السبت، 20 أبريل 2013

من مقدمة بن خلدون عن كيفية التعامل مع الأخبار

ولما كان الكذب متطرقاً للخبر بطبعته وله أسباب تقتضيه، فمنها:
  • التشيعات للآراء والمذاهب.. فإن النفس إذا كانت على حال الاعتدال في قبول الخبر، أعطته حقه من التمحيص والنظر حتى تتبين صدقه من كذبه، وإذا خامرها تشيع لرأي أونحلة قبلت ما يوافقها من الأخبار لأول وهلة. وكان ذلك الميل والتشيع غطاء على عين بصيرتها عن الانتقاد والتمحيص فتقع في قبول الكذب ونقله.
  • ومن الأسباب المقتضية للكذب في الأخبار أيضاً الثقة بالناقلين...  وتمحيص ذلك يرجع إلى التعديل والتجريح.
  • ومنها الذهول عن المقاصد... فكثير من الناقلين لا يعرف القصد بما عاين أوسمع وينقل الخبر على ما في ظنه وتخمينه فيقع في الكذب. 
  • ومنها توهم الصدق... وهوكثير وإنما يجيء في الأكثر من جهة الثقة بالناقلين.
  • ومنها الجهل بتطبيق الأحوال على الوقائع لأجل ما يداخلها من التلبيس والتصنع فينقلها المخبر كما رآها وهي بالتصنع على غير الحق في نفسه.
  • ومنها تقرب الناس في الأكثر لأصحاب التجلة (الإجلال) والمراتب بالثناء والمدح وتحسين الأحوال وإشاعة الذكر بذلك فيستفيض الإخبار بها على غير حقيقة، فالنفوس مولعة بحب الثناء والناس متطلعون إلى الدنيا وأسبابها من جاه أوثروة وليسوا في الأكثر براغبين في الفصائل ولا متنافسين في أهلها.

  • ومن الأسباب المقتضية له أيضاً وهي سابقة على جميع ما تقدم الجهل بطبائع الأحوال في العمران، فإن كل حادث من الحوادث ذاتاً كان أوفعلاً لا بد له من طبيعة تخصه في ذاته وفيما يعرض له من أحواله، فإذا كان السامع عارفاً بطبائع الحوادث والأحوال في الوجود ومقتضياتها أعانه ذلك في تمحيص الخبر، على تمييز الصدق من الكذب، وهذا أبلغ في التمحيص من كل وجه يعرض، وكثيراً ما يعرض للسامعين قبول الأخبار المستحيلة وينقلونها وتؤثرعنهم. 
ولقد عد أهل النظر من المطاعن في الخبر استحالة مدلول اللفظ وتأويله بما لا يقبله العقل، وإنما كان التعديل والتجريح هوالمعتبر في صحة الأخبار الشرعية لأن معظمها تكاليف إنشائية أوجب الشارع العمل بها حتى حصل الظن بصدقها وسبيل صحة الظن الثقة بالرواة بالعدالة والضبط.

وأما الأخبار عن الواقعات فلا بد في صدقها وصحتها من اعتبار المطابقة، فلذلك وجب أن ينظر في إمكان وقوعه وصار فيها ذلك أهم من التعديل ومقدماً عليه، إذ فائدة الإنشاء مقتبسة منه فقط، وفائدة الخبر منه ومن الخارج بالمطابقة، وإذا كان ذلك فالقانون في تمييز الحق من الباطل في الأخبار بالإمكان، والاستحالة أن ننظر في الاجتماع البشري الذي هوالعمران ونميز ما يلحقه من الأحوال لذاته وبمقتضى طبعه وما يكون عارضاً لا يعتد به وما لا يمكن أن يعرض له.

وإذا فعلنا ذلك كان ذلك لنا قانوناً في تمييز الحق من الباطل في الأخبار والصدق من الكذب بوجه برهاني لا مدخل للشك فيه، وحينئذ فإذا سمعنا عن شيىء من الأحوال الواقعة في العمران علمنا ما نحكم بقبوله مما نحكم بتزييفه، وكان ذلك لنا معياراً صحيحاً يتحرى به المؤرخون طريق الصدق والصواب فيما ينقلونه، وهذا هوغرض هذا الكتاب الأول من تأليفنا وكأن هذا علم مستقل بنفسه فإنه ذوموضوع وهوالعمران البشري والاجتماع الإنساني وذومسائل وهي بيان ما يلحقه من العوارض والأحوال لذاته واحدة بعد أخرى وهذا شأن كل علم من العلوم وضعياً كان أوعقلياً. 

وإعلم أن الكلام في هذا الغرض مستحدث الصنعة غريب النزعة عزيز الفائدة اعثر عليه البحث وأدى إليه الغوص وليس من علم الخطابة، إنما هوالأقوال المقنعة النافعة في استمالة الجمهور إلى رأي أوصدهم عنه، ولا هوأيضاً من علم السياسة المدنية، إذ السياسة المدنية هي تدبير المنزل أوالمدينة بما يجب بمقتضى الأخلاق والحكمة ليحمل الجمهور على منهاج يكون فيه حفظ النوع وبقاؤه، فقد خالف موضوعه موضوع هذين الفنين اللذين ربما يشبهانه وكأنه علم مسنبط النشأة ولعمري لم أقف على الكلام في منحاه لأحد من الخليقة، ما أدري ألغفلتهم عن ذلك وليس الظن بهم، أولعلهم كتبوا في هذا الغرض واستوفوه ولم يصل إلينا فالعلوم كثيرة والحكماء في أمم النوع الانساني متعددون، وما لم يصل إلينا من العلوم أكثر مما وصل.. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق