نقدا دينيا٬ وهذه هى الطامة..!!

إننا نثبت هذه الصور بين يدى بحث مفصل فى الغيبة ٬ ليعرف المسلم الحدود التى تحرم فيها قطعا ٬ والحدود التى تنفصل بها عن دائرة المحرم شرعا..

وسترى أن القصد المصاحب للعمل هو الفيصل المميز بين هذه وتلك. عن أبى هريرة قيل: يا رسول الله ما الغيبة؟ قال: ` ذكرك أخاك بما يكره ` قيل: أفرأيت إن كان فى أخى ما أقول؟ قال ` إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته ٬ وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته`.

إن ذكرك أخاك بما يكره جريمة٬ ضرب لها القرآن هذا المثل الشنيع : “أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه...”.

وذكر النبى صلى الله عليه وسلم هؤلاء المغتابين بما يكشف عن خبيئة الإثم فى أفئدتهم فقال : `لما عرج بى مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم فقلت : من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون فى أعراضهم`.

والحق أن تناول الناس بالسوء قد ينال من أقدارهم٬ بل ربما يدمر حاضرهم ومستقبلهم. فكلمة القدح قد تميت٬ كما أن كلمة المدح قد تحيى..!!

هب أن رجلا كبير القلب حى الضمير ألم بخطيئة ما...
إنك تزلزل قدمه فى طريق الخير حين تندد به. وتعطيه فرصة لتجديد حياته واستعادة ثباته إذا سترت عليه.

لذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: `من رأى عورة فسترها كان كمن أحيا موءودة `. إن الفضيلة الجريحة فى نفس مؤمن أزله الشيطان٬ تجد فى هذا الستر دواء تحيا عليه وتقوى وتنمو

أما إذا اطلع سوأتها رجل سليط أو خصم حسود فهو يحب أن ينكأ الجراح ولو اندملت حتى يوردها القبور.

وأدب الإسلام فى هذه الحالات أن ليس كل حق يقال.. فلا تذكر أخاك بخطيئة اقترفها٬ لا لأن الإسلام يريد بقاء الخطايا فى المجتمع٬ فإن هذا ما يستحيل أن يريده دين. بل لأن هذا أسلوب ناجح فى محاربة الإثم٬ وتخليص النفوس من أوضاره.. فكم من ستر أعان على متاب٬ ومكن من عصمة. 
والناس ليسوا سواء فى الإفادة من هذا العلاج. إن المدح قد يشجع رجلا على الكمال والإجادة ٬ وقد يقصم آخر بالغرور والتراجع! !
والإحسان يستعبد نفوسنا ويملكها٬ وقد يفسد نفوسا أخرى ويضر بها٬ حتى تفتك بمن أحسن إليها..

والكلمة التى لا يبالى بها عبد قد يرعد لها أنف الحر. ومن الناس من ترهبه فيشمس ويتمرد.. فإذا خفضت له جناحك وألنت له القول ملكت لسانه وقلبه..

وكثير من الناس إذا طويت معايبهم ونشرت محامدهم أخذت أحسن ما فيهم وسرت بهم إلى الخير. .

وذلك ما ينشده الإسلام حين يحرم الغيبة. وحين يشغل الناس بأنفسهم يصلحونها ٬ وبجماعتهم يعلون مكانتها ٬ وينفون عنها الريبة والفاحشة.

فإذا لم يكن بد فى سبيل الإيمان والإحسان من ذكر رجل أو قوم بما يكرهون ٬ فل يذكروا ولو طفحت نفوسهم بالأذى٬ مادام تناولهم بما فيهم ذريعة إلى غاية شريفة٬ وما دام هذا التناول محكوما بالحق الذى لا تزيد فيه ولا نقصان.

روى أبو داود تحت عنوان ` من ليست له غيبة `.
جاء أعرابى فأناخ راحلته ٬ ثم عقلها ٬ ثم دخل المسجد ٬ فصلى خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى الأعرابى راحلته فأطلقها ٬ ثم ركب ٬ ثم نادى :
اللهم ارحمنى ومحمدا ٬ ولا تشرك فى رحمتنا أحدا !!... 

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : `أتقولون : هو أضل أم بعيره؟ ألم تسمعوا إلى ما قال؟ ` قالوا: بلى..!

وترجمة أبى داود لهذه القصة بالعنوان الآنف جعلت كثيرا من العلماء يقسم الغيبة إلى قسمين: قسم محرم ٬ وهو ما يقوم على نهش الأعراض٬ وفضح الأخطاء لشهوة رديئة. وقسم مباح أو واجب٬ وهو ذكر الأغلاط لتنقية المجتمع منها..

فالمجرم الفار من القضاء إذا حوكم غيابيا فشرحت جنايته وكشفت سوأته ٬ وتكلم فيه بما وقع منه. فهذا فى نظرهم من الغيبة الجائزة. وقد عنى أولئك العلماء عناية بالغة بهذا الموضوع ٬ وألفت فيه رسائل شتى. ومنها ما كتبه الشوكانى : “رفع الريبة عما يجوز٬ وما لا يجوز من الغيبة” .

ونظم بعضهم على عادة القدماء مواطن الجواز فقال: القدح ليس بغيبة فى ستة متظلم٬ ومعرف٬ ومحذر، ولمظهر فسقا٬ ومستفت٬ ومن طلب الإعانة فى إزالة منكر... ورأيى أن الغيبة المحرمة شىء٬ والأمور التى أحصاها الأئمة شىء آخر ليس من قبيلها٬ ولا ينبغى أن يجمعها به عنوان واحد٬ وإن تشابهت الصورة العامة.

ألا ترى أن قتل الغيلة.. وقتل القصاص.. وقتل الجهاد ٬ يلتقى كله فى أنه إزهاق للروح؟ ومع ذلك فشتان بين قتل وقتل ؟ كذلك الوضع هنا.

إن حرب المظالم٬ وتغيير المناكر٬ وتحديد الفواصل بين الحق والباطل ٬ تقتضى أسلوبا ربما قسا على الأشرار قسوة لا تهتم بأشخاصهم قدر اهتمامها بعلاج ما يقع منهم.

ولا تتشهى النيل منهم قدر اهتمامها بإثبات المصلحة ومحو المفسدة.

وهذا المعنى نقيض ما هو ملحوظ فى الغيبة من رغبة فى الفضح والشماتة والتشفى٬ بل من رغبة فى بقاء الجريمة يصلى المجتمع نارها ٬ ويصلى صاحبها عارها فى وقت واحد!!.

قالوا : التظلم غيبة مباحة.

وأقول : إن ذكر الظالمين بآثامهم التى بعثت على الشكوى منهم ليس استثناء شاذا عن قاعدة٬ بل هو اطراد مع قاعدة أخرى. وعمل بنصوص لا ريب فيها ٬ تهدف إلى صيانة الأمة من البغى والعدوان : “لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعا عليما”.

وقالوا : المجاهر بفسقه لا غيبة فيه.

وأقول : بل إن تعريف الغيبة لا يشمله ابتداء ٬ فإن المرء الذى يفخر بمعاصيه ٬ ويصبح يكشف ستر الله عنه بعد ما أسبله عليه ٬ ويقول ذاكرا نفسه بمقابحها : فعلت كذا وكذا.. لا يسوءه أن يذكره الناس بما فيه ٬ بل قد يستحب ذلك منهم.

إلا أن ذكر هذا المجرم على سبيل التسلى والتلهى ليس بإيمان ولا إجمال..

فإن الواجب تتبعه بالنقد والصد ٬ وتناوله بالخصام والملام ٬ وإن الحملة على مثله دين!.

إحقاق الحق ٬ وإبطال الباطل ٬ وحماية المصلحين حتى يؤدوا رسالتهم ٬ وكبح المجرمين حتى تنحصر شرورهم ٬ وإنزال الناس منازلهم حتى يوضع كل امرئ موضعه الذى لا بخس فيه ولا شطط..

هذه جميعا من تعاليم الإسلام الأولى. وعليها تمهدت قاعدة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وأداء النصيحة وحفظ الأمانات ورعاية الحقوق ومنع الإضرار.

ومن ثم كان لا بد من المصارحة فى وزن الرجال حين يترتب على تقويم أشخاصهم حق عام أو خاص.

  • فإذا سألك ولى الفتاة عن خاطبها ٬ فاذكره بما تعرف فيه ٬ ففى مثل ذلك سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ٬ فقال عن معاوية صعلوك لا مال له.


  • وإذا سئلت عن مرشح لمنصب ما٬ فاذكره بما فيه٬ ولا تقل عدل فى مستور الحال٬ ولا جيد جدا فى إنسان متوسط المواهب مثلا.

وتعريف الرجال بما أوتوا وبما حرموا ليس أمرا مباحا فقط٬ بل هو من معالم التقوى ما دام القصد ألا ينخدع بهم ساذج٬ أو يقع فى شراكهم واهم.

وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فى أحد السفهاء : `بئس أخو العشيرة هو `! وقال: ` أظن .` فلانا وفلانا لا يعقلان من أمرنا هذا شيئا عن قاعدة٬ بل هو اطراد مع قاعدة أخرى. وعمل بنصوص لا ريب فيها ٬ تهدف إلى صيانة الأمة من البغى والعدوان : “لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان ا لله سميعا عليما”.

ولم تخف على علماء المسلمين هذه الحقيقة ٬ فقام علم الجرح والتعديل فى صميم الثقافة الإسلامية ٬ يتعرض لأقدار الرجال الذين ينقلون السنن٬ فيصف هذا بالصلاح٬ وهذا بالفسق٬ وهذا باليقظة٬ وذاك بالغفلة!.

بل إن تاريخ الأمم قاطبة تناول الحكام والقادة ٬ تناول الناقد الممحص ٬ فهاجم ودافع. وعظم وحقر. والقرآن الكريم ذكر الأمم المفرطة وما أسلفت من سيئات ٬ وكيف هوت بها مصارعها إلى أسفل سافلين.

والحكمة من هذه السياقات محض العبرة٬ تستخلص من وقائع لا تهمة فيها٬ وتقدم إلى الأخلاف٬ كيما يتعلموا وينتفعوا.

والغرض المنشود إحقاق الحق ٬ وإبطال الباطل ٬ بغض النظر عن الأشخاص وشئونهم الذاتية .

سئلت يوما عن ` فلان ` الزعيم الإسلامى الكبير ما رأيك فيه؟ فقلت: ليس بأديب ولا خطيب ولا شجاع ولا سياسى. وحظه من كتاب الله وسنة رسوله لا يرتفع به عن مستوى العامة. فقال لى أحد أتباعه: إنك تغتاب المسلمين!؟ فقلت: بل أعرف الناس بأقدارهم وأنزلهم حيث يستحقون. ولو قلت غير هذا لغششت أمة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.

إن التزييف فى النقود جريمة ٬ لأنك تروج النحاس بوصفه ذهبا. وأوغل من ذلك فى باب الإجرام أن تزور فى قيم الناس ٬ فتوهم تاجرا ما أن فلانا يصلح شريكا له ٬ وفلان هذا خائن ٬ أو توهم جماعة ما أن فلانا يصلح نائبا عنهم فى أحد المجالس ٬ وفلان هذا أعجز من أن ينوب عن نفسه بله عن غيره.

غاية ما يوصى الإسلام به تصحيح النية ٬ فإن كلمة التجريح ولو كانت صدقا ٬ إذا أملت بها شهوة الولوغ فى أعراض البشر والزراية عليهم ٬ فهى عند الله .ساقطة داحضة. أما إذا قصد بها دفع مضرة وحفظ مصلحة فلا حرج على قائلها

---------------------------------------
فصل من كتاب " من معالم الحق في كفاحنا الإسلامي الحديث " للشيخ محمد الغزالي ص 127-133 ، ط 4 دار نهضة مصر ، القاهرة ، 2005 م ، أعده للنشر / محمد جلال لاشين

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق