الثلاثاء، 2 أبريل 2013

د.عبدالمنعم أبوالفتوح يكتب عن:السياسة والأخلاق.. وحدة الضرورة




إذا كانت الأخلاق هى المعاملة المثلى مع الانسان من حيث كونه فردا مستقلا.. فإن السياسة هى المعاملة المثلى مع المجتمع من حيث كونهم افرادا مجتمعين.. وعلى قدر بساطة وبداهة هذين التعريفين تكون الدهشة من شهرة انفصالهما وتباعدهما حتى كاد الامر أن يصبح لا سياسة فى الاخلاق ولا اخلاق فى السياسة.. رغم ان الاثنين يتحركان فى نفس المجال من مجالات الشأن الانسانى وهو (التدبير) و(الرعاية) و(العناية).

الأخلاق والسياسة يؤلفان نظامين مختلفين بطبيعتهما لكنهما يندمجان ويترابطان فى منظومة عمل متبادل.. وإذا كانت السياسة هى وسائل قيادة الجماعة البشرية وتدبير شئونها لما يعتقد أنه خيرها ومنفعتها.. فالأخلاق هى مجموعة القيم والمثل الموجهة للسلوك البشرى نحو ما يعتقد أيضا أنه خير ومنفعة وتجنب ما ينظر إليه على أنه شر وكلاهما ــ السياسة والأخلاق ــ تستهدفان منح الناس رؤية تجعل لحياتهم هدفا ومعنى وقيمة..

ما من شىء يتصل بالانسان فكرا وسلوكا الا وله حمولة (اخلاقية).. هكذا هو الانسان كما ينبغى ان يكون ويتحرك.. واذا كانت بعض التجارب تشير الى ان الاخلاق قد لا تكون مربحة بالمعنى العام للكلمة.. ومن الممكن بالفعل تصور مواقف كثيرة يكون الظلم والكذب فيها هما المفيدان.. وفكرة الربح والمنفعة هذه دعت البعض لأن يقول إن (على السياسة أن تتصرف دوما كما لو أن البشر كانوا على الدوام خبثاء وأشرارا وأن القوة ضرورية لنجاح المشاريع السياسية).. لكن يظل ذلك خصما من (قيمة) الانسان.. وايضا خصما من رصيده الداخلى فى التوازن والانسجام والاحساس بالسعادة والرضا.

نعلم جميعا ان الفكر الدينى يسبق الفكر الاخلاقى.. وانه من حيث المبدأ لا توجد اخلاق بلا دين.. هناك نوع من الاخلاق الانسانية لكنها تخلو من العمق الانسانى الكامل فى الشعور بها وفى تصورها على النحو المستمد من حقيقة الخلود.. وهو التصور الذى يحتاجه الشعور الانسانى لمغالبة الحالة (النفعية) فى مجال حركة الانسان فى الحياة. فى الغرب ظهر ما يعرف بالاخلاق العلمانية التى تؤكد استقلالية الاخلاق عن الدين.. لكن التجربة التاريخية لم تؤكد هذه المقولة.. بل تم التنظير لهذه الاستقلالية على نحو ضار بالاخلاق وبالانسان على نحو ما قال فولتير فى رأيه الغريب المتناقض عن التضحية والمصلحة (التضحية بوازع من المصلحة الذاتية!!) أو ذاك الذى تساءل عن (اهمية الاخلاق) لتقدم المجتمع او للتطور الحضارى.؟!

يقولون ان الأخلاق لا تنجب الحق.. بل الحق هو الذى ينجب الأخلاق.. وهذا صحيح وحقيقى وتاريخى.

واذا كان الخير والشر هما (أخلاق) يخضعان لحكم العدل أو الظلم وهما (سياسة).. فان القول بأن السياسة تشتمل على الاخلاق.. يحتم وجود نظام كلى تكون الأخلاق النابعة من الحق مبدأه ومنتهاه وتكون السياسة مكونا من مكوناته.

السؤال الأهم الذى يطرح هنا يتمثل بوجود اتصال حقيقى ودائم وواقعى بين (الفضائل السياسية) و(الفضائل الأخلاقية) باعتبارها جميعا تنتمى إلى (كتلة مبادئ واحدة) اذا جاز هذا التوصيف. وتتلاقى فى نظام واحد.. فأحكم الناس ــ اكثرهم حكمة ــ هو أفضل الحكام والدولة المثلى هى تلك التى تستطيع ان ترافق بين السياسة والأخلاق.

وعلى هذا يمكن حل تناقض السياسة والأخلاق إذا ما تجاوزنا النظر من داخل العلاقات التى تربط إحداهما بالأخرى.

ومنع فهم الأمر بسيطرة لإحداهما على الأخرى.. بل انتماء كلتيهما وخضوعهما لنظام مشترك يشملهما ويتجاوزهما (أعلى منهما) أى أن الحل لن يوجد داخل عند اهل السياسة واهل الأخلاق بل فى واقع قادر على احتوائهما وتجاوزهما.. وهذا الواقع هو (حرية الاختيار) اساس التكليف الانسانى القائم على امتلاك العقل الذى يميز بين الاشياء.

المادة الأولى فى كل سياسة فى اى وقت وفى اى مكان.. هى (الحرية) وهى الحرية المتصلة اتصالا صحيحا بحريات الأخرى. وعلى كل نظام سياسى قائم أن يجابه أهم مطلب داخلى.. مطلب الحرية.. ولن يستمر ويستقر إلا إذا أرضى هذا المطلب.

 إن تغييب حريات البشر واستباحة حقوقهم هى المقدمة الاولى والخطوة الاولى.. لقتل بنيتهم الأخلاقية والإنسانية.. واهدار كل قيمة عليا فى نفوسهم.. ونشر سلوكيات الانانية والسلبية والايذاء والبغى.. وبالمقابل فان إرساء عقد اجتماعى على أسس التراضى والديمقراطية وسيادة القانون واحترام حقوق الانسان وكرامته.. يعتبر المناخ الأمثل لبناء علاقة صحية بين السياسة والأخلاق.. تضمن احتكام كليهما لنظام مشترك يحتويهما وربما يتجاوزهما ويرتقى بهما.

الاستيلاء على السلطة والاحتفاظ بها خدمة لمصالح فئة أو جماعة سياسية على حساب جموع الناس ورغما عنهم تقتضى استعمال ما يلزم من قهر واستبداد لفرض إرادة سياسية يروج لها على أنها الخير العام وتبدأ ماكينة الاكاذيب المتلاحقة (ومن منظور اخلاقى !!) فى اعادة صياغة التسميات والتوصيفات ليصبح كل معارض لهذا النظام أو ذاك أو مناهض لمصالح سادته شرا مطلقا.. لا يستحق الوجود وحتى الحياة.

الاستبداد يشوه ويمسخ كل المثل الخيرة والقيم الإنسانية كى يديم امتيازاته ويحمى مكاسبه ليعمم أخلاق الخنوع والذل والدجل والوشاية مسوغا أى شىء لحماية سلطانه والتصدى للمخاطر التى تهدده ومطلقا العنان للتحكم فى شئون الناس بلا خشية من عقاب أو حساب فتصبح حياة كل إنسان وكرامته رخيصة وسهلة المنال. الأمر الذى نبه إليه الكواكبى قبل أكثر من مائة عام فى نص لا يزال يحتفظ بحيويته ودفئه حتى اللحظة الراهنة: ( بأن الاستبداد يتصرف فى أكثر الأميال الطبيعية والأخلاق الحسنة، فيضعفها أو يفسدها.. هو يقلب القيم الأخلاقية رأسا على عقب ليغدو طالب الحق فاجر وتارك حقه مطيع، والمشتكى المتظلم مفسد، والنبيه المدقق ملحد، والخامل المسكين صالح أمين. ويصبح تسمية النصح فضولا والغيرة عداوة والشهامة عتوا، وأيضا يغدو النفاق سياسة والتحايل كياسة والدناءة لطف والنذالة دماثة، وأنه أى الاستبداد، يرغم حتى الأخيار من الناس على ألفة الرياء والنفاق، وأنه يعين الأشرار على إجراء غيِّ نفوسهم آمنين من كل تَبِعة، ولو أدبية، فلا اعتراض ولا انتقاد ولا افتضاح).

 لم يكن مفهوم السياسة فى معارفنا التراثية يحمل المعنى الذى درج الناس على معرفته والتعامل معه الان فقد كانت السياسة عند القدماء تمثل فى أصولها (المبدئية) معنى (السوس) للناس.. أى القيادة والارشاد والتوجيه.. لذا نجد أن معظم معارف التراث كانت تحمل مفاهيم تطبق فى (السياسة) هى اقرب (للاخلاق) وإصلاح النفس والحاكم وإصلاح المجتمع.. منها الى مفاهيم السياسة الحديثة المبنية على أسس ومناهج تميل الى تغليب المصلحة الخاصة للفرد او للحزب أو حتى للبلد.. وهو ما يشير بقوة وعمق الى الاصل الاخلاقى والقيمى فى حضارتنا للممارسة السياسة كيف كانت تفهم.. وكيف كانت تطبق..

للأسف هنالك من لا يزال يرى أن الحاجة الى الاخلاق فى ميدان السياسة انتفت وبطلت فى الواقع.. وأن السياسة علم مستقل بذاته أو انها منظومة من القواعد التى تنظم المصالح وتديرها تلتقى أو تبتعد عن الاخلاق بحسب دائرة النشاط ولوازمه وأن الاخلاق كقيم إنسانية مكانها جمهورية افلاطون الفاضلة التى (فوق) الواقع لا على الارض !! وأن لاولئك الذين يتنصلون عن التعهدات والاخلاق أسباب مبررة ولهذا التنصل عمق فى التأريخ وأصالة فى النفس البشرية..!! والحقيقة ان هناك اختلافا قديما فى مفهوم (الفضيلة) المتعلقة بالعمل السياسى.. او الحضور الاخلاقى فى الفعل السياسى بما يمنحه استقامة وخير وفضيلة.

بن رشد كتب عن (مدينة فاضلة مكانها ارض البشر) تقدما للامام بافكار افلاطون عن المدينة الفاضلة التى تحلق فى تصورات مثالية. لا من زاوية النموذج المثالى بل من زاوية النظر إلى الممكن الواقعى.. وصولا بالتدريج إلى تحول الممكن العقلى إلى واقع فعلى. (مدينة فاضلة ممكنة على الأرض).

الطريق المسدود الذى انتهى إليه أفلاطون (فتحه) بن رشد على مداه الرحب استنادا الى المفاهيم الاسلامية فى فهم (الثنائية النموذجية) المادى والغيبى.. البدنى والروحى.. الواقعى والمثالى. استنادا الى مفهوم من اروع المفاهيم الانسانية هومفهوم (الإرادة) على خلفية (الحكمة والبصيرة) المستمدة من الايمان.. لا على خلفية(الحتمية) التى تحكم (الظواهر الطبيعية). وهو ما نفهم منه معنى الحكمة.. بحقيقة أن الإنسان يتجه إلى الأشياء التى ينبغى أن يتجه إليها بالمقدار الذى يقدره العقل.. وفى الوقت الذى يعينه.

من المهم ان نشير الى ان فكرة الأخلاق فى الفعل السياسى ليست فقط حزمة القيم الشائعة عن الصدق والوفاء والشجاعة على أهمية هذه القيم وضرورتها فى العمل السياسى النظيف وإنما أيضا حقيقة المسافة بين الأقوال والأفعال وتلك العلاقة الشائكة بين الهدف السياسى والوسائل المفضية إليه..(الغاية والوسيلة)

ليس ثمة (غاية) مهما كانت مقدسة يمكن أن ترتفع فوق (حق) الإنسان ــ كل انسان ــ فى الحياة والحرية والكرامة.. خطأ كبير أن نحرر وسائل السياسة من معاييرها الأخلاقية ونقرنها فقط بما تسوغه المصالح والغايات.. وطنية أو طبقية أو طائفية.. مهما كانت عادلة أو مشروعة فالوسائل والغايات حلقتان مترابطتان وكل منهما شرط للأخرى وإنجاز الهدف العادل يتطلب صحة اختيار الوسائل التى تخدمه وتلائمه وبغير ذلك ستفضى الأمور إلى تشويه الهدف وهزيمة أصحابه فى نهاية المطاف. ناهيك عن بؤس التجربة فى سياقها الانسانى والتاريخى. لا يصعب كثيرا تكامل (الغاية والوسيلة) فى تفاعل متبادل ترعاه أجواء الحق والفضيلة.

من المهم ايضا ان نشير الى الأخلاق فى السياسه لا يمكن أن تنمو وتتحقق فى مناخات القهر والتطرف والعنف أو مع غياب حقوق المواطنة والعدالة والمساواة والمشاركة وهو ما يجعل الديمقراطية (على كل ما فيها من عيوب!) الخيار الوحيد لإرساء قواعد سلوك سياسى تنظمه القيم الأخلاقية فى مواجهة العنف والتنكيل والقتل لحسم صراع المصالح السياسية.. إرساء عقد اجتماعى على أسس الديمقراطية وسيادة القانون واحترام حقوق الإنسان يعتبر المناخ الأمثل لبناء علاقة صحية بين السياسية والأخلاق تضمن احتكام كليهما لنظام مشترك يحتويهما وربما يتجاوزهما.

المنطق القائل بـ (قهر الشر) لا يمكن أن يتم إلا بأساليب الشر ذاتها.. وأن أى ممارسة هى (فعل) مسموح ومباح طالما يقود إلى تحقيق الغايات والاهداف.. هو منطق ضد الانسان وضد الحياة ذاتها بحاضرها ومستقبلها.

عالمنا الآن يملك من فرص النجاح الكثير والكثير.. لإجبار الخصم على الامتثال للقواعد الأخلاقية والقانونية وإكراهه على تنحية وسائل (الشر) وهو ما يستدعى منا مزيدا من الصبر والمثابرة لربح معركة السياسة لصالح الأخلاق.

وختاما أؤكد على عدة نقاط:

• الأخلاق هى مدار الحديث الاوسع فى مجال كل الاديان.. الاسلام اخر الاديان جاء ليتمم مكارم الاخلاق.. كما جاء فى الحديث الشريف.. ووصاياه تنص على ان الدين هو الخلق فمن زاد فى الخلق زاد فى الدين ومن نقص فى الخلق نقص فى الدين.

• اقامة الاخلاق على اساس عقلى يحولها الى قواعد سلوكية مجردة.. الباعث الاخلاقى بالاساس هو باعث روحى وهو ما يؤكد مقولة "إن الاخلاق دين تحول الى سلوك".

• التعارض بين الاخلاق والمصالح.. تعارض وهمى فراغى.. لايشير الا الى سلوكيات خارجة من نزعات الطمع والشره والبغى والاعتداء. الخبرة الانسانية فى المجال الاخلاقى تناقض ذلك.

• ثقافة (كل انسان سوف يستغل غيره ما استطاع حتى توقفه القوة) يمحوها الدين بثقافة (لا يؤمن احدكم حتى يحب لاخيه ما يحبه لنفسه). وهو تأكيد للفيض الاخلاقى فى سلوك البشر حين يحتويهم الدين. وانقسام الحظوظ بين الناس ليس وسيلة لاستقلالهم او استغلالهم بعضهم بعضا بل وسيلة لتعويل احدهما على الاخر.. واهمية احتياجهما بعضهما بعضا.

• الغرب فشل فى ضبط معالم العلاقة بين السلطة والحرية، بين الاخلاق والسياسة فخرج بذلك السلوك الانسانى من دائرة الالتزام الى دائرة (ليفعل الانسان مايريد) طالما لم يهدد أحد.. المخزون الحضارى الغربى فى تلك العلاقة سيئ.. وروافده الفكرية والثقافية لازالت تعمل فيما ينتجه الغرب من تصورات حول هذه العلاقة.

• ان الفصل بين ما هو سياسى وما هو اخلاقى لا يؤدى الى انتاج العنف فقط بل الى تقويض اركان المجتمع الانسانى.. وكما قال المفكر الجزائرى مالك بن نبى رحمه الله: اذا كان العلم دون ضمير خراب الروح فان السياسة بلا اخلاق خراب الانسانية.

 ميكيافيللى صاحب الاسم العلم على فصل الاخلاق عن السياسة وصف كتابه (الامير) بانه (نزعة هوى).. وانه ما كان يقصد الا لازاحة شرار الامراء الذين يمنعون توحيد ايطاليا.. ومن ازاحهم بما وسعه من وسيلة فلا جناح عليه.. وقال ان الاستناد الى الشعب أضمن لصيانة الحرية من الاستبداد.. وأن وفاء الشعوب اوثق من وفاء الملوك.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق